ذِكْرِ الجوابِ، ويوجدُ بدونِ (أَمْ) مع ذِكْرِ الجوابِ. وهو مع (أَمْ) كثيرٌ مُطَّردٌ شائعٌ.
فمثالُ وجودِه دونَ (أَمْ) ودونَ ذِكْرِ الجوابِ: قولُ أَبِي خراشٍ الْهُذَلِيِّ - وَاسْمُهُ خويلدُ (١) -:
رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ
يعني: أَهُمُ هُمُ؟ فحذفَ همزةَ الاستفهامِ، وَمِنْ هَذَا المعنَى قولُ الكُمَيْتِ (٢):
طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ وَلاَ لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ؟
يعني: أَوَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ؟! فحذفَ همزةَ الاستفهامِ.
ومنه دونَ (أَمْ) مع ذكرِ الجوابِ على التحقيقِ: قولُ عمرَ بنِ أَبِي ربيعةَ المخزوميِّ (٣):
أَبْرَزُوهَا مِثْلَ الْمَهَاةِ تَهَادَى بَيْنَ خَمْسٍ كَوَاعِبٍ أَتْرَابِ
ثُمَّ قَالُوا: تُحِبُّهَا؟ قُلْتُ بَهْرًا عَدَدَ النَّجْمِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ
فقوله: «تُحِبُّهَا»، يعني: أَتُحِبُّهَا؟؟ وإتيانُه مع (أَمْ) لا تكادُ تُحْصِيهِ في كلامِ العربِ وأشعارِهم، فَمِنْ حَذْفِ همزةِ الاستفهامِ قبلَ
_________
(١) البيت في: الخصائص (١/ ٢٤٧)، (٣/ ٣٣٧)، الصاحبي ٢٩٦، ابن جرير (١١/ ٤٨٤)، الخزانة (١/ ٢١١).
(٢) البيت في: الخصائص (٢/ ٢٨١)، شرح الكافية (١/ ٣٩٩)، (٣/ ١٢١٧)، الخزانة (٤/ ٤٤٨).
(٣) هذان البيتان يفصل بينهما نحو ستة أبيات من القصيدة. وهما في ديوانه ٥٩ - ٦٠، الخصائص (٢/ ٢٨١) والمثبت فيهما: «عدد القطر».
-عياذاً بالله- ففروا من شيء فَوَقَعُوا في أعظم مما فَرّوا مِنْهُ، والله (جل وعلا) يقدر الأشياء ويخلقها، وتضاف لمكتسبيها، فالسرقة والزنا لا تكون إلا بمشيئة الله، وكل شر لا يكون إلا بمشيئة الله -ayah text-primary">﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (٢)﴾ [الفلق: الآيتان ١، ٢] لأن كل ذلك الشر إنما خَلَقَهُ الله، فالله (جل وعلا) خالق، والعبد كاسب وفاعل، فلا تُضَافُ السَّرِقَةُ إلى الله، فلا يجوز أن تقول في حقه: سارق -سبحانه جل وعلا عن ذلك علوّاً كبيراً! - وإنما السارق مَنْ أَوْجَدَ الله منه الفعل وقَدَّره عليه، فالله (جل وعلا) يُوَجِّهُ إرادات المخلوقين وقدرتهم إلى مَا سَبَقَ به علمه الأزلي مما هم صائرون إليه، فيَتَوَجَّهون إليه بمشيئة الله طائعين فيعملونه -ayah text-primary">﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ [الإنسان: الآية ٣٠] وهذه المسألة قد سأل عنها الصحابة النبي - ﷺ - كما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما أنهم سألوه: هذا العمل الذي نعمل أنعمله لأمر مُؤْتَنَف، ونُحْدِث به سعادة لم تكن سابقة، أو شقاوة لم تكن سابقة؟ فأخبرهم بأن الأمر ليس بأُنف، وأنه مفروغ منه، وأن القَلَمَ جَرَى بما هو كائن، وأن السَّعِيدَ مَنْ كُتِبَ عِنْدَ الله سعيداً، والشقي من كُتب شقيّاً، فسألوه: لِمَ لا يَتَّكِلُونَ على الكتاب الذي كَتَبَهُ الله، ويتركون الأعمال، فمن كُتبت له الجنة فهو داخلها، ومن كتبت له النار فهو داخلها؟ فبين لهم - ﷺ - أن كلاًّ مُيَسَّرٌ لما خُلق له، فالذين سبقت لهم السعادة يستعملهم الله بقدرته وإرادته في فعل الخَيْرات، ويوجه قدرتهم ومشيئتهم إلى الخير بقدرته وإرادته، والعكس بالعكس (١)
﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ [الإنسان: الآية ٣٠].
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام..
ريحٌ وَفَرَّقَتْهُ، وصارَ هو الرشاشُ بطبيعتِه وطبيعةِ المطرِ من غيرِ فاعلٍ مختارٍ!! وهذا كُفْرٌ بالله، وإلحادٌ سَافِرٌ، ونفيٌ للخالقِ الذي لا يكونُ شيءٌ إلا بأمره وقضائِه.
وَاللَّهُ قد بَيَّنَ أن كثيرًا من الناسِ سيَؤُولُونَ إِلى هذا الكفرِ والإلحادِ؛ لأنه لَمَّا ذَكَرَ المطرَ في سورةِ الفرقانِ قال: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ ﴿أَنزَلْنَا﴾ نسبَ الإنزالَ لنفسِه بصيغةِ التعظيمِ قال: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفرقان: الآيات ٤٨ - ٥١] يعني: لقد صَرَّفْنَا الماءَ بَيْنَ بني آدمَ فَأَكْثَرْنَا المطرَ في عامٍ على بعضِ الجهاتِ فَأَخْصَبَتْ لنختبرَ أهلَها هل يشكرونَنا على ذلك الإنعامِ؟ وَصَرَّفْنَا الماءَ في بعضِ السنينَ عن بعضِ البقاعِ حتى تمحلَ وتجدبَ لنختبرَ أهلَها هل يصبرونَ؟ وهل يُنِيبُونَ إلينا ويتضرعونَ لنكشفَ عنهم الضراءَ؟ فهو تصريفُ حكيمٍ خبيرٍ يُصَرِّفُ الماءَ بحكمتِه وإرادتِه، وينزلُه بمشيئتِه على هذا الوجهِ الأعظمِ الكريمِ الذي يَنْزِلُ رشاشًا.
والله لَمَّا قال: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا﴾ لأَجْلِ أن يتذكرَ مَنْ جاءهم الماءُ فأخصبوا فيشكروا نعمةَ اللَّهِ ويتذكر مَنْ صُرِفَ عنهم الماءُ فأجدبوا؛ لِيُنِيبُوا إلى اللَّهِ، ويتوبوا إلى اللَّهِ ثم قال: ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا﴾ [الفرقان: آية ٥٠] فَأَبَى أكثرُ الناسِ إلا كفورًا بالله - جل وعلا - وَمِنْ أعظمِ الكفورِ الذي أَبَوْا إلا إياه: قولُهم: إن الماءَ يُنْزِلُهُ بخارُ كذا وكذا، وطبيعةُ كذا وكذا، فقد صَدَقَ اللَّهُ - جل وعلا - ولا تأتِي بليةٌ ولا إلحادٌ يتجددُ في الزمانِ إلا وهو مُشَارٌ إليه في القرآنِ.
فقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا﴾ وَإِتْبَاعُهُ لذلك بقولِه: ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا﴾ [الفرقان: آية ٥٠]
وهذا معنى قوله: ﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا﴾ القول الأول: سمّيا الولد عبد الحارث، وعلى الثاني: المُراد: ذريتهما جعلت لله شركاء، فأشركت بالله (جل وعلا) الأصنام، وشاركوه في جميع ما أعطاهم من النعم والأولاد حتى قال الله للشيطان: ﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ﴾ [الإسراء: آية ٦٤] وقال تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا﴾ [الأنعام: آية ١٣٦] وكونه أسند الفعل لآدم وحواء وأراد ذرّيّتهما وهو الذي دَلَّ عَلَيْهِ القرآن؛ ومثل هذا كثير في القرآن؛ لأنه يقول لبني إسرائيل في زمن النبي: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ [البقرة: آية ٥٧] ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ [البقرة: آية ٦٣] والمفعول بهم هذا أسلاف أسلاف أسلافهم لا هؤلاء الموجودين كما هو معروف. وهذا معنى قوله: ﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ﴾ أي: تَقَدَّس وتَعَاظَم وتنَزَّهَ ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ به، وهو (جل وعلا) مُنَزَّه عن الشريك، وهو الواحد الأحد في عبادته وأسمائه وصفاته وأفعاله لا شريك له في شيء من ذلك.
[٢٦/ب] /ثم قال منكرًا عليهم: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا﴾ ﴿أَيُشْرِكُونَ﴾ بالله وهو خالق كل شيء ﴿مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا﴾ [الأعراف: آية ١٩١] هذا ليس بإنصاف، وقد جرت العادة في القرآن في آيات كثيرة أنه يجعل سبب العبادة التي تُستحق به هو الخلق والإبراز مِنَ العَدَمِ إلى الوجود، فمن يبرزكم من العدم إلى الوجود، ويوجدكم بعد أن كنتم عدمًا هذا هو ربكم الذي يستحق أن تعبدوه وحده، أما الذي يحتاج إلى من يخلقه فهو عبد مربوب فقير مثلكم، عليه أن يَعْبُدَ مَنْ خَلَقَه؛
وفي قولِه: ﴿دِينَ الْحَقِّ﴾ وجهانِ من التفسيرِ (١):
أحدُهما: أن (الحقَّ) هو ضِدُّ الباطلِ، وأن دينَ الحقِّ من إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه. أي: الدينُ الذي هو الحقُّ الذي هو دينُ الإسلامِ. ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: آية ٨٥]. ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ﴾ [آل عمران: آية ١٩].
الوجهُ الثانِي: أن الحقَّ هو اللَّهُ، فالحقُّ من أسماءِ اللَّهِ. ﴿وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ﴾ أي: دين الله الذي شَرَعَهُ على لسانِ نَبِيِّهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وقولُه: ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ بيانٌ للذين أُمِرُوا بقتالِهم الموصوفونَ بأنهم لاَ يؤمنونَ بالله إلى آخِرِ ما ذكر.
﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ مِنْ يَهُودٍ وَنَصَارَى.
وعندما نَزَلَتْ تَجَهَّزَ ﷺ لقتالِ النصارى في غزوةِ تبوك كما ستأتِي تفاصيلُه في هذه السورةِ الكريمةِ.
﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ﴾: (حتى) حرفُ غايةٍ، وَالْمُغَيَّا هنا ﴿قَاتِلُوا﴾ أي: قاتلوهم، وَأَمَدُ ذلك القتالِ إلى غايةٍ هي أن ﴿يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ﴾ إِذْ لم يؤمنوا بالله، فإن آمَنُوا بالله فَذَلِكَ، وإلا فَلاَ بُدَّ أن يُعْطُوا الجزيةَ.
الجزيةُ: (فِعْلةٌ) وقد تَقَرَّرَ في عِلْمِ العربيةِ أن (الفِعلةَ) بكسرِ الفاءِ تأتِي لبيانِ الهيئاتِ، من هيئاتِ المصدرِ. وأصلُها من جَزَى يجزي؛ لأن الكفارَ - أهلُ الكتابِ -: يُنْعِمُ عليهم المسلمونَ بحقنِ
_________
(١) انظر البحر المحيط (٥/ ٢٩).