والتغطيةُ (١)، ومنه (الجِنَّةُ) وهم - مثلاً - إبليسُ وَجُنْدُهُ؛ لأَنَّا لا نَرَاهُمْ. ومنه: (الجنينُ)؛ لأنه مُسْتَتِرٌ في بطنِ أُمِّهِ، ومنه: (الجُنَّةُ) للدَّرَقَةِ؛ لأنها تَسْتُرُ صاحبَها وتغطيهِ عن السهامِ، ومنه: (جَنَانُ الليلِ). أي: ظلامُه وادْلِهْمَامُهُ. وهذا معروفٌ، كما قال الشاعرُ دُريدُ بنُ الصُّمَّةِ (٢):
وَلَوْلاَ جَنَانُ اللَّيْلِ أَدْرَكَ رَكْضَنَا بِذِي الرَّمْثِ وَالأَرْطَى عِيَاضَ بْنُ نَاشِبِ
هذا أصلُ المادةِ، ومعنَى ﴿جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ أَظْلَمَ عليه الليلُ، وَأَرْخَى سدولَه، حتى غَطَّى الأجرامَ بسوادِه؛ لأنه عندَ ذلك الوقتِ تظهرُ الكواكبُ نَيِّرَةً؛ لأنه قبلَ ادْلِهْمَامِ الليلِ وظلامِه لَمْ تُنِرِ الكواكبُ. ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ أَظْلَمَ وَادْلَهَمَّ وَغَطَّى الأجرامَ بظلامِه.
﴿رَأَى كَوْكَبًا﴾ ﴿رَأَى﴾ معناه: أَبْصَرَ بِعَيْنِهِ ﴿كَوْكَبًا﴾ والكوكبُ: النجمُ الكبيرُ، وعلماءُ التفسيرِ يقولون: إن ذلك الكوكبَ الذي رَآهُ هو الكوكبُ الْمُسَمَّى بالزُهرةِ (٣). وهو من الإسرائيلياتِ، وغايةُ ما دَلَّ عليه القرآنُ أنه رَأَى نَجْمًا كبيرًا، وهو مُرادُهُ بقولِه: ﴿كَوْكَبًا﴾ وكان
_________
(١) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الجيم، باب: ما جاء من كلام العرب في المضاعف والمطابق أوله جيم. ص٢٠٠، المجمل، كتاب الجيم، باب ما جاء من كلام العرب أوله جيم في المضاعف والمطابق، ص١٢٠، المفردات (مادة: جن) ٢٠٣.
(٢) البيت في مجاز القرآن (١/ ١٩٨)، الأصمعيات ص١١٢، إصلاح المنطق ص٢١١.
(٣) انظر: القرطبي (٧/ ٢٥)، البحر المحيط (٤/ ١٦٦)، البداية والنهاية (١/ ١٤٣)، الدر المنثور (٣/ ٢٥).
خلق خلقه، وسبق في سابق أزله أنَّ قَوْماً صائرون إلى الجنة، وقوماً صائرون إلى النار، ثم إن الله صرف بقدرته وإرادته قُدَرَهُم وإراداتهم إلى ما سَبَقَ بِهِ العِلْمُ الأزَلِيُّ، فأتَوْهُ طَائِعِينَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» (١).
وقَدْ بَيَّنَّا أنَّ عَبْدَ الجَبَّارِ المعتزلي لما جاء يَتَقَرَّب بهذا المذهب ويقول: «سبحان من تنزه عن الفحْشَاء!» يعني: أن الله لا يشاء السرقة والزنا؛ لأنهم يزعمون -في زَعْمِهِمُ البَاطِل- أن الله أكرم وأنْزَه وأجَلّ من أن تكون هذه القبائح بمشيئته؛ ولذا قال مُعَبِّراً عن هذا: «سبحان مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفَحْشَاءِ!».
فناظره أبو إسحاق الإسفراييني فقال: «سُبْحَان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء!».
فقال عبد الجبار: «أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه؟».
فقال أبو إسحاق: «أتراك تفعله جبراً عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟».
فقال عبد الجبار: «أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى عليَّ بالرَّدَى، دعاني إلى الخير، وأوضح لي طريق الخير، ولكن سدّ بابه دوني، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟!».
قال: «إن كان الذي منعك حقّاً واجباً لك عليه فقد ظلمك وقد أساء، وإن كان مُلكه المحض فإن أعطاك ففضل وإن منعك فعدل» فَبُهِتَ عَبْدُ الجَبَّارِ. وقال الحاضرون: «والله ما لهذا جواب» (٢).
_________
(١) مضى تخريجه عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام.
﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ﴾ [الأعراف: آية ٥٧] قرأه أكثرُ السبعةِ: ﴿يُرْسِلُ الرِّيَاحَ﴾ بالجمعِ، وقرأه بعضُ السبعةِ: ﴿يرسل الريح﴾ بالإفرادِ. وعلى قراءةِ الإفرادِ فالمرادُ الجنسُ، فلا تُنَافِي قراءةُ الإفرادِ قراءةَ الجمعِ (١).
وقولُه: ﴿بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الأعراف: آية ٥٧] فيه قراءاتٌ كثيرةٌ (٢)، السبعياتُ منها أربعٌ: ﴿نُشُرًا بين يدي رحمته﴾ ﴿نُشْرًا بين يدي رحمته﴾ ﴿نَشْرًا بين يدي رحمته﴾ ﴿بُشْرًا بين يدي رحمته﴾ هذه القراءاتُ الأربعُ هي السبعياتُ من القراءاتِ التي في هذه الكلمةِ.
فقرأ بعضُهم: ﴿نُشُرًا﴾ بِضَمِّ النونِ والشينِ. وهي قراءةُ نافعٍ وابنِ كثيرٍ وأبي عمرو.
وقرأ بعضُهم: ﴿نُشْرًا﴾ بِضَمِّ النونِ وسكونِ الشينِ. وقرأ بها من السبعةِ: ابنُ عامرٍ وحدَه.
وقرأ بعضُهم: ﴿نَشْرًا﴾ بفتحِ النونِ وسكونِ الشينِ. وهي قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ.
وقرأ عاصمٌ وحدَه: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ هذه القراءاتُ السبعيةُ، على أن بعضَ السبعةِ قرأَ (الرياح) وبعضُهم قَرَأَ (الريح).
ومعنى قراءةِ (الريح): جنسُ الرياحِ، فلا تُنَافِي قراءةُ الإفرادِ قراءةَ الجمعِ.
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٠٩، الإتحاف (٢/ ٥١).
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٠٩، حجة القراءات ص٢٨٥.
إلا أن هذا وإن كان قد يكون سببًا لتمكن بعض السفلة من الفاحشة، فمصلحة اجتماع الرجال والنساء في البلد الواحد متعاونين على دينهم ودنياهم أرجح فأُلغيت من أجلها هذه المفسدة، فلم يقل أحد من العلماء أبدًا: إنه يجب أن يُعزل جميع مَنْ فِي البلد من النساء ويُجعلن وحدهن ليس معهن رجل وتجعل عليهن حصون من حديد قوية، وأبواب من حديد، ومفاتح من حديد، عند رجل ذي شيبة مأمون معروف بالتقى!! لم يقل أحد هذا!! والحاصل أن المفاسد الصغيرة المرجوحة مُلغاة لدى المصالح العامة الكبرى كما هو معروف في محله.
وهذه نتف قليلة أشرنا بها إلى أن تشريع خالق هذا الكون، ونور هذا القرآن العظيم هو العدل الكامل، والإنصاف التام، والحكمة البالغة ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: آية ٩] فما يقوله الكفرة والملاحدة ومن قلدهم من الخفافيش لا ينبغي لأحد أن يصغي إليه، ولا أن يبالي به.
ومعنى قوله جل وعلا: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي: جعل من تلك النفس الواحدة التي هي آدم. وقوله: ﴿مِنْهَا﴾ إنما أنث الضمير نظرًا إلى تأنيث النفس، والتأنيث اللفظي قد تجري به أحكام التأنيث ومنه قول الشاعر (١):
أبوكَ خَليفةٌ ولدتْه أُخرى | وأنتَ خليفةٌ ذاكَ الكمالُ |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة البقرة.
ابنُ وهبٍ من أصحابِ مالكٍ يقولُ: لاَ يجبُ عليه إذا أَسْلَمَ غُسْلٌ؛ لأن الإسلامَ يَجُبُّ كُلَّ شيءٍ قَبْلَهُ، ويَجُبُّ الجناباتِ، وَيجُبُّ كُلَّ شَرٍّ وسوءٍ كان قبلَه. هذا معنَى قولِه: ﴿فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾.
﴿بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ وعامُهم هذا هو عامُ تسعٍ على التحقيقِ، وَخَالَفَ قومٌ منهم قتادةُ (١) وأبو بكر بنُ العربيِّ (٢)، قالوا: هو عَامُ عَشْرٍ. وقال أبو بكر بن العربيِّ المالكيُّ: عَجَبًا لعاقلٍ يقولُ: إن هذا العامَ عامُ تِسْعٍ!! ونحنُ نقولُ: العجبُ كُلُّ العجبِ من كلامِ ابنِ العربيِّ هذا!! والعامُ بلا شَكٍّ أنه عامُ تِسْعٍ، والإشارةُ بقولِه: ﴿هَذَا﴾ إلى العامِ الذي هُمْ فيه في ذلك الوقتِ الراهنِ، وهو عامُ تسعٍ بلاَ نزاعٍ، والذي غَلِطَ في هذا من العلماءِ وقال: هو عامُ عَشْرٍ. الْتَبَسَ عليه ما بَيْنَ المضافِ والمضافِ إليه؛ لأن المضافَ هو لفظةُ (بعد)، والباء والعين والدال ﴿بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ البعديةُ المضافةُ إلى عامِهم هذا، فعامُهم هذا هو عامُ تسعٍ يقينًا لا شَكَّ فيه، وما بعدَ عامِ تسعٍ أولُه عامُ عشرٍ؛ لأن الشيءَ إذا انتهى عامَ تسعٍ فالزمنُ الذي بعدَ انتهائِه يُسَمَّى أنه بَعْدَهُ. فالبعديةُ واقعةٌ بعامِ عَشْرٍ، أما العامُ المذكورُ في قولِه: ﴿عَامِهِمْ هَذَا﴾ المضافُ إليه البعديةُ، فهو عامُ تسعٍ بلا نزاعٍ كما لاَ يَخْفَى.
_________
(١) الرواية التي نقلها ابن جرير (١٤/ ١٩٢) عن قتادة (رحمه الله) مصرحة بأنه عام تسع. ولعل الشيخ (رحمه الله) عزا ذلك لقتادة متابعة للقرطبي (٨/ ١٠٦)، وابن العربي في أحكام القرآن (٢/ ٩١٥).
(٢) أحكام القرآن (٢/ ٩١٥).