قال بعضُ العلماءِ (١): (المِفْتَح) أفصحُ من (المِفتاحِ). والذين قالوا: إن (المفاتح) جمعُ (مفتاح)، وأنها قُصِرَتْ، وأن القياسَ (المفاتيح)؛ لأن المفردَ (مفتاح) إلا أنها قُصِرَتْ، كما قالوا في القطرِ: قَوَاطِر، وقالوا في المحرابِ: محارِب، هذا لا يُحْتَاجُ إليه؛ لأن (المفتاحَ) فيه لغةٌ فصيحةٌ هي (المِفْتَح) بلا أَلِفٍ. وعليها فتكونُ (مفاتح) جَمْعًا لـ (المفتاح) قِيَاسِيًّا. وعلى كُلِّ التَّقْدِيرَيْنِ فالمعنَى: إنما خزائنُ الغيبِ ومفاتُحه التي يُفْتَحُ بها ويظهرُ كُلُّ هذا عند اللَّهِ وحدَه، لا يعلمُها إلا هُوَ وحدَه (جل وعلا)، ولا ينافِي ذلك أن اللَّهَ يُعَلِّمُهَا لِمَنْ شَاءَ.
المعنَى أنه ليس عندَ أحدٍ قدرةٌ وَلاَ اكتسابٌ يكتسبُ هذه، ولا مانعَ مِنْ أن يُعَلِّمَ اللَّهُ ما شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، فقد يَعْلَمُ الملاَئِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بالسحابِ الوقتَ الذي تَنْزِلُ فيه السحابُ؛ لأن اللَّهَ يقولُ لهم: احْمِلُوا هذا المطرَ حتى تُنْزِلُوهُ في وقتِ كَذَا، في موضعِ كَذَا، فهم يَعْلَمُونَ هذا بتعليمِ اللَّهِ قبلَ أن يعلمَه غيرُهم، وكذلك الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بالرحمِ، كما ثَبَتَ في حديثِ ابنِ مسعودٍ الصحيحِ (٢): أنه يقولُ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فيخبرُه اللَّهُ وهو في بطنِ أُمِّهِ قبلَ أن يعلمَ به الآخَرُونَ. وهكذا.
وهذا معنَى قولِه: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾ ثم
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ١)، البحر المحيط (٤/ ١٤٤).
(٢) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، حديث رقم (٣٢٠٨) (٦/ ٣٠٣)، وأخرجه في مواضع أخرى من صحيحه، انظر: الأحاديث (٣٣٣٢، ٦٥٩٤، ٧٤٥٤)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه... حديث رقم (٢٦٤٣)، (٤/ ٢٠٣٦).
أحدهما: قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ﴾ أي: يعني في النوم ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: الآية ٦٠].
الثاني: قوله في الزمر: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ أي: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الزمر: الآية ٤٢].
الجواب الثالث: أن الله نعم قال: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ [آل عمران: الآية ٥٥]، وهو متوفيه قطعاً يوماً ما، ولكنه لم يبين وقت ذلك التوفّي هل هو فيما مضى أو سيأتي بعد آلاف السنين؟ والتَّحَكُّم على الله بأنه أوقعه تَحَكُّم بلا دليل، والله متوفيه قطعاً وليس بمخلده، ولكن لم يُعَيِّن ذلك التوفي.
فإن قال قائل: هذا التوفي قبل الرفع؛ لأنه قال بعده: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾.
فالجواب: أن جماهير علماء العربية أن الواو لا تقتضي الترتيب، وإنما تقتضي التشريك (١) فيجوز بإجماع أهل اللسان العربي أن يكون المعطوف بها سابقاً على المعطوف عليه، تقول: «جاء زيدٌ وعمرو» ويكون عمرو هو الأول؛ لأن الواو إنما تقتضي التشريك فقط؛ ولذا قال: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ [الأحزاب: الآية ٧] فقدم النَّبِي، وعطف عليه نوحاً بالواو، ونوح قبل النبي، وهذا لا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ العلماء.
_________
(١) انظر: الصاحبي ١٥٦، البحر المحيط للزركشي (٢/ ٢٥٣)، شرح الكوكب المنير (١/ ٢٢٩)، مجموع الفتاوى (١٦/ ٧٧)، أضواء البيان (٧/ ٢٦٩).
الجدرانُ (١). والقاعدةُ المقررةُ في أصولِ أبِي حنيفةَ رحمه اللَّهُ: أنه لا يُقَدِّمُ الخاصَّ على العامِّ؛ لأن دلالةَ العامِّ عندَه على أفرادِه قطعيةٌ (٢)، فَكُلُّ فردٍ داخلٌ في العامِّ كأنه نُصَّ عليه بِنَصٍّ خَاصٍّ، ولا يُقَدَّمُ الخاصُّ على العامِّ بل يُنْظَرُ في الخاصِّ والعامِّ إذا عَرَفَ المتأخر منهما نَسَخَ به الأولَ، وإذا لم يَعْرِفِ المتأخرَ منهما احْتَاطَ (٣)؛ ولأجلِ هذه القاعدةِ المقررةِ في أصولِ أبي حنيفةَ (رحمه الله) كان يقولُ بوجوبِ الزكاةِ في كُلِّ ما خَرَجَ من الأرضِ ولم يَبْلُغْ خمسةَ أَوْسُقٍ، ولا نصفَ وسقٍ، ولا ربعَ وسقٍ؛ لأن النبيَّ ﷺ لَمَّا قال: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» (٤) قال أيضًا: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» (٥) وكان أبو حنيفةَ لا يَرَى تقديمَ الخاصِّ على العامِّ.
قال: يتعارضُ هذا العامُّ وهو قولُه: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» مع الخاصِّ الذي هو قولُه: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» لأن العامَّ عند أبي حنيفةَ قَطْعِيُّ الشمولِ لأفرادِه إلا ما أخرجَه دليلٌ، فَكَأَنَّ كُلَّ فردٍ من أفرادِ العامِّ عندَه دَلَّ عليه نَصٌّ مُسْتَقِلٌّ. فنظر أبو حنيفةَ في التاريخِ فلم يَعْرِفْ تاريخهما أيهما السابقُ، هل الأولُ الذي قال النبي: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» أو قوله: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ»؟ فلما جَهِلَ التاريخَ احتاطَ لوجوبِ
_________
(١) أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الجهر بآمين. حديث رقم (٨٥٣)، (١/ ٢٧٧ - ٢٧٨)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو عند أبي داود في الصلاة، باب التأمين وراء الإمام. حديث رقم: (٩٢٢)، (٣/ ٢٠٨). وليس فيه: «فيرتج بها المسجد»، وهو في ضعيف ابن ماجه برقم (١٨٢)، والسلسلة الصحيحة (١/ ٧٥٤).
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٣١) من سورة الأنعام.
(٣) السابق.
(٤) السابق.
(٥) السابق.
كانت في بيتها تخدم زوجها وأولادها ومجتمعها على أكمل الوجوه وأتمها، في صيانة وستر، ومحافظة على الشرف والفضائل، ومرضاة لخالق هذا الكون، يحسدهم الشيطان على هذا، ويغضبه هذا التعاون الكريم النزيه، فيقول لأوليائه أن يقولوا للمرأة: أنت محبوسة في البيت، أنت مجرمة، أنت دجاجة، فلك أن تخرجي وتشمِّي الهواء، وتفعلي كما يفعل الرجل!! وهذا خديعة لها وغرور للمسكينة الجاهلة؛ لأنها تخرج من حيائها وسترها وخدمة بيتها، فإذا خرجت تكدح في الحياة مع الرجل عَرَّضت جمالها لأعين الخائنين؛ لأن المرأة هي أعظم شيء يَتَعَرَّضُ لخيانة الخائنين؛ لأن العين الفاجرة الخائنة إذا نظرت في جمالها استغلَّتْ ذَلِكَ الجَمَالَ والنِّعْمَة الإلهية مَكْرًا
وغَدْرًا وجناية على الشرف والفضيلة وعلى الإنسانية، وإذا مَسَّهَا وَاحِد -مس بدنها في الزحام- بدعوى أنها تخرج باسم التقدم والحضارة والمدنية. وما هذه إلا ألفاظ جوفاء خبيثة كلبة خنزيرة يراد بها ضياع الشرف والفضيلة -والعياذ بالله- فإذا خرجت بَقِيَتْ جميع خدمات البيت ضائعة، بقي الرضيع من الأولاد ليس عنده من يرضعه، والمريض ليس عنده من يمرِّضُه، وليس هناك مَنْ يُهَيِّئ طعامًا لهم إذا جاءوا، فلو قدرنا أنهم أجَّرُوا إنسانًا ليجلس مكان المرأة كان هذا الإنسان الأجير هو الذي يأكل عَلْقَة الدجاج والحبس، صار هو المحبوس في البيت ولا ذنب له، وإنما حُبس هذا لتخرج المرأة وتضيع شرفها وفضيلتها وكرامتها، والمرأة إذا ضَاعَ شَرَفُهَا وفضيلتها وكرامتها وصارت مائدة لعيون الخونة فإنها لا خَيْرَ لها في الحياة، فبطن الأرض خير لها من ظهرها ولا شك في ذلك.
فَمَنْ عَرَفَ حقارةَ لذةِ المعصيةِ وشدةَ السمومِ الفتاكةِ المنطويةِ عليها، وَأَعْمَلَ عقلَه [إعمالاً] (١) صحيحًا لا بد أن يندمَ، فَلَمَّا كانت الأسبابُ الموصلةُ إلى الندمِ متيسرةً لاَ يعجزُ عنها إلا مَنْ حَابَى نفسَه ولم يستعمل أسبابَ الندمِ صارَ الندمُ كأنه في طوقِ الإنسانِ.
الإشكالُ الثانِي: هو ما ذَكَرَهُ العلماءُ في الإقلاعِ؛ لأن الإقلاعَ عن الذنبِ والكفَّ عن شَرِّ الذنبِ، وعدمَ التمادِي فيه، هذا ركنٌ من أركانِ التوبةِ، فَلاَ توبةَ مع عدمِ الإقلاعِ؛ لأَنَّ المتلبسَ بالذنبِ الذي لم يُقْلِعْ عنه لاَ توبةَ له بإجماعِ العلماءِ، والإشكالُ في هذا أن بعضَ الناسِ يتوبُ مع تعذرِ الإقلاعِ عليه، كالذي كان ينشرُ بدعةً من البدعِ حتى طَارَتْ في أقطارِ الدنيا، وصار يُعْمَلُ بها في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، ومعلومٌ أن مَنْ سَنَّ سُنَّةً سيئةً فَعَلَيْهِ وزرُها ووزرُ مَنْ عَمِلَ بها إلى يومِ القيامةِ، لاَ ينقصُ ذلك من أوزارِهم شيئًا. ثم إنه نَدِمَ على بدعتِه وأرادَ الإقلاعَ والرجوعَ عنها، لَكِنَّ شَرَّهُ منتشرٌ مستطيرٌ في أقطارِ الدنيا؛ لأن البدعةَ التي بَثَّ وهي إلى الآن في أقطارِ الدنيا يَتَنَاقَلُهَا الناسُ بعضُهم عن بعضٍ، وَيُضِلُّونَ بها بعضَهم عن بعضٍ، فهل نقولُ: هذا مُقْلِعٌ؛ لأنه فَعَلَ غايةَ ما يستطيعُ، أو نقولُ: ليس بِمُقْلِعٍ؛ لأن فسادَه لم يَزَلْ فهو منتشرٌ في أقطارِ الدنيا الآنَ؟
وَمِنْ هذا القبيلِ: مَنْ غَصَبَ أرضًا، كأن غَصَبَ أرضًا مثلاً عشرينَ مِيلاً في عشرينَ ميلاً وهو جالسٌ في وسطِها، ثم إنه نَدِمَ على
_________
(١) في الأصل: تعميلاً.


الصفحة التالية
Icon