قرأ هذا الحرفَ نافعٌ وأبو عمرٍو وابنُ كثيرٍ (١) ﴿إِنِّيَ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وقرأه الباقون من السبعةِ: ﴿إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وهما قراءتانِ سبعيتانِ، ولغتانِ فصيحتانِ.
ووجهُ مناسبةِ هذه الآيةِ الكريمةِ لِلَّتِي قَبْلَهَا التي كُنَّا نُفَسِّرُهَا: أن الكفارَ قالوا للنبيِّ - ﷺ - وأصحابِه: ارْجِعُوا إلى دِينِنَا، فَاعْبُدُوا معنا معبوداتِنا، وأنزلَ اللَّهُ في ذلك: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا﴾ [الأنعام: آية ٧١] (٢) لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ أنهم دَعَوْهُمْ إلى عبادةِ الأوثانِ، وأنهم لا يمكنُ أن يَرْجِعُوا إِلَى [الكفرِ] (٣) بعدَ أن عَلَّمَهُمُ اللَّهُ الدينَ، وَعَلَّمَهُمْ تَوْحِيدَهُ الصحيحَ ﴿وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ هذا لا يكونُ، بَيَّنَ اللَّهُ في هذه الآيةِ سفاهةَ عقولِ مُشْرِكِي مكةَ، وهم يقولونَ إن إبراهيمَ جَدُّهُمْ، وإنه على دِينٍ صحيحٍ، وَمِلَّةٍ حنيفيةٍ سَمْحَةٍ!! فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أن يذكرَ لهم قصةَ إبراهيمَ مع أَبِيهِ وقومِه، وتفنيدِه لعبادةِ الأوثانِ، وتحذيرِهم من ذلك؛ لِيَعْلَمُوا أن الذي يَدْعُونَكُمْ إليه أنه كُفْرٌ وَضَلاَلٌ وَسَفَهٌ، وأنه مخالفٌ لِمِلَّةِ إبراهيمَ التي يُقِرُّونَ بأنها حَسَنَةٌ (٤).
_________
(١) انظر: النشر (٢/ ١٦٣ - ١٦٤)
(٢) انظر: ابن جرير (١١/ ٤٥٢).
(٣) في هذا الموضع يوجد مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٤) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٦٣).
وإنما كانت الحقيقة اللغوية هنا مقدمة على العُرْفِيَّة -التي هي قبض الروح-[لأمرين] (١):
أحدهما: أن الله قد ثبت أنه رفع جسم عيسى إليه، والأحاديث الدالة المتواترة عن النبي أن الله رفع عيسى.
وعلى كل حال فالمعروف عن الذين قتلوه أنهم قتلوه بأن صلبوه، والله نفى هذا الصلب نفياً باتّاً، قال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء: الآيتان ١٥٧، ١٥٨] فنفى أنهم قتلوه نفياً يقيناً، وهم معذورون؛ لأنهم ظنوا أنهم قتلوه، والله بَيَّنَ السبب الذي جاءهم منه الكذب والغلط؛ لأنه قال: ﴿وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: الآية ١٥٧] لأن الله ألقى شبهه على رجل فصار مَنْ نظر إلى ذلك الرجل يجزم بأنه عيسى؛ لأن الله ألقى شبه عيسى عليه، فصار الناظر إليه لا يشك في أنه عيسى، فقتلوا ذلك الرجل وصلبوه، واعتقدوا أنه عيسى، فبَيَّنَ الله سَبَبَ كَذِبِهِم، وعُذْرهم في غلطهم فقال: ﴿وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أما هو نفسه فَقَدْ رَفَعَهُ اللهُ إليه، وهو عند الله (جل وعلا)، وسينزل في هذه الأمة آخر الزمان، ويقتل الدَّجَّال، وهذا ثابت عن النبي - ﷺ - ثبوتاً لا مطعن فيه، وإن أحْيَا الله مَنْ أدْرَكَهُ من هذه الأمة سيجد أخبار الصادق المصدوق حقّاً، وسيجد خرافات الكذابين من أتْبَاعِ الإفرنج باطلاً؛ لأن الله أصدق من يقول، وهو يقول: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ ويقول: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء: الآيتان ١٥٧، ١٥٨]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً﴾ [النساء: الآية ١٢٢] ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً﴾ [النساء: الآية ٨٧] الله أصدق من يقول.
_________
(١) في الأصل: أمران.
﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ﴿إِنَّهُ﴾ جل وعلا: ﴿لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: آية ٥٥] في الدعاءِ ولاَ في غيرِه. وقد جاء حديثٌ في ابنِ ماجه وغيرِه أن النبيَّ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال: «إِنَّهُ يَكُونُ فِي أُمَّتِي قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ» (١).
والاعتداءُ فِي الدعاءِ على أنواعٍ كثيرةٍ (٢): منها: الذي يَصِيحُ بالدعاءِ صِيَاحًا مُزْعِجًا، ومنها: الذي يَسْأَلُ اللَّهَ أن يعطيَه مَرْتَبَةَ النبيين في الجنةِ، أو فوقَ مرتبةِ النبيين، فهذا اعتداءٌ في الدعاءِ، وقد جاءَ عن عَبْدِ اللَّهِ بنِ مغفلٍ (رضي اللَّهُ عنه) أنه سَمِعَ ابنًا له يقولُ: «اللهم إني أسألك القصرَ الأبيضَ الذي عن يمينِ الجنةِ إذا أدخلتني الجنةَ» (٣)
_________
(١) ورد هذا الحديث من رواية سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مغفل (رضي الله عنهما)، وهو جزء من حديثيهما الآتيين.
(٢) في هذه المسألة راجع: مسائل الإمام أحمد (رواية صالح) (١/ ١٧١)، الفروع (١/ ٤٥٨)، الفتاوى (١٠/ ٧١٣ - ٧١٤)، الفروق للقرافي (٤/ ٢٥٩ - ٢٦٥)، تفسير القرطبي، والقاسمي، والمنار، للآية رقم (٥٥) من سورة الأعراف. الدعاء للطرطوشي (١٥٤ - ١٥٥)، تلخيص الاستغاثة (٩٣ - ٩٥)، بدائع الفوائد (٣/ ١٢ - ١٤)، تصحيح الدعاء من الغلط والاعتداء لبكر أبو زيد، الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية لجيلان بن خضر العروسي.
(٣) أخرجه أحمد (٤/ ٨٦، ٨٧)، (٥/ ٥٥)، وابن أبي شيبة (١٠/ ٢٨٨)، وعبد بن حميد في المنتخب برقم (٤٩٩)، وأبو داود في الطهارة، باب الإسراف في الوضوء. حديث رقم (٩٦)، (١/ ١٦٩). وابن ماجه في الدعاء. باب كراهية الاعتداء في الدعاء حديث رقم (٣٨٦٤)، (٢/ ١٢٧١)، وابن حبان (الإحسان ٨/ ٢٦٩)، والبيهقي (١/ ١٩٦)، والحاكم (١/ ٥٤٠)، من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه. وهو في الفتح السماوي (٢/ ٦٣٧)، صحيح أبي داود (٨٧)، صحيح ابن ماجه (٣١١٦)، المشكاة (٤١٨)، الإرواء (١٤٠). وقد حسنه ابن كثير في التفسير (٢/ ٢٢٢).
كشفت ثيابها وكشف الرجل ثيابه لعُلم أن هنالك مغايرة محسوسة طبيعية لا يمكن الإفرنج ولا أذناب الإفرنج أن يكسروها ولا يحطموها؛ لأنه قَدَرُ خَالِقِ السَّمَاوات والأرْضِ وأفعال رب العالمين لا يمكن أن تُكْسَر، ومع هذا فالمؤسف كل المؤسف أن الرجال يَتَأَنَّثُون وينماعون، ويترك الواحد حرمه -امرأته وبناته- ذاهبة في هذه التيارات المخزية الكافرة الفاجرة الملحدة!! ووالله لقد صدق المتأخر في قوله (١):
وَمَا عَجَبٌ أَنَّ النِّسَاءَ تَرَجّلَتْ | وَلَكِنَّ تَأْنِيثَ الرِّجَالِ عُجَابُ |
ومعلوم عند الناس أن كل البلاد الإسلامية التي كانت متمسكة غاية التمسك، ورجالها فيهم غيرة على بناتهم، لما دخل عليها هذا التيار، وجاءتها هذه الشعارات: تمدن، حضارة، تقدم، أن نساءهم - والعياذ بالله - صاروا فيما لا يُعَبَّر عنه، ولا يحتاج أحد أن يُنَوِّه عنه لشهرته مِنَ المجُون والفِسْق، وضياع الشرف والفضيلة، وانعدام الحياء رأسًا، والمرْأة إذا ضاع شرفها وفضيلتها فبطن الأرض خيرٌ لها مِنْ ظَهْرِهَا.
_________
(١) البيت في الأضواء (٣/ ٤٢٢)، الدرر السنية (٦/ ٦٢)، فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (١٠/ ٢٤٣).
بِوَلَدِهَا» (١). فالله (جلَّ وعلا) أَرْحَمُ من كُلِّ شيءٍ:
فَلَوْ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَغَى... وَقَالَ عَلَى اللَّهِ إِفْكًا وَزُورَا...
أَنَابَ إِلَى اللَّهِ مُسْتَغْفِرًا | لَمَا وَجَدَ اللَّهَ إِلاَّ غَفُورَا (٢) |
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩)﴾ [التوبة: الآيتان ٢٨، ٢٩].
يقول اللَّهُ جلَّ وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)﴾ [التوبة:
_________
(١) البخاري في الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، حديث رقم: (٥٩٩٩) (١٠/ ٤٢٦)، ومسلم في التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، حديث رقم: (٢٧٥٤) (٤/ ٢١٠٩).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٦٧) من سورة الأنفال.