وَلِذَا قال في أولِ سورةِ هودٍ: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ ثم بَيَّنَ الحكمةَ والعلةَ الغائيةَ قال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [هود: آية ٧] ولم يَقُلْ: أَيُّكُمْ أكثرُ عملاً، وقال في أولِ سورةِ الكهفِ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا﴾ ثم بَيَّنَ الحكمةَ في ذلك قال: ﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الكهف: آية ٧] وقال في أولِ سورةِ الْمُلْكِ: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ الحكمةَ فقال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الملك: آية ٢] ولم يَقُلْ: أكثرُ عملاً، فَدَلَّتْ هذه الآياتُ القرآنيةُ أَنَّا خُلِقْنَا لِنُخْتَبَرَ وَنُبْتَلَى في شيءٍ هو إحسانُ العملِ، وَلاَ شَكَّ أن العاقلَ يقولُ: إذا كان رَبِّي (جل وعلا) خَلَقَ الخلائقَ والسماواتِ والأرضَ والموتَ والحياةَ؛ لأجلِ الابتلاءِ في إحسانِ العملِ، يا لَيْتَنِي عَرَفْتُ الطريقَ إلى إحسانِ العملِ لأَنْجَحَ بهذا الاختبارِ.
وجاء جبريلُ يُبَيِّنُ هذا المغزَى الأكبرَ والمقصدَ الأعظمَ لأصحابِ النبيِّ - ﷺ - حيث قال للنبيِّ - ﷺ -: يَا مُحَمَّدُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) أَخْبِرْنِي عن الإحسانِ - المعنَى الذي خُلِقَ الخلقُ لأجلِ الاختبارِ فيه - فَبَيَّنَ النبيُّ - ﷺ - أنه لا طريقَ إلى الإحسانِ الذي خُلِقْنَا من أجلِه إلا باعتبارِ هذا الزاجرِ الأكبرِ والواعظِ الأعظمِ، وهو مراقبةُ خالقِ السماواتِ والأرضِ، والعلمُ بأنه رَقِيبٌ، عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ؛ ولذا قال له: «الإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». ولاَ شَكَّ أن مَنْ عَبَدَ اللَّهَ كأنه يَرَى اللَّهَ، وإذا تَنَزَّلَ فقال: لا أَرَى اللَّهَ، فهو عَالِمٌ أن اللَّهَ يَرَاهُ، مُطَّلِعٌ عليه، من كان يعملُ أمامَ الملكِ الجبارِ، وهو مطلعٌ عليه، ناظرٌ إليه، لا يمكنُ أن يسيءَ العملَ، فلا بُدَّ أن يحسنَ العملَ {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا
تعني: الجلوس، يزعم ابن مالك أن هذا لا يجوز (١). وقال بعض العلماء: هي مفعول أول لـ (جزيناهم)؛ لأن (جزى) تتعدى لمفعولين، تقول: جزيت عمراً خَيْراً، وجزيته شرّاً، فتكون (ذلك) أحد مفعولي (جزى)، أي: جَزَيْنَاهُمْ ذلك الجزاء بِبَغْيهِمْ، فتكون مفعولاً به مقدَّماً، وعليه فلا إشكال.
والبغي: أصله الإرادة (٢)، وكثيراً ما يستعمل في إرادة الظّلم.
وقوله: ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ صيغة الجمع للتعظيم، والله يقول: إني لصادق. معظماً نفسه، ومعلوم أن الله صادق على كل حال ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً﴾ [النساء: الآية ١٢٢]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً﴾ [النساء: الآية ٨٧]. والسبب في هذا أن اليهُودَ زعَمُوا أن هذا الذي حُرِّمَ عليهم لم يكن جزاءً ولا عُقُوبَة، بل إنما كان حَرَاماً على إسرائيل، حَرّمَه إسرائيل على نفسه فاقتدوا به (٣)، وقد تقدم أن الله أكذبهم في هذه الدعوى وألقمهم فيها حجراً في سورة آل عمران، في قوله: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٩٣)﴾ [آل عمران: الآية ٩٣] فلما أفحمهم وقال: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ خجلوا ولم يأتوا بالتوراة، وعلموا أن القرآن مهيمنٌ على الكتب، كما قال: ﴿وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ [المائدة: الآية ٤٨] ولذا قال هنا: ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ فِيما ذَكَرْنَا مِنْ أنَّا حَرَّمْنَا عليهم ذلك لظلمهم، لا أنه حَرَّمَهُ إسْرَائِيل على نفْسِه،
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٤٥)، الدر المصون (٥/ ٢٠٨).
(٢) انظر: المفردات (مادة: بغى) ١٣٦.
(٣) انظر: ابن جرير (١٢/ ٢٠٦).
تاريخِ بغدادَ وغيرِه روايتَه، وذكر ابنُ كثيرٍ في تاريخِه أن السندَ الذي ذَكَرَهَا به الخطيبُ فيه مَنْ لاَ يُعرف (١). إلا أن القصةَ مشهورةٌ معروفةٌ، لم يَزَلِ العلماءُ يستدلونَ بها قديمًا وحديثًا، والاستدلالُ بها صحيحٌ لاَ شَكَّ فيه، ودليلُها الصحيحُ الذي اسْتَدَلَّ به هو المعروفُ في الأصولِ بـ (السَّبْرِ والتقسيمِ) وفي علومِ الجدلِ بـ (التقسيمِ والترديدِ) وفي علومِ المنطقِ بـ (الشرطيِّ المنفصلِ) وحاصلُه أن القصةَ التي ذَكَرَهَا الخطيبُ في تاريخِ بغدادَ ذَكَرَهَا من طريقِ محمدِ بنِ الواثقِ قال: كان أبي إذا أَرَادَ أن يقتلَ أحدًا أَحْضَرَنِي، وَجِيءَ بشيخٍ من الشامِ مكبَّلاً بالحديدِ، وهو عبدُ اللَّهِ بنُ محمدٍ الأَذْرَميُّ - رحمه الله - شيخُ أبي داودَ والنسائيِّ، جِيءَ به مُكَبَّلاً بالحديدِ يريدونَ أن يقتلوه إن لم يَقُلْ إن القرآنَ مخلوقٌ. قال محمدُ بنُ الواثقِ: فأحضرني أبي فَجِيءَ بذلك الشيخِ مُكَبَّلاً بالحديدِ، فقال للواثقِ: السلامُ عليكَ يا أميرَ المؤمنين.
فقال له الواثقُ بالله: لاَ سَلَّمَكَ اللَّهُ.
فقال الشيخُ: بِئْسَ مَا أَدَّبَكَ مُؤَدِّبُكَ يا أميرَ المؤمنين!! اللَّهُ يقولُ: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: آية ٨٦] وَاللَّهِ مَا حَيَّيْتَ بأحسنَ منها ولا رَدَدْتَهَا.
فقال الواثقُ: ائذنوا لأبي عبدِ اللَّهِ. يعني أحمدَ بنَ أبِي دؤادَ - جازاه اللَّهُ بما هو أهلُه - فحضر ابنُ أبي دؤاد، فقال له الواثقُ: نَاظِرْ هذا الرجلَ (في بعضِ رواياتِ القصةِ أن ذلك الشيخَ الشاميَّ المكبلَ بالحديدِ قال: ابنُ أَبِي دؤاد أحقرُ وأصغرُ من أن يُنَاظِرَنِي).
_________
(١) السابق.
الحقل المزروع مفعول به بطبيعة الحال وحقيقة الأمر الواقع المحسوس الذي لا يمكن أن ينكره المكابر. ومما يوضح هذا: أن آلة الازدراع -آلة التناسل- هي مع الرجل، فلو قلنا كما يقوله الإفرنج: إنه لا يتركها إلاَّ برضاها، وأن ترضى مفارقته إيَّاها، وصار مكرهًا عليها لا يريدها، فهو زارع مُرْغَم على حقل لا يريد الزراعة فيه، فإنها لو أرادت أن تجامعه لتحصل منه على ولد فأنا أؤكد لكم أنها لا تقدر، ولا ينتشر ذكره، ولا يقوم إليها، ولا تقدر أن تأخذ البذر منه بحال من الأحوال، بخلاف الرجل الذي هو بطبيعة الحال فاعل، والذي هو زارع ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: آية ٢٢٣] فإنه قد يُحبلها وهي كارهة، فتكون في أشدّ التمنع والكراهة ويُرغمها ويقهرها فتحمل. وقد كان العرب يقولون: إن المرأة التي حملت وهي مكرهة على الغَشيان أن ولدها لا يطاق أبدًا، وهو أمر معروف عندهم مشاهد، ومنه قول أبي كبير الهذلي يصف رجلاً لا يطاق؛ لأن أُمَّه حملته شادَّة حزامها ونطاقها غير راضية بالمسيس (١):
ممنْ حَمَلْنَ به وهُنَّ عواقدٌ | حُبكَ النِّطاقِ فَشَبَّ غير مُهبَّل |
حملتْ به في ليلةٍ مَزْؤودَةٍ | كَرْهًا وعَقْدُ نطاقها لم يُحْللِ |
وكذلك زعمهم أن تفضيل الرجل على الأنثى في الميراث أنه
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة الأعراف.
أُحُدٍ، ولا فيمن انْهَزَمَ منهم يومَ حُنَيْنٍ؛ لأن بعضَ الصحابةِ انْهَزَمُوا يومَ أُحُدٍ، وبعضُهم لم يرجعوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ ثم قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [آل عمران: آية ١٥٥] ثم قال هنا: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ [التوبة: آية ٢٧] فَأَشَارَ إلى أنه تَابَ عليهم من هزيمتِهم.
وهذا معنَى قولِه: ﴿وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهم هوازنُ، عَذَّبَهُمْ بأيدِي المؤمنينَ حيث قَتَلُوهُمْ قَتْلاً وَجِيعًا وَأَسَرُوهُمْ وَأَخَذُوا أولادَهم ونساءَهم وأموالَهم مِصْدَاقًا لقولِه: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (١٤)﴾ [التوبة: آية ١٤] ﴿وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الذين كانوا يقاتلونَ النبيَّ وأصحابَه كهوازنَ ﴿وَذَلِكَ﴾ العذابُ ﴿جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: آية ٢٦] ثم اللَّهُ تعالى قال: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ [التوبة: آية ٢٧] قال بعضُ العلماءِ: ﴿يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ يدخلُ فيه المنهزمونَ الذين انهزموا عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَنْ رَجَعَ منهم وَكَرَّ ومَنْ لَمْ يَرْجِعْ. قالوا: ويدخل فيه الكافرونَ الذين قال اللَّهُ: ﴿وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [التوبة: آية ٢٦] لأَنَّ كثيرًا منهم تَابُوا فَتَابَ اللَّهُ عليهم. وقد كان رئيسُ هوازنَ مالكُ بنُ عوفٍ (رضي الله عنه) أَسْلَمَ وكان من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لَمَّا انْهَزَمَتْ هوازنُ رَاحَ مع فَلِّ الطائفِ - والفَلُّ هو بقيةُ الْمُنْهَزِمِينَ - وَتَحَصَّنَ بحصنِ الطائفِ، فَأَرْسَلَ إليه النبيُّ ﷺ سِرًّا: أنه إِنْ قَدِمَ إليه رَدَّ إليه أهلَه وولدَه وأعطاه. فَخَافَ إن أَعْلَمَ ثَقِيفًا بذلك أن يَمْنَعُوهُ، فأمر أن يُرْحَلَ جَمَلُهُ في مَحَلٍّ عَيَّنَهُ لهم،