﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: آية ٧٥] الإشارةُ في قولِه: ﴿كَذَلِكَ﴾ كَمَا بصَّرنا إبراهيمَ العقيدةَ الصحيحةَ، وَعَرَّفْنَاهُ إخلاصَ العبادةِ لِلَّهِ، حيثُ وَبَّخَ المشركينَ، وَبَيَّنَ لهم أنهم في الضلالِ المبينِ، كذلك التبصيرُ والتعريفُ بالدينِ الصحيحِ، وإخلاصُ العبادةِ لِلَّهِ، كذلك التعريفُ والتبصيرُ نُرِيهِ - أيضا - ملكوتَ السمواتِ والأرضِ؛ ليكونَ من الْمُوقِنِينَ في عقيدتِه وَدِينِهِ (١)، و (الملكوتُ): أصلُه مصدرُ الملكِ، إلا أنه تُزَادُ فيه الواوُ والتاءُ، كالرَّهَبُوتِ، والرَّحَمُوتِ والرَّغَبُوتِ في: الرحمةِ والرهبةِ والرغبةِ وهي مصادرُ مسموعةٌ في كلامِ العربِ، نَزَلَ بها القرآنُ العظيمُ (٢).
﴿نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أي: مُلْكَ السمواتِ والأرضِ، وما أَبْدَعَ اللَّهُ في مُلْكِهِ في السماواتِ والأرضِ من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه؛ ليكونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.
وفي ﴿مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ في هذه الآيةِ الكريمةِ وَجْهَانِ لعلماءِ التفسيرِ مَعْرُوفَانِ (٣): قالت جماعةٌ كثيرةٌ من العلماءِ: إن اللَّهَ فتحَ له السماواتِ فَنَظَرَ كُلَّ ذلك، حتى إلى العرشِ، وأنه شقَّ له الأَرَضِينَ، وَأَطْلَعَهُ حتى الأرض السفلى.
وهذا قال به جمعٌ كثيرٌ من العلماءِ، ولكن التحقيقَ في الآيةِ: أَنَّ ﴿مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ التي أَرَاهُ ليكونَ بها من الْمُوقِنِينَ هو الظاهرُ من غرائبِ صنعِ اللَّهِ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٤٧٠)، الدر المصون (٥/ ٥).
(٢) ابن جرير (١١/ ٤٧٠)، ابن عطية (٦/ ٨٨)، القرطبي (٧/ ٢٣)، البحر المحيط (٤/ ١٦٥)، الدر المصون (٥/ ٦).
(٣) انظر: ابن جرير (١١/ ٤٧٠ - ٤٧٥)، القرطبي (٧/ ٢٣ - ٢٤).
والجريمة: الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه العذاب (١) كالذين كفروا بالله وجعلوا له الشركاء وسَاوُوا به شركاءه، وحَرَّموا ما رزقهم افتراء عليه، وحرَّموا وحلَّلوا بالباطل، وفعلوا الفواحش، وقالوا: الله أمرنا بها، هؤلاء كلهم من القوم المجرمين.
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (١٤٨)﴾ [الأنعام: الآية ١٤٨].
هذه الآية الكريمة من معجزات النبي - ﷺ - لأنه أخبر فيها عن أمر غيب، ثم تحقق ذلك الغيب طبقاً لما ذكر، قال: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ﴾ ذكر أنهم سيقولونه في المستقبل، وهو أمر غيب، ثم بَيَّنَ الله أن إخباره عن ذلك الغيب وقع كما قال، بيّنه في (النحل) و (الزخرف)، حيث قال في (النحل): ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ [النحل: الآية ٣٥] وقال في (الزخرف): ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم﴾ [الزخرف: الآية ٢٠] فتحقق ما قال: إنهم سيقولونه (٢).
وهذه شبهة جاء بها الكفار -عليهم لعائن الله- وتمسّك بها المعتزلة، فهذه الآية محطّ رِحَال عند المعتزلة في أن العَبْدَ يخلق عمل نفسه بلا تأثير لقدرة الله فيها (٣) -سبحانه وتعالى عن قولهم وافترائهم- وكلام الزمخشري في هذه الآية في غاية الخبث والقبح؛
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٥) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: أضواء البيان (٢/ ٢٧٧).
(٣) مضى عند تفسير الآية (١٠٦) من هذه السورة.
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: آية ٢] والإحسانُ الذي خُلِقْنَا من أَجْلِ الابتلاءِ فيه قد أَرَادَ جبريلُ عليه السلام أن يُنَبِّهَ المسلمين إلى الطريقِ التي يَصِحُّ بها الإحسانُ الذي خُلِقُوا من أَجْلِهِ فجاءَ للنبيِّ ﷺ في حديثِ جبريلَ المشهورِ (١) في صفةِ أَعْرَابِيٍّ، وسأله عن الإيمانِ والإسلامِ، وقال له: يَا مُحَمَّدُ... - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه - أَخْبِرْنِي عن الإحسانِ؟ أي: وهو الذي خُلِقْتُمْ من أجلِ الاختبارِ فيه. فَبَيَّنَ له النبيُّ ﷺ أن إحسانَ العملِ لا يكونُ إلا بالواعظِ الأكبرِ والزاجرِ الأعظمِ وهو مراقبةُ الله، وعلم العبد أنه كأنه ينظر إلى الله (جل وعلا)، وأنه إن كان لم يَرَ اللَّهَ فَاللَّهُ (جل وعلا) يراه. فَمَنْ عَلِمَ أنه بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ السماواتِ والأرضِ الجبارِ العظيمِ الأعظمِ، وأن اللَّهَ يراه: أَحْسَنَ عَمَلَهُ؛ لأن الإنسانَ - وَلِلَّهِ المثلُ الأعلى - إذا كان أمامَ مَلِكٍ جبارٍ من ملوكِ الدنيا شديدِ البطشِ على مَنْ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ، وَأَمَرَهُ بعملٍ، وهو حاضرٌ ينظرُ إليه، لابد أن يَجِدَّ ويحسنَ ذلك العملَ على أكملِ الوجوهِ.
فعلى المؤمنِ أن يستشعرَ أنه بَيْنَ يَدَيْ خَالِقِ السماواتِ والأرضِ، وأن اللَّهَ يراه، وأنه ليس بغائبٍ عنه. فإذا لاَحَظَ هذا ملاحظةً صحيحةً أَحْسَنَ العملَ؛ ولذا قال النبيُّ ﷺ مجيبًا لجبريلَ في قولِه: أَخْبِرْنِي عن الإحسانِ. قال صلى الله عليه وسلم: «الإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». لأن مَنْ لاَحَظَ هذه الموعظةَ وهذه المراقبةَ أَحْسَنَ عَمَلَهُ.
وفي هذه الآيةِ الكريمةِ من سورةِ الأعرافِ سؤالٌ عربيٌّ مشهورٌ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة البقرة.
أنك ترى كثيرًا من الأمم المتسمية باسم الإسلام تحضر المؤتمرات التي أصل عقدها من الكفرة الفجرة فيما يسمونه (تحديد النسل) (١) وهذا أعظم شيء مخزٍ يخجل منه الإنسان الذي في باطنه شيء من نور القرآن؛ لأن منشأ ذلك أن الكفرة -عليهم لعائن الله- لا يؤمنون بالله، ولا يحسنون به ظنًّا، ولا يتوكلون عليه، ويظنون أنهم إذا نظروا دخل البلاد القومي وقدر ما يتزايد من النسل أن الناس يكثرون على قدر الدخل، وتعتريهم الفاقة والجوع، فيعقدون المؤتمرات لتحديد هذا النسل خوفًا من الفاقة والفقر والجوع!! وهذه أفكار الخنازير والقردة الذين لا يُقرّون بخالق السماوات والأرض، ولا يعلمون فضله ورحمته وكثرة خزائنه، ولا يتوكلون عليه.
والكثرة هي نعمة من نعم الله (جل وعلا)، والله يقول ممتنًّا على أمة شعيب: ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: آية ٨٦] الكثرة نعمة وقوة، وهؤلاء يأتيهم الشيطان ليتخلصوا من نعمة الله والقوة!! والله (جل وعلا) قد بيّن أن قومًا فيما مضى قد أرادوا قتل أولادهم من أجل الجوع الواقع، وأن بعضهم أراد قتل الأولاد من خوف الجوع المتوقع، فبيّن لهم خالق السماوات والأرض أن ذلك الجوع المتوقع لا يكون، وأن خالق السماوات والأرض الذي بيده خزائن السماوات والأرض عليه رزق الجميع، قال في الذين يقتلون أولادهم من الفقر الواقع حالاً: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [الأنعام: آية ١٥١] وهذا وعد من الله، والله لا يخلف الميعاد.
وقال في الذين يقتلون أولادهم خشية الفقر المترقب: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشيةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾ [الإسراء: آية ٣١] ونحن نؤكد لكم كل
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥١) من سورة الأنعام.
مملوكانِ فلا مانعَ من دخولِهما المسجدِ (١). وَرُوِيَ فيه حديثٌ مرفوعٌ، والتحقيقُ عند الْمُحَدِّثِينَ أن الموقوفَ على جابرٍ هو الأثبتُ الصحيحُ والمرفوعُ ليس بصحيحٍ (٢). وقولٌ قاله جابرٌ لا يمكنُ أن يُخَصَّصَ به النصُّ الصريحُ، ولا سيما النص المبني حكمُه على العلةِ؛ لأنه صَرَّحَ بأنهم نجسٌ، وأشار بالفاءِ إلى أن تلك النجاسةَ هي سببُ منعِهم من قربانِ المسجدِ.
وعلى كُلِّ حالٍ فالمشركونَ كعَبَدةِ الأوثانِ أَجْمَعَ جميعُ العلماءِ على مَنْعِهِمْ من دخولِ المسجدِ، واختلفوا في الكتابيِّ وفي غيرِ المسجدِ من سائرِ الْحَرَمِ، وقد بَيَّنَّا أن الصوابَ - إن شاء الله - مَنْعُهُمْ من ذلك كُلِّهِ.
ولو جاءت من المشركينَ رسالةٌ إلى سلطانِ المسلمينَ - وهو بمكةَ - لا يُدْخَلُ الرسولُ، بل يَخْرُجُ إليه خارجَ الحرمِ حتى يسمعَ منه ما يقولُ، ويعطيَه الرَّدَّ خارجَ الحرمِ، أو يرسلَ إليه مَنْ يَنُوبُ عنه في ذلك (٣).
قال بعضُ العلماءِ (٤) - وبه قال جماعةٌ من المالكيةِ - إن الواحدَ منهم إن دَخَلَ مُخْتَفِيًا وماتَ وَدُفِنَ في الحرمِ واطُّلِعَ عليه أنه يُنْبَشُ قبرُه، وَتُخْرَجُ عظامُه من الحرمِ، ولا يُتْرَكُ في حرمِ اللَّهِ؛ لأنه نَجِسٌ قَذِرٌ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - فالتحقيقُ أنه لا يجوزُ أن يدخلَ حرمَ اللَّهِ
_________
(١) أخرجه ابن جرير (١٤/ ١٩٦) من طريق عبد الرزاق.
(٢) أخرجه أحمد (٣/ ٣٣٩، ٣٩٢) وقال عنه ابن كثير: «تفرد به الإمام أحمد مرفوعًا، والموقوف أصح إسنادًا» اهـ. تفسير ابن كثير (٢/ ٣٤٦).
(٣) انظر: القرطبي (٨/ ١٠٤).
(٤) السابق، وانظر: إعلام الساجد للزركشي ص١٧٥.


الصفحة التالية
Icon