قال: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ يعني يعلمُ ما يختصُّ بِعِلْمِهِ، ويعلمُ كُلَّ شيءٍ، الذي يعلمُه الخلقُ هو يعلمُه، والذي لاَ يعلمُه إلاَّ هو وحدَه فقد اسْتَأْثَرَ بعلمِه جل وعلا.
﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ﴾ والتحقيقُ أن البرَّ ضِدُّ البحرِ (١)، والمرادُ بـ ﴿مَا فِي الْبَرِّ﴾ أي: جميعُ ما فِي [الْبَرِّ] (٢).
[٧/أ] قال اللَّهُ تعالى: / ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)﴾ [الأنعام: الآيات ٧٤ - ٨٢].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: آية ٧٤].
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٤٥).
(٢) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين في الأصل: «البحر»، وهو سبق لسان.
فإن قال قائل: قد جاء عن النبي - ﷺ - حديث يدل على أن الواو تقتضي الترتيب، وهو تفسيره للواو في قوله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ﴾ [البقرة: الآية ١٥٨] فبدأ بالصفا، وقال: «نبدأ بما بدأ الله به» (١) وفي بعض رواياته: «ابدَؤُوْا بما بدأ الله به» (٢).
فالجواب عن هذا هو ما أجاب به غير واحد من علماء العربية: أن الواو من حيث وضعها العربي لا تقتضي تقديماً ولا تأخيراً، وإنما تقتضي مطلق التشريك، سواء كان المعطوف بها هو الأول أو هو الآخر، أو كانا مجتمعين في وقت واحد، كقوله: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾ [العنكبوت: الآية ١٥] لأن إنجاءهما في وقت واحد، إلا أنه إذا دلّ دليل خارجي على أنها يراد بها الترتيب فلا مانع، ولكن الترتيب بذلك الدليل الخارجي لا لأصل الواو في نفسها، ومنه قول حسّان، على من رواه بالواو (٣):
هَجَوْتَ مُحمداً فأجَبْتُ عَنْهُ | وَعِنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الجَزَاءُ |
_________
(١) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي - ﷺ - حديث رقم (١٢١٨) (٢/ ٨٨٦).
(٢) الحديث بهذا اللفظ: أخرجه أحمد (٣/ ٣٩٤)، الدارقطني (٢/ ٢٥٤)، والبيهقي (١/ ٨٥). وقد حكم بعض العلماء على هذه اللفظة بالشذوذ. انظر: التلخيص الحبير (٢/ ٢٥٠)، خلاصة البدر المنير (٢/ ١١)، نصب الراية (٣/ ٥٤)، إرواء الغليل (٤/ ٣١٦).
(٣) انظر: ديوان حسان ص ٢٠.
الزكاةِ احتياطًا لبراءةِ الذمةِ والخروجِ من عهدةِ التكليفِ بالزكاةِ. وكذلك في هذه الآيةِ قال: إن الأحاديثَ التي جاءت برفعِ الصوتِ في التأمينِ أخبارُ آحَادٍ. ولو فَرَضْنَا أنها متأخرةٌ؛ لأن الظاهرَ أنها متأخرةٌ؛ لأن هذه السورةَ - سورةَ الأعرافِ - من القرآنِ النازلِ بمكةَ إلاَّ ثمان آياتٍ منها تأتِي في قولِه: ﴿واسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ الآياتِ.
أما غيرُها في سورةِ الأعرافِ فهي من القرآنِ النازلِ بمكةَ قبلَ الهجرةِ. وأحاديثُ التأمينِ بالصلاةِ هي في المدينةِ متأخرةٌ عنها، إلا أن القاعدةَ المقررةَ فِي أصولِ الإمامِ أَبِي حنيفةَ - رحمه الله - أنه لاَ تُنْسَخُ المتواتراتُ بأخبارِ الآحَادِ، والأحاديثُ أخبارُ آحادٍ، والإسرارُ بالدعاءِ متواترٌ؛ لأن قولَه هنا في سورةِ الأعرافِ: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ نَصٌّ متواترٌ ظاهرُ الدلالةِ يدلُّ على إخفاءِ الدعاءِ، و (آمين) هي مِنَ الدعاءِ؛ لأن معناها: اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ.
وَهُنَالِكَ قولٌ ضعيفٌ شَاذٌّ يقولُ: إن (آمين) من أسماءِ اللَّهِ تعالى (١). وعلى هذا القولِ قال بعضُ أصحابِ أبي حنيفةَ: لو قَدَّرْنَا أن (آمين) من أسمائِه تعالى فَاللَّهُ يقولُ: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ [الأعراف: آية ٢٠٥] كذا يقولونَ!
والعلماءُ الذين يقولونَ: إن القضاءَ بالمتأخرِ، يقولونَ: إن هذا عَامٌّ، ورفعُ الأصواتِ بالتأمينِ خاصٌّ، ولاَ يتعارضُ عامٌّ وخاصٌّ. وهذا مذهبُ الجمهورِ المقررُ في أصولِ الشافعيةِ والحنبليةِ والمالكيةِ أن الخاصَّ يَقْضِي على العامِّ ويقدم عليه، وكذلك المقيدُ على المطلقِ سواء تقدمَ أو تأخرَ عنه كما هو معروفٌ في الأصولِ. وهذا معنَى قولِه: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾.
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ١٢٨).
فهذه الفلسفات الكاذبة تُضَلّلُ بها المسكينة باسم الحضارة، واسم التقدم، واسم التمدن، وأنها ليست بدجاجة ولا مجرمة محبوسة بالبيت؛ لتُخرج من حيائها وتُجعل مائدة لخونة الأعين الخائنة (والعياذ بالله) ويضيع شرفها، وتضيع دنياها وآخرتها، والعياذ بالله.
فعلينا -معاشر المؤمنين- أن نعلم أن بَيْنَ الأنثى والذكر فوارق طبيعية جَبَلَهُمَا الله عليها لا يمكن لأحد أن يَجْهَلَها ولا يتجاهلها، ومن أراد أن يكسر هذه الحواجز التي بين الذكر والأنثى لبعدها وقوتها فهو ملعون في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» (١) فالتي تترجَّل تحاول التشبُّه بالرجل في جميع الميادين هي ملعونة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها أرادت أن تحطم فوارق وحواجز وَضَعَها خالق السماوات والأرض كونًا وقدرًا وشرعًا لا يمكن لأحد أن يحطمها بوجه من الوجوه.
والعجب كل العجب أن المرأة إذا ضُلِّلت وسُفِّه عقلها بالشعارات الزائفة، والفلسفات المضلة باسم التقدم، والحضارة، والتمدن، وأنها ليست بدجاجة، ولا مجرمة محبوسة في البيت؛ ليُضَيَّع شرفها وتُعَرض للرذائل وضياع الشرف وسخط رب العالمين، فهي مع هذا تحاول أن تترجل، وأن تكون كالرجل في كل شيء، ولو
_________
(١) أخرجه البخاري في اللباس، باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال، حديث رقم (٥٨٨٥)، (١٠/ ٣٣٢). وأطرافه في (٥٨٨٦، ٦٨٣٤) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
الغصبِ وأرادَ أن يخرجَ من الأرضِ المغصوبةِ نَادِمًا، الزمنُ الذي يمكثُه قبلَ أن يخرجَ منها لو أدركَه الموتُ وهو فيها هل نقولُ: هل هذا تائبٌ؛ لأنه فَعَلَ غايةَ ما يستطيعُ؟ أو نقولُ: لَمْ يُقْلِعْ؛ لأنه إلى الآن لم يَتَخَلَّ عن الشيء الذي غَصَبَهُ، بل هو في حوزتِه إلى الآن؟ وهو يشغلُه بجسمِه؟ ومن هذا المعنَى: مَنْ رَمَى إنسانًا مِنْ بَعِيدٍ بسهمٍ ثُمَّ لَمَّا فَارَقَ السهمُ نَدِمَ والسهمُ في الهواءِ فتابَ إلى اللَّهِ (جلَّ وعلا) والسهمُ في الهواءِ، ثم بعدَ أن تَابَ أَصَابَ السهمُ في الرميةِ فَقَتَلَهُ، هل نقولُ: هو تائبٌ؛ لأنه فَعَلَ في ذلك الوقتِ ما يستطيعُ، أو نقولُ: ليسَ بِتَائِبٍ؛ لأن فسادَه منتشرٌ، وَأَثَرُ جريمتِه بَاقٍ لم يَنْقَطِعْ؟ هذه مسائلُ اختلفَ فيها علماءُ الأصولِ حولَ الإقلاعِ عن الذنبِ في التوبةِ (١). والمحققونَ مِنْ علماءِ الأصولِ أن الإنسانَ إذا فَعَلَ غايةَ ما في وِسْعِهِ وَنَدِمَ على ما صَدَرَ منه أن اللَّهَ يغفرُ له بذلك ويتوبُ عليه؛ لأن اللَّهَ يقولُ: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: آية ٢٨٦] وهذا معنَى قولِه: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ مفعولُ المشيئةِ محذوفٌ، أي: ويتوبُ اللَّهُ على مَنْ يشاءُ أن يتوبَ عليه ﴿وَاللَّهُ﴾ (جلَّ وعلا) ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ كثيرُ المغفرةِ والرحمةِ لعبادِه؛ لأَنَّ اللَّهَ غفورٌ رحيمٌ، فقد جاء في غزوةِ حُنَيْنٍ هذه أن النبيَّ ﷺ رأى امرأةً من السَّبْيِ تَصِيحُ تطلبُ ولدَها وهي في غايةِ التشويشِ إليه حتى وَجَدَتْهُ فَجَعَلَتْ تُقَبِّلُهُ وَتَضُمُّهُ إليها من شدةِ شَفَقَتِهَا عليه، فقال النبيُّ ﷺ لأصحابِه: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا هَذَا فِي النَّارِ؟» قالوا: لاَ. قال: «ولِمَ؟» قالوا: لشفقتها عليه.
قال: «اللَّهُ أَرْحَمُ بِكُمْ مِنْ هَذِهِ
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام.