ومعنَى قولِه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ وَاذْكُرْ يا نَبِيَّ اللَّهِ ﴿إِذْ﴾ أي: حِينَ ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ﴾ جَرَتْ عادةُ العلماءِ أَنْ يُقَدِّرُوا الناصبَ لـ (إذْ) يُقَدِّرُوهُ: (اذكر) (١).
ولطالبِ العلمِ أن يقولَ: أين القرينةُ على أن العاملَ في هذا الظرفِ الذي هو (إِذْ) أنه لفظةُ (اذكر)، أين قرينةُ ذلك؟
الجوابُ: أن العلماءَ فَهِمُوا ذلك مِنَ استقراءِ القرآنِ، وأن اللَّهَ فِي القصصِ يأتِي بلفظةِ (اذْكُرْ) عاملةً فِي (إذْ) هذه ونحوِها، كقولِه: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ [الأحقاف: آية ٢١] ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ﴾ [الأنفال: ٢٦] ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: آية ٨٦] ونحو ذلك في القرآنِ، كذلك قولُه هنا: وَاذْكُرْ ﴿إِذْ قَالَ﴾ أي: حينَ قال نَبِيُّ اللَّهِ وخليلُه إبراهيمُ قال: ﴿لأَبِيهِ آزَرَ﴾ التحقيقُ الذي لاَ شَكَّ فيه أن (آزَرَ) بَدَلٌ، أو عطفُ بيانٍ من الأبِ (٢)، وأنه أَبُوهُ، وإن كان عامةُ المؤرخينَ يقولونَ: إن أَبَا إبراهيمَ اسمُه (تارح). وقد أجابَ عن هذا ابنُ جريرٍ وغيرُه (٣)، قالوا: لاَ أصدقَ من اللَّهِ، وَذَكَرَ هنا أن أَبَاهُ (آزَرَ)، وقد يكونُ له اسمانِ، أي: اسمٌ ولقبٌ، أحدُهما: (تارح)، والثاني: (آزر). وهذه قراءةُ السبعةِ، وجماهير القراء (٤)،
وهناك قراءاتٌ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) في سورة البقرة.
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٦٣).
(٣) انظر: تفسير ابن جرير (١١/ ٤٦٨)، القرطبي (٧/ ٢٢)، البحر المحيط (٤/ ١٦٣)، ابن كثير (٢/ ١٥٠)، كلمة الحق للشيخ أحمد شاكر ص٣٠٢.
(٤) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٩٦.
﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ (١٤٧)﴾ [الأنعام: الآية ١٤٧].
الواو في قوله: ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ﴾ قال بعض العلماء (١): راجعة إلى اليهود؛ لأنهم أقرب مَنْ ذُكر في قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ فإن كذبوك وقالوا: لم تُحرم علينا هذه الأشياء جزاءً ببغينا، بل ما كان حراماً علينا إلا ما حَرَّمَهُ إسرائيل على نفسه ﴿فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾.
الوجه الثاني: أنه راجع إلى كفار مكة الذين أُرسل إليهم النبي - ﷺ -، وبَيَّنَ لَهُم أن شركهم بالله باطل، وأن تشريعهم الحلال والحرام بالكذب باطل، فإن كذبوك وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، والبَحِيْرَة حق، والسائبة حق، وما جرى مجرى ذلك، فقل: ربكم ذو رحمة واسعة.
وقال بعض العلماء: يرجع إلى الجميع، فإن كذبك الكفرة المعادون المعاندون من مشركين ويهود فقل لهم: ربكم الذي أنشأكم وأوجدكم ذو رحمة واسعة، إلا أن هذه الرحمة الواسعة ذكر الله في سورة الأعراف أنها مخصوصة بالمتقين حيث قال: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: الآية ١٥٦] لا لكل كافر وفاجر.
وقد قَدَّمْنَا فِي تَفْسِير (البسملة) و (الفاتحة) أن (الرَّحْمَةَ) صفة من صفات الله، اشتق لنفسه منها اسم (الرحمن) و (الرحيم)، وأن
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٢٠٧)، البحر المحيط (٤/ ٢٤٥ - ٢٤٦)، الدر المصون (٥/ ٢٠٩).
فهذا من الاعتداءِ في الدعاءِ. وعن بعضِ الصحابةِ أنه سَمِعَ ولدَه يقولُ: «اللهم إني أسالكَ الجنةَ وحورَها ونعيمَها وكذا وكذا، وأعوذُ بكَ من النارِ وسلاسلِها وأغلالِها وكذا وكذا وكذا. قال: هذا من الاعتداءِ في الدعاءِ، يَكْفِيكَ أن تقولَ: اللهم إني أسالكَ الجنةَ وما قَرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ، وأعوذُ بكَ من النارِ وما قَرَّبَ إليها مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ» (١).
فَاللَّهُ جل وعلا: ﴿لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ الْمُجَاوِزِينَ في الحدودِ، سواء كان في الدعاءِ أو في غيرِ الدعاءِ من مجاوزةِ ما ينبغي إلى ما لا ينبغي كما هو عامٌّ، وهي وإن نَزَلَتْ في الدعاءِ فالعبرةُ بعمومِ الألفاظِ لا بخصوصِ الأسبابِ.
ونحن وإن كنا نعلمُ أن الإخفاءَ في الدعاءِ أفضلُ من [الجهرِ] (٢) به وندعو غالبًا في هذا المجلسِ دعاءً ظاهرًا قَصْدُنَا به أن يَسْمَعَنَا إخوانُنا ويُؤَمِّنُّونَ لنا فنكونَ مجتمعين على الدعاءِ في هذا الشهرِ المباركِ، ولو أَسْرَرْنَا الدعاءَ لَمَا سَمِعُوهُ وَلَمَا أَمَّنُوا لنا، والمُؤَمِّنُ أحدُ الدَّاعِيَيْنِ، وقد نَصَّ على ذلك القرآنُ؛ لأن اللَّهَ في سورةِ يونسَ قال عن نَبِيِّهِ موسى: ﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ ذَكَرَ موسى وحدَه: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّوا
_________
(١) أخرجه أحمد (١/ ١٧٢، ١٨٣)، وابن أبي شيبة (١٠/ ٢٨٨)، وأبو يعلى (٢/ ٧١)، والطيالسي رقم (٢٠٠)، وأبو داود في الصلاة، باب الدعاء.. حديث رقم (١٤٦٧)، (٤/ ٣٥٣)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وهو في صحيح أبي داود (١٣١٣)، وانظر: الزيلعي على أحاديث الكشاف (١/ ٤٦٢)، تخريج ابن حجر على الكشاف ص٦٤، الفتح السماوي (٢/ ٦٣٦).
(٢) في الأصل: «الإسرار» وهو سبق لسان.
ومعلوم أن الله تبارك وتعالى فَرَّقَ بَيْنَ الذَّكَرِ والأنْثَى جِبلَّةً وكونًا وقدرًا وشرعًا، فمن يقول: إن المرأة كالرجل في جميع الميادين، وأنها تزايل ما يزايله الرجل فهو مجنون كاذب مغلوب؛ لأنه يعاند القدر، ومن أراد أن يعاند قدر الله فهو المغلوب، مع أن المرأة التي يقولون: إنها كالرجل في جميع الميادين بطبيعة حالها تمر عليها أوقات وهي لا تقدر على عمل، فهي في أوقات الحمل إذا صارت لها ستة أشهر ونحوها فإنها يُثْقِلها الحمل، ولا تقدر على فعل شيء وفي بطنها إنسان، فأين هذه من الذكر؟! الذكر لا يمكن أن يكون في بطنه إنسان، ولا يعجزه هذا الإنسان الذي في جوفه عن العمل، فأين الاتحاد، وأين المماثلة؟! وكذلك إذا نُفِسَت فإن النفاس يمرضها ويضعفها، والرجل لا يُنفس، فأين هذه المساواة، وأين هذا من هذا؟! فهذه فوارق قدرية كونية، تترتب عليها فوارق شرعية وحسِّية، وهذا من المعلوم. فقد بيّنا في هذه الآية أن الحواجز والفوارق بين الرجل والمرأة أنها موجودة عند نشأة الرجل الأول، وعند نشأة المرأة الأنثى؛ لأن المرأة الأنثى الأولى ما نشأت ولا وُجدت وجودًا مستقلاً عن الرجل، بل خُلِقَتْ من ضلع الرجل، فهي جزء منه، وجودها تابع لوجوده، مستندة في وجودها إليه، وهذا الأمر الكوني القدري الطبيعي الذي فعله خالق السماوات والأرض الحكيم الخبير لوازمه سارية في جميع ميادين الحياة، والإفرنج يحاولون أن يحطموا هذه الفوارق كلها وأتباعهم من الخفافيش!! والغريب كل الغريب أنوثة الرجال وميوعة ضمائرهم!! فإنا لله وإنّا إليه راجعون.

وَمَا عَجَبٌ أنَّ النِّسَاءَ تَرَجّلَتْ وَلَكِنَّ تَأْنِيثَ الرِّجَالِ عُجَابُ (١)
أين غَيْرَةُ الرِّجَالِ، وأيْنَ شَهَامة الذّكور؟!
_________
(١) مضى قريباً.
آية ٢٨] هذه مِمَّا كان ينادي به عَلِيُّ بنُ أبِي طالبٍ (رضي الله عنه) في مواسمِ عامِ تِسْعٍ، ولم يَحُجَّ بعدها مُشْرِكٌ، ولم يَطُفْ بالبيتِ عُرْيَانٌ، خَاطَبَ اللَّهُ عبادَه في هذه الآيةِ الكريمةِ باسمِ الإيمانِ ليكونَ ذلك أَدْعَى وأبعثَ على الامتثالِ، آمِرًا لهم أن يُبْعِدُوا الكفارَ عن مسجدِه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ صَرَّحَ في هذه الآيةِ الكريمةِ بأن المشركينَ نَجَسٌ، والنجسُ أصلُه مصدرُ نَجِسَ الشيءُ ينجسُ نَجَسًا فهو نَجِسٌ بفتحٍ فكسرٍ، أصلُه مصدرٌ. وهذا من النعتِ بالمصدرِ، والمصدرُ إذا نُعِتَ به أُفْرِدَ وَذُكِّرَ، تقولُ: مشركٌ نَجَسٌ، ومشركة نَجَسٌ، ومشركانِ نَجَسٌ، ومشركاتٌ نَجَسٌ، ومشركونَ نَجَسٌ. تطلقُه بالإفرادِ على الواحدِ والاثنين والجمعِ من الذكورِ والإناثِ.
قال بعضُ العلماءِ: هي نجاسةٌ كالنجاسةِ الحسيةِ، ولذا قال بعضُ العلماءِ: ذَاتُ المشركِ نَجِسٌ كالكلبِ والخنزيرِ. وعن الحسنِ البصري رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ صَافَحَ مُشْرِكًا فَلْيَتَوَضَّأْ (١).
وجماهيرُ العلماءِ - وهو الصوابُ إن شاء اللَّهُ - على أن النجاسةَ في هذه الآيةِ الكريمةِ معنويةٌ، فهو نَجِسٌ مَعْنًى، والمعنَى أعظمُ من الحسِّ؛ لأن شِرْكَهُ بِاللَّهِ أنتنُ شيءٍ وأقذرُه وأنجسُه، وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: نجاستُه أيضًا لأنه لم يَتَطَهَّرْ من جنابةٍ، ولم يَتَوَضَّأْ ولم يَجْتَنِبْ شيئًا من القاذوراتِ والأنجاسِ، فهو ملازمٌ للنجاسةِ. وأكثرُ العلماءِ على أن الكافرَ الذي لم يَتَلَبَّسْ بَدَنُهُ بنجاسةٍ أن نجاستَه معنويةٌ لاَ حسية، وأنه لأَجْلِ هذه النجاسةِ المعنويةِ أَمَرَ اللَّهُ أن يُبْعَدَ عن المسجدِ الحرامِ ولاَ يَقْرُبَ منه.
_________
(١) أخرجه ابن جرير (١٤/ ١٩٢).


الصفحة التالية
Icon