ذَاتِ اللَّهِ.. » الحديثَ (١).
وهذا حديثٌ صحيحٌ متفقٌ عليه، وهذه الكذباتُ الثلاثُ التي قالها النبيُّ - ﷺ - يعني أنها في الصورةِ كصورةِ الكذبِ، وهي في نفسِ الأمرِ لَيْسَتْ من حقيقةِ الكذبِ (٢)، بدليلِ أنه قال: «اثْنَتَيْنِ مِنْهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ» وكيفَ يكونُ الكذبُ في ذاتِ اللَّهِ؟ فالذي يأتِي في ذاتِ اللَّهِ هو أَحَقُّ الْحَقِّ، وأصدقُ الصدقِ.
والكذباتُ الثلاثُ التي يَعْنِيهَا رسولُ اللَّهِ - ﷺ - في حديثِ أَبِي هريرةَ المتفقِ عليه:
أحدُها: قولُه لقومِه لَمَّا أرادوا أن يخرجَ معهم إلى عِيدِهِمْ، وهو يريدُ أن يتخلفَ عنهم لِيَتَسَنَّى له تكسيرُ الأصنامِ: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ (٩١) مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ (٩٢) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣)﴾ [الصافات: الآيات ٨٨ - ٩٣] فقوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ - وهو صحيحٌ - قال بعضُ العلماءِ (٣): يريدُ أَنِّي سقيمٌ عليكم، سقيمُ القلبِ لخساسةِ عقولِكم، وأنكم تَعْبُدُونَ مع اللَّهِ جماداتٍ، وأنكم ذَاهِبُونَ بفعلِكم إلى النارِ. أو: إِنِّي سقيمٌ في المستقبلِ؛ لأن الإنسانَ لاَ بُدَّ أن يمرضَ فَيَأْتِيهِ الموتُ. وفِي الْمَعَارِيضِ مَنَادِحُ كثيرةٌ عن الكذبِ.
_________
(١) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾. حديث رقم: (٣٣٥٧، ٣٣٥٨) (٦/ ٣٨٨)، وأطرافه: (٢٢١٧، ٢٦٣٥، ٥٠٨٤، ٦٩٥٠) ومسلم في الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل - ﷺ -، حديث رقم: (٢٣٧١) (٤/ ١٨٤٠).
(٢) انظر: الفتح (٦/ ٣٩١).
(٣) انظر: الفتح (٦/ ٣٩١).
والخَوْفِ، فلو كانت محبَّة لا خوف فيها لكان لا عظمة في القلوب، ولوقع الناس في الجناب الإلهي؛ لأنهم لا يخافون من شيء، ولو كان خوفاً محضاً لا مَحَبَّةَ معه ولا رحمة لكان الكل يمقتون الله ويكرهونه، وكان ذلك غير لائق، فاقتضت الحكمة أن يقسم الخلق إلى صنفين؛ ليظهر في هؤلاء بعض أسرار أسمائه وصفاته؛ من الرَّأْفَة والرَّحمة والكرم والجود، وجبل قوماً آخَرِين على خلاف ذلك؛ ليُظهر فيهم بعض أسرار صفاته وأسمائه؛ من القوة والبطش والقهر والعظمة والجلال -سبحانه وتعالى- وله الحكمة البالغة في ذلك، وقد خلق خلقاً، وقال: هؤلاء للنار ولا أُبالي، وخلق قوماً وقال: هؤلاء للجنة ولا أُبالي.
يقول الله جل وعلا: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨)﴾ [الأنعام: الآية ١٤٨].
قد ذكرنا أن الكفار- قبحهم الله- لما أفحمتهم براهين القرآن وحججه في إشراكهم بالله، وتحريمهم ما أحل الله، وأفحمتهم براهين القرآن التجَؤوا إلى شبهة كافرة ضالة مُلْحِدَة، وقالوا: هذا الإشراك الذي تَنْهَانَا عنه يا نَبِيَّ الله - ﷺ -، وهذا التحريم الذي نحرِّمُه؛ كالبحيرة والسائبة، الذي تنهانا عنه، وتُقيم الحجج أنه حرام، نحن ما فعلناه إلا بمشيئة ربنا، فهو قادر على أن يمنعنا منه، لو شاء لمنعنا، ولمَّا تركنا عليه وهو قادر على مَنْعِنَا عرفنا أنه راضٍ عنَّا، وأن هذا الذي نفعل يرضيه؛ إذ لو كان لا يرضيه لمنَعَنَا منه؛ لأنه قادر على منعنا منه؛ إما مَنْعَ قَهْر، وإما منع لطف وتوفيق،
يعني أمامَ المطرِ. فقد سَمَّى المطرَ (رحمةً) لأن اللَّهَ يرحم به عبادَه فتخصبُ بلادُهم وتنمو زروعُهم ومواشيهم وثمارهم، وهو أصلُ النعمِ الدنيويةِ على الْخَلْقِ؛ ولذا سَمَّاهُ (رحمةً) هنا، وفي قولِه بالرومِ: ﴿فَانْظُرْ إِلَى أَثَرِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الروم: آية٥٠] وفي القراءةِ الأُخْرَى: ﴿إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾.
﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً﴾ [الأعراف: آية ٥٧] من فوائدِ الريحِ: كما أن الله ينشرها مُبَشِّرَةً بالمطرِ منتشرةً أمامَه كذلك يحملُ عليها المطرَ؛ لأن السحابَ هو غيرُ المطرِ بإجماعِ أهلِ اللسانِ، فالسحابُ: الوعاءُ الذي فيه المطرُ. والمطرُ: هو نفسُ الماءِ، وهو نفسُ الوَدْقِ.
وهذه الآيةُ من سورةِ الأعرافِ تُبَيِّنُ أن الماءَ أنه في وعاءٍ، وأن ذلك الوعاءَ ثقيلٌ جِدًّا ثقلاً عظيمًا، وأن اللَّهَ يحملُه - مع ثقلِه - على متنِ الريحِ، ثم إن الريحَ تَذْهَبُ به إلى حيثُ شاءَ اللَّهُ (جل وعلا)، فيسيلُ ذلك المطرُ من الثقوبِ والخلالِ التي في ذلك السحابِ الذي هو الوعاءُ، وقد بيَّن اللَّهُ كيفيةَ هذا في سورةِ النورِ في قولِه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾ أي: يسوقُ سحابًا: ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا﴾ أي: مُتَرَاكمًا بعضَه فوقَ بعضٍ ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ﴾ وهو نفسُ المطرِ الذي هو الماءُ ﴿يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ [النور: آية ٤٣] أي: من ثقوبِ السحابِ. وخلالُ الشيءِ: ثقوبُه وفروجُه. فهو يتقاطرُ من الثقوبِ والفروجِ التي جَعَلَهَا اللَّهُ في الوعاءِ الذي يحملُ فيه المطر. وَبَيَّنَ أن ذلك الوعاءَ ثقيلٌ جِدًّا في قولِه: ﴿حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ﴾ [الأعراف: آية ٥٧] أَقَلَّتْ: أي حَمَلَتْ. والعربُ تقولُ. أَقَلَّتْهُ ناقتُه. أي: حَمَلَتْهُ. والمرادُ: أَقَلَّتِ الريحَ، أي:
نعم من الله عليكم، فشكرها أن لا تبطشوا بها إلا في شيء يرضي مَنْ خَلَقَها وأكرمكم ومنَّ عليكم بها، وكذا الرِّجل إلى غير ذلك، وكذا جميع النعم. أما الذي يستعمل نعم الله فيما يسخط الله ويغضبه فهذا ليس من الشاكرين، وهذا مِنْ أَوْقَحِ مَا يتصوره العقل أن يكون هذا العبد المسكين الذليل الضعيف ينعم عليه ربه العلي الأعلى الأعظم بهذا الإنعام ثم يبلغ من الوقاحة والسفاهة والجهل وعدم الحياء أن يصرف نِعَم خَالِقِه (جل وعلا) فيما يسخط رَبّه، هذا أمر عظيم يعرق له الجبين، ويخجل منه العاقل، فلا ينبغي للإنسان أن يصرف نعم الخالق العظيم (جل وعلا) إلا فيما يُرْضِي مَنْ خَلقه ومَنَّ عَلَيْهِ بها.
ومادة (شكر) هي في لغة العرب تتعدى للنعمة وتتعدى للمنعم، فإن تَعَدَّتْ للنعمة تعدّت إليها بلا حرف بلا نزاع بين علماء العربية (١). تقول: (شكر نعمته، وأشكر نعمة الله). وتَعَدِّي الشكر للنعمة بلا حرف أسلوبٌ عَرَبِيٌّ لا نِزَاعَ فِيهِ، وهو في القرآن وفي غيره، أما إذا تعدَّى الشّكْر إلى المنعم كأن تقول: (نحمد الله ونشكر له) فاللغة الفصحى أن تقول: (نحمد الله ونشكر له) ولا تقول: (ونشكره). وقال بعض العلماء: لا يتعدى الشكر للمنعم إلا باللام فتقول: (أحمد الله وأشكر له) ولا تقول: (وأشكره). وشذَّ قوم فزعموا أنك لو قلت: (وأشكره) كان لحنًا، وأنه يجب أن تقول: (وأشكر له). والتحقيق: أن (وأشكر له) -مُعدى باللام - هي اللغة الفصحى، وهي لغة القرآن العظيم، ولم يأت في القرآن العظيم لفظ الشكر مُعدّى إلى المنعم إلا باللام نحو: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٣) من سورة الأنعام.
ما كانوا يأتونَهم به من الطعامِ والأموالِ فَأَغْنَاهُمُ اللَّهُ بذلك (١). وهذا معنَى قولِه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾.
قال بعضُ العلماءِ (٢): يُؤْخَذُ من هذه الآيةِ الكريمةِ حُكْمٌ، وهو أن تعلقَ القلبِ بأسبابِ الرزقِ والمعيشةِ لاَ ينافِي التوكلَ ولا يقدحُ في توكلِ الإنسانِ؛ لأن هؤلاء القومَ لَمَّا تَخَيَّلَ لهم أن الطريقَ التي كانوا يعيشونَ منها أنها انْقَطَعَتْ بمنعِ المشركينَ من الحجِّ، وَخَافُوا الفقرَ من هذا الطريقِ ما عَنَّفَ اللَّهُ عليهم ولاَ عَابَهُمْ بل قَرَّرَهُمْ على ذلك، فقال لهم: إِنْ خِفْتُمُ الفقرَ من هذا الطريقِ، ومن أن السببَ الذي كُنْتُمْ تعيشونَ به أنه انقطعَ فسوفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ بأسبابٍ أُخَرَ. وهذا معنًى معروفٌ، أن الأسبابَ لاَ تُنَافِي التوكلَ، فالمسلمُ الذي يعلمُ ما جاءَ عن اللَّهِ يتسببُ ويتعاطَى جميعَ الأسبابِ لحياتِه، ويتسببُ فِي أسبابِ الرزقِ والمعيشةِ على الوجوهِ الشرعيةِ غيرِ الْمُزْرِيَةِ، ومع ذلك فهو مُتَوَكِّلٌ على اللَّهِ، والذي يتركُ جميعَ الأسبابِ ويقولُ: توكلتُ على الله!! هذا مُخَالِفٌ للشرع، مخالفٌ لِمَا جاء عن اللَّهِ، والذي يعتمدُ في كُلِّ شيءٍ على الأسبابِ ولا ينظرُ إلى رَبِّهِ هذا أيضًا ضَالٌّ مُضِلٌّ، والذي يستعملُ الأسبابَ كما شَرَعَهَا له رَبُّهُ، ويكونُ اعتمادُه في الحقيقةِ على رَبِّهِ فهذا هو المؤمنُ.
ألا تَرَوْنَ أن نَبِيَّ اللَّهِ يعقوبَ، وقد قال اللَّهُ فيه: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ [يوسف: آية ٦٨] عَلَّمَ أولادَه السببَ في التحرزِ عن العينِ فقال لهم: ﴿يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾ فهذا تَسَبُّبٌ في التحرزِ عن العينِ؛ لأنها تَضُرُّ، ثم صَرَّحَ مع ذلك بتوكلِه الكاملِ على
_________
(١) هذه المعاني ذكرها القرطبي (٨/ ١٠٦).
(٢) السابق (٨/ ١٠٧).