إلا شيئًا طَيِّبًا!! وهذا خالقُ السماواتِ والأرضِ، الْمَلِكُ الجبارُ، يُخْبِرُهُمْ في آياتِ كتابِه، لاَ تكادُ تَقْلِبُ ورقةً واحدةً من أوراقِ المصحفِ الكريمِ إلا وجدتَ فيها هذا الواعظَ الأكبرَ والزاجرَ الأعظمَ ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ﴾ ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا﴾ الآيات [الأنعام: آية ٥٩] ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق: آية ١٦] ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ [البقرة: آية ٢٣٥] ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يونس: آية ٦١] فَيَنْبَغِي علينَا جميعًا أن نعتبرَ بهذا الزاجرِ الأكبرِ، والواعظِ الأعظمِ، وأن لا نَتَنَاسَاهُ؛ لئلاَّ نُهْلِكَ أنفسَنا، ونعتقدَ أَنَّا لو كُنَّا في حضرةِ مَلِكٍ جَبَّارٍ من ملوكِ الدنيا يموتُ ويأكلُه الدودُ، أَنَّا بحضرتِه وملاقاتِه لا يُمْكِنُنَا أن نفعلَ إلا شيئًا يَسُرُّهُ وَيُرْضِيهِ، فعلينا أن نعلمَ أننا بينَ يَدَيْ مَلِكِ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا)، وأنه أعظمُ بطشًا وأفظعُ نكالاً إِنِ انْتُهِكَتْ حرماتُه، وأنه عَالِمٌ بِكُلِّ ما نُسِرُّ وما نُعْلِنُ، فعلينا أن نعتبرَ هذا لنتعظَ، فقد بَيَّنَ النبيُّ - ﷺ - في حديثِ جبريلَ المشهورِ (١) (... ) (٢) أن جبريلَ أَرَادَ أن يُبَيِّنَ هذا الواعظَ الأكبرَ، والزاجرَ الأعظمَ لأصحابِ النبيِّ - ﷺ - لَمَّا لَمْ يَنْتَبِهُوا له.
وإيضاحُ ذلك: أن الله بَيَّنَ لنا في آياتٍ من كتابِه أن الحكمةَ التي خَلَقَ من أَجْلِهَا الخلقَ والسماواتِ والأرضَ، وخلقَ مِنْ أَجْلِهَا الموتَ والحياةَ، هي أن يَبْتَلِيَ خَلْقَهُ، أي: يختبرهم بنقطةٍ واحدةٍ، هي نقطةُ العملِ، مَنْ يُحْسِنُ عملَه فيأتِي به حَسَنًا كما يَنْبَغِي، وَمَنْ لاَ يُحْسِنُهُ؛
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة البقرة.
(٢) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، والكلام مستقيم بدونها.
هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}.
﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم﴾ ذلك التحريم والتضييق جزيناهم بسبب بغيهم، أي: كفرهم وظُلْمِهم وعُدْوانِهِمْ، كما بَيَّنَهُ بقوله: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: الآيتان ١٥٦، ١٥٧]، وقوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: الآيتان ١٦٠، ١٦١] وكقوله: ﴿وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ﴾ [النساء: الآية ١٥٥]، وقوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: الآية ٢١] هذا الظلم والبغي حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بسببه بعض ما كان حلالاً عليهم، كما قال هنا: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ﴾.
وفي إعراب (ذلك) وجهان معروفان (١):
أحدهما: أنها في محل رفع، الأمر ذلك الذي قصصنا عليك جَزَيْنَاهُمْ ذلك الجزاء ببغيهم.
الثاني: أنها في مَحلِّ نَصْبٍ بِمَصْدَرٍ، أي: جزيناهم ذلك الجزاء، وهذا الإعراب اختاره غير واحدٍ، ولكن ابن مالك قال: إن اسم الإشارة لا يكون منصوباً على المصدر إلا إذا ذُكر بعده المصدر، كأن تقول: قمت هذا القيام، وقعدت ذلك القعود. أما لو لم تَذكر بعده المصدر كأن قلت: قمت هذا، تعني: القيام، أو جلست هذا،
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٤٥)، الدر المصون (٥/ ٢٠٧).
ولم تَزَلْ مستحكمةً مستفحلةً أيامَ المأمونِ، وأيامَ المعتصمِ، وأيامَ الواثقِ بِاللَّهِ، ثم أَزَالَ اللَّهُ المحنةَ على يدِ المتوكلِ على اللَّهِ جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وقد ذَكَرْنَا مرارًا (١) أن أولَ مصدرٍ لكبحِ هذه الفتنةِ وَجِمَاحِهَا في أيامِ الواثقِ قضيةُ الشيخِ الشاميِّ، وهو عبدُ اللَّهِ بنُ محمدٍ الأذرميُّ في قصتِه المشهورةِ؛ لأن العلماءَ عُذِّبُوا في القولِ بِخَلْقِ القرآنِ، وَامْتُحِنُوا غايةَ الامتحانِ. وكانوا وقتَ المناظراتِ مِمَّا يستدلونَ به آيةُ الأعرافِ هذه، فيقولونَ: اللَّهُ جعلَ الخلقَ على حِدَةٍ والأمرَ على حِدَةٍ، والأمرَ في القرآن؛ لأن أمرَه بكلامِه فكلامُه غيرُ داخلٍ في خَلْقِهِ. وهم صَادِقُونَ، ومناقشاتُ الذين يُجَادِلُونَهُمْ معروفةٌ. وكان حاملُ رايةِ تلكَ المحنةِ: أحمدَ بنَ أَبِي دؤاد الإياديَّ جَازَاهُ اللَّهُ بما هو أَهْلُهُ. وقد قُتِلَ فيها كثيرٌ من العلماءِ، وَامْتُحِنَ خَلْقٌ من العلماءِ، وَدَاهَنَ كثيرٌ منهم، وَضُرِبَ أيامَ المعتصمِ بالله في محنةِ القولِ بالقرآنِ سيدُ المسلمين في زمانِه: الإمامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أحمدُ بنُ محمدِ بنِ حنبلٍ - تَغَمَّدَهُ اللَّهُ برحمته، وَجَزَاهُ عن الإسلامِ والمسلمين خَيْرًا - ضُرب أيام الواثق، لم يزل يُضْرَب حتى يُرْفَعَ من محلِّ الضربِ لا يدري ليلاً من نهارٍ، غائبَ العقلِ من شدةِ الضربِ المبرحِ الأليمِ!! وإذا أَفَاقَ يقولونَ له: قُلِ القرآنُ مخلوقٌ. يقول: لاَ وَاللَّهِ، القرآنُ كلامُ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ، صفةُ اللَّهِ، منه بَدَأَ وإليه يعودُ، لا أقولُ مخلوقٌ. وذكروا أن ذلك الشيخَ الشاميَّ هو أولُ مَنْ يَسَّرَ اللَّهُ على يديه خمودَ القولِ بمحنةِ القرآنِ، وأن الواثقَ بالله لم يَمْتَحِنْ بعدَه أحدًا.
وقد ذَكَرَ الخطيبُ في
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٤٤) من سورة الأنعام.
الجميع عندما أراد إيجادَهُ، وَسَنُلِمّ ببعض الأطراف من هذا ليظهر للناس خِزْيُ فَلْسَفَة هؤلاء المتفلْسِفين الكفرة الفجرة ومن قَلَّدَهُم من الخفافيش التي أعمت أنوار القرآن أبصارها.

خَفَافيشُ أعماها النهارُ بضَوئِهِ ووافَقَهَا قِطْعٌ من الليلِ مُظْلمُ (١)
يقولون مثلاً: لِمَ كان الطلاق بيد الرجل؟ ولِمَ لمْ يؤخذ رأي المرأة فيه؟ وهذا ظلم من شرع الإسلام للمرأة؛ لأن ابتداء العقد أولاً لمْ يقع حتى أُخذ رأيها فيه وأُخذ رأيهما معًا، فمن أين أعطى الاستقالة للرجل وحده دون إذنها؟ ويُفلسفون هذه الفلسفات.
ونحن نقول: إنَّ كون الطلاق بيد الرجل هو الأمر المعقول الذي يشهد له الحس والفطرة والشرع، والنَّشْأَةُ الأولى؛ لأنَّ من خلق الرجل وخلق المرأة -هو خالق هذا الكون، وهو أعلم بحقائقه وما يُصْلِحُ كُلاً منه- صرح في محكم كتابه- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- أن النساء حروث ومزارع، قال تعالى في محكم كتابه: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ [البقرة: آية ٢٢٣] ولو حاول الإفرنج ما حاولوا أن يكذبوا قوله: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ لمْ يقدروا على كل حال؛ لأنه قول من خلق الجميع وفعلُه وكونُه وقدرُه لا يمكن أحد أن ينفيه؛ لأن الرجل لمْ يكن في بطنه رحم يتربى فيها الولد، والنطفة المشاهدة أن تبذر في بطن المرأة، وأن تتربى فيها كما يتربى البذر في الأرض حتى يحصد تامًّا، هذا أمر مشاهد يشهده الحس والعقل، لا يمكن المكابر أن ينكره: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ ومعلوم أن الحارث المزدرع فاعل، وأن
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
الثالثةُ: الملائكةُ الذين نَزَلُوا بِنَبِيِّنَا ﷺ يومَ دَخَلَ في الغارِ هو وصاحبُه، وسيأتِي بَسْطُ قِصَّتِهِمْ - إن شاء الله - في هذه السورةِ الكريمةِ سورةِ براءةٍ، وذلك في قولِه: ﴿إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾ [التوبة: آية ٤٠] فَفِي هذه المواضعِ الثلاثةِ كُلِّهَا يقيدُ بـ (لَمْ تَرَوْهَا)، (لَمْ تَرَوْهَا) لأنه يُنْزِلُ ملائكةً لاَ يراهم بنو آدمَ؛ لأنهم ليسوا من شَكْلِهِمْ ولا من جِنْسِهِمْ حتى يَرَوْهُمْ.
وفي الموضعِ الرابعِ لم يُقَيِّدْ بقولِه: (لَمْ تَرَوْهُمْ) وهو الملائكةُ النازلونَ يومَ بدرٍ، المذكورونَ في الأنفالِ وآلِ عمرانَ، حيث قال اللَّهُ في الأنفالِ: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرَّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ﴾ الآية [الأنفال: آية ١٣]. وَذَكَرَهُمْ أيضًا في سورةِ آلِ عمرانَ في قولِه: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ... ﴾ إلى قولِه: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤)﴾ [آل عمران: الآيتان ١٢٣، ١٢٤] وقد قَدَّمْنَا في سورةِ الأنفالِ (١)
أن أَظْهَرَ الأقوالِ أن الملائكةَ قَاتَلَتْ يومَ بدرٍ، وأنها لم تُقَاتِلْ في غيرِها بل تأتِي لِتَجْبِينِ الكفارِ وتقويةِ قلوبِ المؤمنينَ وَنُصْرَتِهِمْ، هذا هو الظاهرُ، وقد ذَكَرَ (جل وعلا) فَرْقًا شَاسِعًا بَيْنَ مَنْ يَفِرُّ في غزوةِ بدرٍ وَمَنْ فَرَّ في غيرِها؛ لأنه شَدَّدَ غايةَ التشديدِ فيمن يَفِرُّ فِي غزوةِ بَدْرٍ كما تَقَدَّمَ في قولِه: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ﴾ [الأنفال: آية ١٦] بهذا التشديدِ العظيمِ، ولم يَقُلْ مثلَ هذا فِيمَنِ انهزمَ من الصحابةِ يومَ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩) من سورة الأنفال..


الصفحة التالية
Icon