وَيُوَبِّخَهُمْ، كأنه يقولُ: هذا رَبِّي على التسليمِ الجدليِّ وَالتَّنَزُّلِ، وفَرْضِ الْمُحَالِ، وتسليمِ الْمُحَالِ، على قولِكم الكاذبِ الفاسدِ، فكيفَ يكونُ الرَّبُّ وهو يأفلُ ويسقطُ؟ فمقصودُه بهذا ليُفْحِمَهُمْ، فلو قال لهم عندَ أولِ وَهْلَةٍ: الكوكبُ مخلوقٌ مُسَخَّرٌ، لاَ يمكنُ أن يكونَ رَبًّا. لقالوا له: أنتَ كَذَّابٌ، الكوكبُ رَبٌّ لاَ محالةَ. فَلَمَّا تَنَزَّلَ معهم، وَسَلَّمَ لهم الكذبَ والمحالَ أَمْكَنَهُ أن يُفْحِمَهُمْ، وعلى هذا فمعنَى قولِه: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ أي: في زَعْمِكُمْ الكافرِ الفاسدِ. فَمِنْ أينَ يكونُ الربُّ وهو يَأْفُلُ؟ أي يَسْقُطُ.
الوجهُ الثاني: هو ما قَالَهُ بعضُ العلماءِ: مِنْ أن المقررَ في علومِ العربيةِ أن الجملةَ إذا صُدِّرَتْ بهمزةِ استفهامٍ أو همزةِ تسويةٍ، وكان المقامُ يَدُلُّ عليها، أن حذفَها جائزٌ، وعليه فالمعنَى: أَهَذَا رَبِّي؟! إنكارًا لهم. وحَذَفَ همزةَ الاستفهامِ. قالوا: وحَذْفُ همزةِ الاستفهامِ إذا دَلَّ المقامُ عليه ذَهَبَ غيرُ واحدٍ من علماءِ العربيةِ إلى أنه جائزٌ، وقال بِاطِّرَادِهِ جماعةٌ من النحويين، منهم: الأخفشُ، واعتمدَه ابنُ مالكٍ في شرحِ الكافيةِ، وقال به غيرُ وَاحِدٍ (١).
وإذا نَظَرْتَ كلامَ الربِّ وَجَدْتَهُ كَثِيرًا فيه، فائضًا فيه، كثرةً تُعْرَفُ منها أنه جَائِزٌ.
وهو يُوجَدُ في كلامِ العربِ على ثلاثة أنحاءَ - أَعْنِي حذفَ همزةِ الاستفهامِ إذا دَلَّ المقامُ عليها -: يوجدُ بدونِ (أَمْ)، وبدونِ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٤٨٤)، الكتاب (٣/ ١٧٤)، الصاحبي ٢٩٦، الخصائص (٢/ ٢٨١)، شرح الكافية لابن مالك (٣/ ١٢١٥ - ١٢١٧)، الخزانة (٤/ ٤٤٧ - ٤٥٠)، القرطبي (٧/ ٢٦)، الدر المصون (٥/ ١٢)، التوضيح والتكميل (٢/ ١٧٧)، ضياء السالك (٣/ ١٩٧).
الخير، طبقاً لما سبق به العلم الأزلي، وصَرَفَت إرادات وقُدر غيرهم إلى ما سبق به العلم الأزلي، فوجّهت قدرةُ الله وإرادتُه كلَّ مخلوق لما سبق له به العلم الأزلي، فأتاه طائعاً ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ [الإنسان: الآية ٣٠].
[٢٠/ب] /ومن هنا يظهر سقوط استدلال المعتزلة بهذه الآية (١)؛ لأن هذه الآية عندهم هي محل خصب عظيم لدعواهم أن الإشراك ليس بمشيئة الله؛ لأنهم زعموا أن الكفار لما قالوا: ﴿لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ كذبهم الله في أن الشرك بمشيئته وقال: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا﴾ ولم يتفطنوا؛ لأن المنفي في الحقيقة هو استلزام تلك المشيئة بالرضا، هذا هو المنفي حقّاً، وقد قدمنا حل هذه الشبهة مراراً، فالمعتزلة -قبحهم الله- أرادوا أن يُنَزِّهُوا الله عن شيء فقدحوا في ربوبيته (جل وعلا)، فوقعوا في أعظم مِمَّا فَرُّوا مِنْه، أرادوا أن يجعلوا القبائح؛ كالشرك، والردة، والزنا، والسرقة أنها ليست بمشيئة الله وأنها بمشيئة العبد، يزعمون أنهم ينزهون الله عن غير اللائق، فَقَدَحُوا في ربوبية الله، وجَعَلُوا خَلْقه وكونه يقع فيه شيء من غير مشيئته، فوقعوا في أعظم مما فرُّوا مِنْهُ بِأَضْعَاف.
والتحقيق الذي لا شك فيه: أنه لا يمكن أن يقع في العالم تَحْرِيكَة ولا تَسْكِينَةٌ، ولا خير ولا شر إلا بمشيئة الله (جل وعلا)، وادِّعَاء المعتزلة أن العبد يخلق أعمال نفسه بلا تأثير لِقُدْرَةِ اللهِ فيها لا يخفى أنه قدح في ربوبية الله؛ إذ لا شيء أعْظَم مِنْ أن يكون خالق الكون يقع في ملكه شيء ليس بمشيئته، هذا أعظم الكفر والقدح بالله
_________
(١) مضى قريباً عند تفسير الآية (١٠٦) من هذه السورة.
والشاهدُ: أن المطرَ لا تنزلُ قطرةٌ منه إلا بمشيئةِ خالقِ السماواتِ والأرضِ وبتدبيرِه. وقد بَيَّنَ لنا كيفَ يُنْزِلُهُ: أن اللَّهَ يسوقُ سحابًا وهو المزنُ الذي هو وعاءُ الماءِ، ثم يجمع بعضَه إلى بعضٍ حتى يجعلَه متراكمًا بعضَه فوقَ بعضٍ، ثم يُخْرِجُ الماءَ من تلك الثقوبِ والفروجِ التي هي خلالُ ذلك السحابِ. وهذا صريحُ قولِه تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ [النور: آية ٤٣] أي: ترى ماءَ المطرِ يخرجُ من الخلالِ، جمع (خَلَل) وهي الثقوبُ والفروجُ التي في ذلك السحابِ الذي هو وعاءُ الماءِ. فهذا بفعلِ ملكٍ مقتدرٍ يُنْزِلُ المطرَ حيث شَاءَ، ويحملُ السحابَ الموقرةَ الثقيلةَ بالماءِ على مَتْنِ الريحِ، ثم يأمرُها بأن تَصُبَّهَا بالمكانِ الذي شَاءَ بتصريفٍ مِنْ عَالِمٍ قديرٍ، عالمٍ بقدرِ المطرِ الذي ينزلُه وبقدرِ الرشاشِ الذي ينزله. وقد بَيَّنَ تعالى أن كثيرًا من الخلقِ سيكفرونَ بهذا، كالذين يزعمونَ أن المطرَ لم يَنْزِلْهُ خالقٌ، وإنما هو أمرٌ طبيعيٌّ، كما يزعمُه الكفرةُ الإفرنجُ وأتباعُ الإفرنجِ، لاَ يعترفونَ بأن المطرَ ينزلُه حكيمٌ خبيرٌ، بل يذهبونَ إلى فكرةٍ كافرةٍ ملحدةٍ يُقَرِّرُهَا كثيرٌ ممن لا يَفْهَمُ، ثم يطمسُها وَيذُرُّ في عيونِ الناسِ أن يقولَ: «بمشيئةِ اللَّهِ» مجاملةً.
وهو يعتقدُ الطبيعيةَ كما يعتقدُها الكفرةُ الإفرنجُ الذين قَرَّرُوا هذا!! فَهُمْ - والعياذُ بالله - كالأنعامِ بل هم أَضَلُّ، لا يعترفونَ بخالقٍ حكيمٍ مُدَبِّرٍ ينزلُ المطرَ، فيزعمونَ أن نزولَ المطرِ أمرٌ طبيعيٌّ، وأن حرارةَ الشمسِ إذا تَتَابَعَتْ على البحرِ حتى بلغت مئةَ درجةٍ تَبَخَّرَ ماءُ البحرِ، وكذلك احتكاكُ الماءِ بالريحِ يُبَخِّرُهُ، فيتصاعدُ بخارُ الماءِ وتتحللُ منه الأجرامُ الملحيةُ، ثم يتكاثفُ البخارُ بعضُه فوقَ بعضٍ، ثم إذا اجتمعَ وَلاَقَى هواءً بصفةِ كذا جاءته
والتحقيق أنها لم يثبت في الحقيقة شيء منها والأغلب أن من رويت عنه من الصحابة أخذوها عن بعض الإسرائيليين.
الوجه الثاني: أن الآية الكريمة على أسلوب عربي معروف، وهو أنه جرت العادة في القرآن أن يسند فعل الآباء إلى الأولاد، وربما أسند فعل الأولاد إلى الآباء، وأن الفعل هنا أُسند لآدم وحواء (جعلا) بألف التثنية الواقعة على آدم وحواء، والمراد ذريتهما التي أعطاها الله التناسل يخرج هذا بشرًا سويًّا، ويخرج بسلام، ومع ذلك يكفرون بالله (جل وعلا) ويعبدون غيره، والدليل على أنه أطلق آدم وحواء وأراد ذريتهما من القرآن أنه قال بعده: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٩٠] ثم قال: ﴿أَيُشْرِكُونَ﴾ بصيغة الجمع ﴿مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٩١] ثم ذكر علامات الأصنام التي يُشرك بها أولادهم كما هو واضح. وهذا القول أرْجَح، واختاره غير واحد من المحقِّقِين لدلالة القرآن عليه، ونظيره من القرآن: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾ [الأعراف: آية ١١]؛ لأن معنى ﴿صَوَّرْنَاكُمْ﴾ هنا: صورنا أباكم آدم. فنسب التصوير إليهم والمُصوَّر أبوهم آدم، بدليل أنه قال: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ﴾ وأمر الملائكة بالسجود قبل تصوير بني آدم الآخرين كما لا يخفى.
قراءةِ ﴿نَنْسَأها﴾ (١) يعني: نُؤَخِّرُهَا؛ لأن اللَّهَ يؤخرُ بعضَ الآياتِ إلى أمدٍ معلومٍ، ثم يأتِي ببدلها، تارةً يأتِي ببدلِها ناسخًا، وتارةً تكونُ مُنسأة لا منسوخةً؛ لأنها كانت مَعْلُومًا أنها مُغَيَّاةٌ بغايةٍ. وإيضاحُ هذا: أن اللَّهَ أَنْزَلَ آياتٍ في أهلِ الكتابِ تَدُلُّ على عدمِ قتالِهم، كقولِه في سورةِ البقرةِ: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ [البقرة: آية ١٠٩]. ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾ أي: عن أهلِ الكتابِ ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ أي: حتى يأتيَكم الأمرُ الأخيرُ من الله. وكانت هذه الآيةُ من سورةِ براءة فيها الأمرُ الذي كانوا ينتظرونَه في آيةِ البقرةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: آية ٢٩].
لأن أهلَ الكتابِ من يهودٍ وَنَصَارَى وإن قالوا: لا إله إلا الله وأقروا بالقيامةِ فَهُمْ كَمَنْ أَنْكَرَ وجودَ اللَّهِ وأنكرَ وجودَ القيامةِ؛ لأنهم لَمَّا اتخذوا الأربابَ معه وَأَشْرَكُوا به في الأربابِ وقالوا: إن عُزيرًا ابنُه، وإن المسيحَ ابنُه!! هذا قولُ مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ولاَ باليومِ الآخِرِ؛ لأن الكافرَ إذا كَفَرَ بِاللَّهِ من وجهٍ لا ينفعُه الإيمانُ به من وجهٍ آخَرَ، فَمَنْ قال: لاَ إلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَادَّعَى لله ولدًا، أو شريكًا، أو رَبًّا معه، فهذا لا يؤمنُ بالله ﴿وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ وهو يومُ القيامةِ، ﴿وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ بل يُحِلُّونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ويحرمونَ ما أحلَّ الله، ﴿وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ﴾، الذي هو دينُ الإسلامِ.
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٣٤.