و (الْمُوقِنُونَ) جَمْعُ (الْمُوقِنِ)، و (الْمُوقِنُ) اسمُ فاعلِ (الإيقانِ)، وَوَاوُهُ مبدلةٌ من ياءٍ، أصلُه (مُيْقِن) (مُفْعِل) من (اليقينِ) (١). و (اليقينُ) هو العلمُ الذي لا تَتَطَرَّقُهُ الشكوكُ ولا الأوهامُ، لا يقبلُ التغيرَ بحالٍ (٢). وهذا معنَى قولِه: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾.
﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ [الأنعام: آية ٧٦].
﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا﴾ العربُ تقولُ: «جَنَّ عليه الليلُ، وجنَّه الليلُ، وأَجَنَّ عليه الليلُ، وأَجَنَّهُ الليلُ». فإذا قالت: «أَجَنَّ» رباعيةً كان قولُها: «أَجَنَّهُ الليلُ» أَفْصَحُ من «أَجَنَّ عليه الليلُ». وإذا قالت: «جَنَّ عليه الليلُ» فهو أَفْصَحُ من «جَنَّهُ الليلُ» والكلُّ معروفٌ في لغةِ العربِ (٣). ومن تعديةِ (جَنَّ) - ثلاثيةً - قَوْلُ الْهُذَلِيِّ (٤):
وَمَاءٍ وَرَدْتُ قُبَيْلَ الْكَرَى وَقَدْ جَنَّهُ السَّدَفُ الأَدْهَمُ
وَأَصْلُ مادةِ (الجيمِ، والنونِ، والنونِ) (جَنَنَ) أصلُ هذه المادةِ في جميعِ تصرفاتِها معناها: الاستتارُ
_________
(١) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال، ص٢٩٥.
(٢) انظر: المفردات (مادة: يقن) ٨٩٢، التعريفات للجرجاني ٣١٦.
(٣) انظر: ابن جرير (١١/ ٤٧٨ - ٤٧٩)، الدر المصون (٥/ ٨).
(٤) البيت في ابن جرير (١١/ ٤٧٩)، البحر المحيط (٤/ ١٦٢)، الدر المصون (٥/ ٧).
والسَّدَف: الظُلْمة من أول الليل، أو آخره عند اختلاط الضوء.
والأدهم: الضارب إلى السواد.
﴿وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر: الآية ٧] فهو لا يَرْضَى بذلك الفِعْلِ، فهو أنْذَرَكُمْ وحَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ، وإن ارْتَكَبْتُمُوه فلا يَرْضَى بذلك الفعل، بل يدخلكم به النار، وحاصل هذا: أن الكفَّارَ احْتَجّوا بأن الله قادر على أن يمنعَهم [من الوقوع فيما وقعوا فيه] (١) من الشرك وتحريم ما حَرّموا، دلَّ ذلك على أنه راضٍ بذلك، فالله كَذَّبَهُمْ فِي هذه وقال: إن عدم منعه لهم مع قدرته على ذلك لا يدل على رضاه؛ لأن الله (جل وعلا) يأمر خَلْقَهُ جميعاً بالدعوة، ويُوَفِّقُ مَنْ شَاءَ، وَيَخْذِلُ مَنْ شَاءَ، فالذي وفّقَه للخير يرضى بفعله، والذي لم يُوَفِّقْه للخير لم يرض الله (جل وعلا) بالكفر، والإرادة الكونية القدرية لا تستلزم الرضا (٢)،
فالله (جل وعلا) قد أراد كوناً وقدراً كُفْرَ الكَافِرِين؛ لأن الله يقول: ﴿وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ﴾ [الأنعام: الآية ١٠٧] ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ [السجدة: الآية ١٣] ﴿وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ [الأنعام: الآية ٣٥] وهذا الكفر بمشيئته ولكنه ليس يرضاه، والإرادة الكونية القدرية لا تستلزم الرضا، وإنما يستلزم الرضا: الإرادة الشرعية الدينية، فما أحَبَّهُ الله شرعاً ورضيه ديناً وأراده ديناً هذا هو الذي يلازم الرِّضَا، أمَّا الإرَادَة الكونية القدرية فإنها لا تَسْتَلْزِم الرضا، فقد يريد الله كوناً وقدراً ما يَرْضَاهُ؛ كإيمان المؤمنين، وقد يريد كوناً وقدراً ما لا يرضاه ككفر الكافرين، وقد بَيَّنَّا احتجاج المعتزلة بهذا، وذكرنا بعض المناظرات التي توضح هذا (٣)، والحاصل أن الله تبارك وتعالى
_________
(١) في هذا الموضع وُجد مسح في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٢) انظر: مجموع الفتاوى (٨/ ٤٧٥)، شرح الطحاوية ص ٣٢٤..
(٣) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام.
والذين يقولونَ: إن رحمةَ اللَّهِ هي رحمتُه لعبدِه في الآخرةِ، يقولونَ: إن الإنسانَ كُلَّ يوم يقربُ من الآخرةِ ويبعدُ من الدنيا؛ لأن ما أَمَامَكَ قريبٌ وما وراءَك بعيدٌ، كما قال الحطيئةُ أو غيرُه (١):
لَعَمْرُكَ مَا السَّعَادَةُ جَمْعَ مَالٍ... وَلَكِنَّ التَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ...

وَمَا لاَ بُدَّ أَنْ يَأْتِي قَرِيبٌ وَلَكِنَّ الَّذِي يَمْضِي بَعِيدُ
فَكَأَنَّ الإنسانَ كُلَّ يومٍ يقربُ من الآخرةِ ويبعدُ من الدنيا؛ لأن ما يستقبلُه الإنسانُ يتقربُ إليه دائمًا، وما يَسْتَدْبِرُهُ يتباعدُ منه دائمًا، والآخرةُ قريبٌ جِدًّا، كما قال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
والذين يقولونَ: إن رحمةَ اللَّهِ قريبةٌ من عبادِه المحسنين بحصولِها لهم في الدنيا والآخرةِ؛ لأنه في الدنيا يرحمُهم بالتوفيقِ إلى الأعمالِ الصالحةِ وبالعملِ بما يرضيه، كما قال جل وعلا: ﴿إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [النحل: آية ٧] ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: آية ٤٣] فَبَيَّنَ أنه بالمؤمنين رحيمٌ، يرحمهم بالدنيا بما يُيَسِّرُ لهم من التوفيقِ إلى ما يُرْضِيهِ، ويرحمُهم في الآخرةِ بالإدخالِ في دارِ كرامتِه. وهذا معنَى قولِه: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)﴾
_________
(١) البيت للحطيئة، وهو في الأمالي (٢/ ٢٠٢)، الآداب الشرعية (٣/ ٣٠٧)، شعر الدعوة الإسلامية ص٥١٧، وبين البيتين بيت آخر وهو قوله:
وتقوى الله خير الزاد ذُخرا وعند الله للأتقى مزيدُ
وصدر البيت الأول: «ولست أرى».
لا يخفى، وهذا معروف في الأصول (١)، ومن ذلك أن الكفار إن أسروا بعض أسارى المسلمين ففداهم المسلمون فإن فداء الأسارى من الكفار وإعطائهم المال هو مفسدة في الجملة، إلا أن مصلحة إنقاذ المسلمين منهم أرجح من هذه المفسدة؛ ولأجل ذلك أطبق جميع العلماء على جواز غرس شجر العنب.
وانْظُرْ تَدَلِّي دَوَالي العِنَبِ في كُلِّ مَشْرقٍ وكلِّ مَغْربِ (٢)
مع أنها تعصر منها الخمر التي هي أم الخبائث، ولكن لما كانت مصلحة وجود العنب والزبيب في جميع أقطار الدنيا مصلحة عامة راجحة، وكون العنب قد يعصر منه بعض السفلة خمرًا، فهذه مفسدة مرجوحة ألغاها الشرع في جنب تلك المصلحة الكبرى العظمى. وكذلك مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد؛ لأن مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد يرمقون هذا في بيته معه زوجاته وبناته وأخواته، وهذا لصيق له، وعنده أيضًا بيته فيه بناته وزوجاته وأخواته، هذا -وهو وجود الجنسين الرجال والنساء في البلد الواحد - قد يكون سببًا للزنا، فإن الناس المختلطة في المحل الواحد قد يكون اختلاطها في البلد الواحد ذريعة إلى الزنا فينظر الرجل فترمي إليه المرأة من الغرفة ورقة فيها وعد، أو يكلمها من فوق السطح كما كان نصر بن حجاج السلمي يقول (٣):
ليْتَني في المُؤَذنينَ نَهَارا إنَّهم يَنْظُرونَ مَنْ في السطوحِ
فيُشيرونَ أوْ يُشارُ إليهم حَبَّذا كُلُّ ذَاتِ دلٍّ مَليحِ
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (١٥١) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
(٣) مضى عند تفسير الآية (١١٨) من سورة الأنعام.
كفارٌ (١)، ومعلومٌ أن في هذا البحثِ مناقشةً، وأن مَنْ قال: يُمْنَعُ دخولُ الكفارِ المساجدَ، أجابوا عن كُلٍّ بجوابٍ، فقالوا في حديثِ ثمامةَ: إنه وَقَعَ قبلَ تحريمِ دخولِ المساجدِ. وجاؤوا بأدلةٍ احْتَجُّوا بها، وحاصلُ ما للعلماءِ فيها هو ما ذَكَرْنَا.
وكان بعضُ العلماءِ يقولُ (٢): إذا أَسْلَمَ الكافرُ لَزِمَهُ أن يتطهرَ؛ لأنه نَجَسٌ، وقال بعضُهم: يجبُ على الكافرِ الطهارةُ إذا أَسْلَمَ، قالوا: لأنه لا بد أن تكونَ كانت عليه جَنَابَةٌ. وهذا قال به جماعةٌ من العلماءِ، ويدلُّ له: أَمْرُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم ثمامةَ بنَ أُثالٍ الحنفيَّ لَمَّا أَسْلَمَ أن يغتسلَ (٣). قالوا: ذَهَبَ إلى حائطِ أبِي طلحةَ واغتسلَ فيه. وقالوا أيضًا: أَمَرَ قيسَ بنَ عاصمٍ لَمَّا أَسْلَمَ أن يغتسلَ بماءٍ وسدرٍ (٤). وكان
_________
(١) خبر قدوم وفد نجران على النبي ﷺ أورده ابن سعد في الطبقات (١/ ٢/٨٤)، وابن هشام في السيرة ص٦١٠، وابن كثير في التفسير (١/ ٣٦٨)، وابن القيم في الزاد (٣/ ٦٢٩). وليس في الخبر أنه أنزلهم المسجد، وإنما دخلوا عليه في المسجد، وأنهم صلوا فيه إلى المشرق.
(٢) انظر: المغني (١/ ٢٧٤ - ٢٧٦)، القرطبي (٨/ ١٠٣).
(٣) أخرجه أحمد (٢/ ٣٠٤، ٤٨٣)، وعبد الرزاق (٦/ ٩)، وابن خزيمة (١/ ١٢٥)، وابن حبان (٢/ ٢٦٩)، والبيهقي (١/ ١٧١)، وابن الجارود (١/ ٢٤) وأصله في الصحيحين كما في الحديث المتقدم قريبًا وفيه: أنه ربطه بسارية من سواري المسجد. وليس فيه أنه أمره بالاغتسال. وانظر: الإرواء (١/ ١٦٤).
(٤) أخرجه أحمد (٥/ ٦١)، وعبد الرزاق (٦/ ٩)، وأبو داود في الطهارة، باب الرجل يُسْلِمُ فيؤمر بالغسل. حديث رقم: (٣٥١) (٢/ ١٩)، والترمذي في الصلاة، باب ما ذكر في الاغتسال عندما يُسْلِمُ الرجل. حديث رقم: (٦٠٥) (٢/ ٥٠٢)، والنسائي في الطهارة، باب غُسل الكافر إذا أَسْلَمَ. حديث رقم: (١٨٨) (١/ ١٠٩)، وابن الجارود (١/ ٢٥)، وابن خزيمة (١/ ١٢٦)، وابن حبان (٢/ ٢٧٠)، والبيهقي (١/ ١٧١) وانظر: الإرواء (١/ ١٦٣).


الصفحة التالية
Icon