(أَمْ) قولِ عمرَ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ (١):

بَدَا لَِي مِنْهَا مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنَانِ
فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَحَاسِبٌ بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ
يَعْنِي: أبسبعٍ أَمْ بِثَمَانِ.
ومنه بهذا المعنَى قولُ الأَخْطَلِ (٢):
كَذَبَتْكَ عَينُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ غَلَسَ الظَّلاَمِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالاَ
يعني: أَكَذَبَتْكَ، بحذفِ الهمزةِ. كما جَوَّزَهُ سيبويه في كتابِه خلافًا للخليلِ (٣). ومنه بهذا المعنَى قولُ الأسودِ بنِ يعفرَ التميميِّ (٤):
فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا شُعَيثُ بُنْ سَهْمٍ أَمْ شُعيْثُ بْنُ مِنْقَرِ
يعني: أَشُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ؟ ومنه بهذا المعنَى قولُ أُحيحةَ بنِ الجُلاحِ الأنصاريِّ المشهور (٥):
وَمَا تَدْرِي وَإِنْ ذَمَّرْتَ سَقْبًا غَيْرِكَ أَمْ يَكُونُ لَكَ الْفَصِيلُ
يعني: أَلِغَيْرِكَ.
_________
(١) البيت في: الكتاب (٣/ ١٧٥)، الصاحبي ٢٩٧، شرح الكافية (٣/ ١٢١٥)، الخزانة (٤/ ٤٤٧).
(٢) البيت في ديوانه ٢٤٥، الكتاب لسيبويه (٣/ ١٧٤)، الخزانة (٤/ ٤٥٢).
(٣) انظر: الكتاب لسيبويه (٣/ ١٧٤).
(٤) البيت في الكتاب (٣/ ١٧٥)، الخزانة (٤/ ٤٤٨ - ٤٥٠) شرح الكافية (٣/ ١٢١٣)، وشطره الأول هكذا:
(لعمرك ما أدري... ) إلخ.
(٥) البيت من قصيدة لأُحيحة بن الجلاح الأوسي الجاهلي كما في ديوانه، ص٧٥.
وقد بَيَّنَّا مِرَاراً (١) القصص والمناظرات التي تدل على إفحام المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن الأعمال السيئة بمشيئة العبد لا بمشيئة الله، وهذا تلزم عليه محاذير عظيمة:
أحدها: القدح في علم الله؛ لأن الله (جل وعلا) عالم بما سيفعله خلْقُهُ، وما هم عاملون إلى يوم القيامة، مقدِّر ذلك في أزَلِهِ، فلو فرضنا -والعياذ بالله- قول مجوس هذه الأمة -المعتزلة- أن العبد يستقل بِعَمَل فعله، فلو كان سبق علم الله أن هذا العبد لا يزني يوم كذا وكذا، وأراد العبد بمشيئته أن يخترع ذلك الزنا، فإذا فعله بدون مشيئة الله فقد انقلب علم الله جهلاً -سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً- بل هو المحيط علمه بكل شيء، المقَدِّر كل شيء في الأزَلِ، الذي يقضي الأمور في أوقاتها التي قَدَّرها لها ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)﴾ [القمر: الآيتان ٤٩، ٥٠].
فالمُجبِرَة ضُلاَّل؛ حيث ينفون عن العبد أن له فعلاً، والقدرية ضُلَّال؛ حيث ينفون أن هذا بمشيئة الله، ومذهب أهل السنة والجماعة خارج مِنْ بين المذهبين خروج اللبن من بين الدم والفرث لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، فهو لا كما تقوله الجبرية، ولا كما تقوله المعتزلة، فكل شيء بمشيئة الله، والله يصرف مشيئات الخلق إلى ما سبق به علمه الأزلي، فيأتونه طائعين ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ [الإنسان: الآية ٣٠] والمعتزلة يقولون: إن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح، وإذا فَعَلَ لِلْعَبْدِ غير الأصلح فقد أَخَلَّ بالْوَاجِبِ عَلَيْهِ؛ ولذا عندهم لا يفعل للعبد إلا الأصلح، وسبب ترك أبي الحسن الأشعري لمذهبهم؛ لأنه كان على مذهب المعتزلة زمناً طويلاً، وألّف فيه مئات الكراريس، ينصر مذهب المعتزلة،
_________
(١) السابق.
من غرائبِ هذا القرآنِ وعجائبِه. وتطبيقُه الآن على أكثرِ مَنْ في المعمورةِ، ينفونَ أن المطرَ نازلٌ بحكمةِ خبيرٍ عليمٍ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - فينطبقُ عليهم قولُه: ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا﴾ وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ عن النبيِّ ﷺ أن النبيَّ ﷺ كَلَّمَهُمْ صبيحةَ ليلةٍ كان فيها مطرٌ، وقال لهم: «هَلْ سَمِعْتُمْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمُ الْبَارِحَةَ؟» قالوا: ماذا قال؟ قال: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ. أَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. فَهُوَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» (١).
وَأَكْفَرُ منه بالله مَنْ قال: مُطِرْنَا ببخارِ كذا وكذا لا بفعلِ اللَّهِ وإرادتِه. فعلى المؤمنِ أن يعتقدَ أن المطرَ أَنْزَلَهُ حكيمٌ خبيرٌ، وأنه ماءٌ يُنْزِلُهُ مِنْ حيث شاء، إما من السماءِ أو من حيث شَاءَ اللَّهُ (جل وعلا) فيجعلُه في أوعيةِ السحابِ، فتمتلئُ حتى تكونَ ثقيلةً جِدًّا، كما قال هنا: ﴿حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً﴾ [الأعراف: آية ٥٧].
والثقالُ: جمعُ ثقيلةٍ، وإنما كانت ثقيلةً لكثرةِ ملئها من الماءِ. وَصَرَّحَ بأن الريحَ تُقِلُّهَا، وأنه يحملُها على ظهرِ الريحِ حتى تمطرَ في الموضعِ الذي شَاءَ اللَّهُ، وصرح بأنه هو الذي يصرفُ المطرَ بإرادتِه ومشيئتِه، فينزلُه على قومٍ فيخصبوا ليُختبروا هل يَشْكُرُونَ؟ ويرفعُه عن
_________
(١) البخاري في الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم. حديث رقم: (٨٤٦)، (٢/ ٣٣٣). وأطرافه في: (١٠٣٨، ٤١٤٧، ٧٥٠٣)، ومسلم في الإيمان، باب بيان كفر من قال: مُطرنا بالنوء. حديث رقم (١٢٥)، (١/ ٨٣)، من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه.
ولذا قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: آية ٢١] وقال: ﴿أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: آية ١٦] أي: وخالق كل شيء هو المعبود وحده جل وعلا ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا﴾ [الحج: آية ٧٣] ومن لم يخلق شيئًا لا يمكن أن يكون معبودًا؛ ولذا قال: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا﴾ [الأعراف: الآيتان ١٩١، ١٩٢] لا يقدرون أن ينصروهم إذا دعوهم وعبدوهم ﴿وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ﴾ النصر في اللغة: هو إعانة المظلوم. يعني: إن ظُلموا لا يَدفع عنهم الظلم، ولو ظُلم نفس الأصنام لا يقدرون أن ينتصروا لأنفسهم لأنهم جماد، وهذا معنى قوله: ﴿وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (١٩٢)﴾ كما قال تعالى: ﴿وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: آية ٧٣].
﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٩٤)﴾ [الأعراف: الآيتان ١٩٣، ١٩٤].
﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ﴾ قرأ هذا الحرف جماهير القراء، منهم عامة السبعة غير نافع: ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ﴾ مضارع اتبعه يتَّبعه، وقرأه نافع وحده من السبعة: ﴿وإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الهُدَى لاَ يَتْبَعُوكُم﴾ وتبعه واتّبعه بمعنى واحد، فكلتاهما قراءتان صحيحتان، ولغتان فصيحتان معناهما
دمائِهم وعدمِ قتلِهم. والمدافعةِ عنهم، وَمَنْعِ كُلِّ مَنْ أَرَادَ أن يظلمَهم، فهذا الإحسانُ يُجَازَوْنَهُ نوعًا من الجزاءِ عُبِّرَ عنه بالجزيةِ من (جزى يجزي) إذا كَافَأَ ما أُسْدِيَ إليه، تقولُ العربُ: أَحْسَنَ إِلَيَّ فَجَزَيْتُهُ، أي: كَافَأْتُهُ بما أَسْدَى، ومنه قولُ الشاعرِ (١):
يَجْزِيكَ أَوْ يُثْنِي عَلَيْكَ وَإِنَّ مَنْ أَثْنَى عَلَيْكَ بِمَا فَعَلْتَ كَمَنْ جَزَى
وقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: ﴿عَنْ يَدٍ﴾ فيه أَوْجُهٌ من التفسيرِ معروفةٌ عندَ العلماءِ لاَ يُكَذِّبُ بعضُها بعضًا (٢): قال بعضُ العلماءِ: ﴿يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ﴾: أي: عَنْ قهر وتحتَ ذُلٍّ وكلِّ ما أعطاه الإنسانُ مقهورًا ذليلاً تقولُ العربُ: أَعْطَاهُ عَنْ يَدٍ. وقال بعضُ العلماءِ: يُعْطِيهِ عن يدٍ معناه: يُسَلِّمُهُ بيدِه ولاَ يُرْسِلُ به غيرَه، فالدافعُ واقفٌ والآخِذُ جالسٌ. وقال بعضُ العلماءِ: ﴿عَنْ يَدٍ﴾ أَيْ: نَقْدًا مُتسلمًا باليدِ لا نسيئةً. وقال بعضُ العلماءِ: ﴿عَنْ يَدٍ﴾ أي: عن اعترافِهم بنعمةِ المسلمينَ عليهم حيث قَبِلُوا منهم العوضَ ولم يقتلوهم. والحالُ في هذا ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ الصاغرونَ: المتصفونَ بالصَّغَارِ. والصَّغَارُ في لغةِ العربِ معناه: الذلُّ والحقارةُ والهوانُ. ومعنَى: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أي: حَقِيرُونَ ذَلِيلُونَ. وَسَنُبَيِّنُ هنا - إن شاء الله - بعضَ أحكامِ الجزيةِ:
اعْلَمُوا أَوَّلاً أن النبيَّ ﷺ نَزَلَ عليه القرآنُ بجوازِ أَخْذِ الجزيةِ من أهلِ الكتابِ، ولكنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) بَيَّنَ أنهم وإن أُخِذَتْ منهم الجزيةُ فلاَ يجوزُ بحالٍ من الأحوالِ ولاَ بِوَجْهٍ من الوجوهِ
_________
(١) البيت في القرطبي (٨/ ١١٤)، البحر المحيط (٥/ ٣٠).
(٢) انظر: القرطبي (٨/ ١١٥)، البحر المحيط (٥/ ٣٠).


الصفحة التالية
Icon