وقولُ الخنساءِ الشاعرةِ (١):
قَذًى بِعَيْنَيْكَ أَمْ بِالْعَيْنِ عُوَّارُ أَمْ خِلْتَ إِذْ أَقْفَرتْ مِنْ أَهْلِهَا الدَّارُ
وقولُ امْرِئِ الْقَيْسِ (٢):
تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَوْ تَبْتَكِرْ وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأَنْ تَنْتَظِرْ؟
وهو كثيرٌ شائعٌ، قالوا: فَعَلَى هذا فيكونُ الْمَعْنَى: أَهَذَا رَبِّي؟ فَحُذِفَتْ أداةُ الاستفهامِ، وعلى هذا القولِ فالقرينةُ على أداةِ الاستفهامِ: إيقانُ إبراهيمَ المذكورُ قبلَه في قولِه: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: آية ٧٥] وتصريحُ اللَّهِ بأنه مُحَاجٌّ وَمُنَاظِرٌ لاَ ناظر بقولِه: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ﴾ [الأنعام: آية ٨٠] وقوله: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنعام: آية ٨٣] قالوا: وَمِنْ حذفِ الاستفهامِ في القرآنِ قولُه تعالى: ﴿أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: آية ٧٤] لأَنَّ المعنَى: أَفَئِنْ مِتَّ أَفَهُمُ الخالدونَ بعدَ موتِكَ؟ في نظائرَ ذَكَرُوهَا. هذانِ الوجهانِ في قولِه: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: آية ٧٦].
وقولُه: ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ أُفُولُ النجمِ هو سقوطُه وغيبوبتُه، إذا طَلَعَ النجمُ تقولُ العربُ: طَلَعَ، وتقولُ في القمرِ والشمسِ: بَزَغَ. فإذا غابَ تقولُ العربُ: أَفَلَ، فالأُفُولُ: الغيبوبةُ (٣)، ومنه قولُ العربِ: أينَ أَفَلْتَ عنَّا؟ أَيْنَ غِبْتَ عَنَّا؟ فلمَّا أَفَلَ ذلك النجمُ - أي: غَابَ -
_________
(١) شرح ديوان الخنساء ٣٨ ولفظه في الديوان:

قذى بِعَينِكِ أمْ بالعَينِ عُوَّارُ أمْ ذَرَفَتْ إذْ خَلَتْ من أهلها الدارُ
(٢) ديوان امرئ القيس ٦٧.
(٣) انظر: ابن جرير (١١/ ٤٨٥).
وكان شيخه الجبائي كبيرَ المعتزلة؛ لأنه كان زوج أمه، والأشعري ربيب الجبائي، وكان يوماً معه يُقَرِّر أن الله يجب عليه فعل الأصلح، فقال الأشعري للجبائي: إذا كان يجب عليه فعل الأصلح فَلِمَ قَتَلَ الغلام صغيراً؟ ولِمَ لا تركه يكبر حتى يعمل كثيراً من عمل الخير فينال الدرجات العالية في الجنة؟
فقال له الجبائي: يقول له الله: قد سبق في علمي أني لو تركتك تكبر كنت كافراً فمت على الكفر، فكان الأصلح لك أن قتلتك صغيراً.
فقال له الأشعري: إذاً يحتج عليه الكافر الكبير الذي مات، ويقول له: يا رب لمّا سبق علمك أن البعيد سيموت كافراً لِمَ لا تفعل له الأصلح فتقتله صغيراً قبل أن يكتب عليه، كما فعلت الأصلح لذلك الصغير؟ فانقطع الجبائي، وقال للأشعري: أبِكَ جُنون؟ قال: لا، ولكن وَقَف حمار الشيخ في العَقَبَة. ثم ترك مذهب المعتزلة، ورجع إلى مذهب أهل السنة (١)، وهذا من مذاهب المعتزلة الباطلة.
وقد قَدَّمْنَا مراراً، وكرَّرْنَا بعض المناظرات الدالة على إدحاض مذهبهم، كمناظرات الإسفراييني لعبد الجبار، كررناها مراراً (٢)؛ لأن العاقل إن نظر فيها يعلم أن أبا إسحاق الإسفراييني اهْتَدَى إلى مذهب أهل الحق فأفْحَم به مذهب أهل الباطل على لسان عبد الجبار مِنْ كِبَارِ المعتزلة المشهورين، جاء يَتَقَرَّب بهذا المذهب كما يقوله الزمخشري هنا: إن الله قال: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ يعني: أن شركهم بمشيئته، وأنه كذَّبَهُمْ في هذا وقال:
_________
(١) انظر: سير أعلام النبلاء (١٥/ ٨٩).
(٢) مضى قريباً.
قومٍ فيجدبوا ليختبروا هل يُنِيبُونَ إلى الله ويتوبونَ؟ وهذا من غرائبِ صُنْعِ الله وعجائبِه. واللَّهُ (جل وعلا) أَمَرَ خلقَه أن ينظروا في هذا وتوابعِه حيث قال: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (٢٤)﴾ [عبس: آية ٢٤] لاَمُ الأَمْرِ هنا صيغةُ أمرٍ تقتضي الوجوبَ، معناه: يجبُ على كُلِّ إنسانٍ أن ينظرَ إلى طعامِه. يعني: يا أيها الإنسانُ المسكينُ الضعيفُ انْظُرْ إلى طعامِك، انظر إلى الخبزِ الذي تأكلُ ولاَ تستغنِي عنه، مَنْ هو الذي خَلَقَ الماءَ الذي شَرِبَتْ به أرضُه حتى نَبَتَ بإذن اللهِ؟ أيقدرُ أحدٌ غيرُ اللهِ أن يخلقَ الماءَ ويبرزَ جرمَه من [العدمِ إلى الوجودِ] (١)؟ هَبْ أن الماءَ خُلِقَ وصارَ موجودًا مَنْ هو الذي يَقْدِرُ على إنزالِه بهذه الطريقِ الحكيمةِ وإخراجِه من خلالِ السحابِ رشاشًا لا يضرُّ بأحدٍ، فلو أَرْسَلَ اللهُ المطرَ كلَّه قطعةً واحدةً مجتمعةً لأَغْرَقَتِ الدنيا ودمرت البلادَ والعبادَ، فهو يُنْزِلُهُ رشاشًا من خلالِ السحابِ لئلا يضرَّ بالناسِ، وينزلُه بِقَدَرٍ معلومٍ بحيث يكونُ فيه الحاجةُ، ولا يجعلُه طوفانًا يغمرُ الأرضَ لئلاَّ يُهْلِكَ مَنْ عليها كما وَقَعَ لقومِ نوحٍ. هَبْ أن اللهَ أَنْزَلَ الماءَ بهذه الطريقةِ العظيمةِ الحكيمةِ هل يقدرُ أحدٌ غيرُ اللهِ أن يشقَّ الأرضَ عن مسمارِ النباتِ الذي يكونُ منه الْحَبُّ الذي تأكلون؟
الجوابُ: لاَ. هَبْ أن مسمارَ النباتِ خَرَجَ، مَنْ هو الذي يقدرُ على أن يُرَبِّيَهُ وينميه؟ هَبْ أنه نَمَا وكبر، مَنْ ذَا الذي يقدرُ أن يشقَّه ويخرجَ منه السنبلةَ؟ هَبْ أن السنبلةَ خَرَجَتْ، من هو الذي يقدرُ أن يربيها وينقلَها من طَوْرٍ إلى طَوْرٍ حتى تكونَ حَبًّا صالحًا للأكلِ؟ ﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: آية ٩٩].
_________
(١) في الأصل: «من الوجود إلى العدم». وهو سبق لسان.
واحد (١). عبَّر عن الأصنام هنا بضمائر أصحاب العقول وهي لا تعقل؛ لأن الكفار نَزَّلُوهَا مَنْزِلَةَ العقلاء أو أعظم مِنَ العقلاء.
﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ﴾ أي: تدعوا هؤلاء المعبودين الأوثان التي تعبدونها من دون الله التي لا تخلق شيئًا وهي تُخلق ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى﴾ معناها: تدعوهم إلى طريق الهدى ﴿لاَ يَتَّبِعُوكُمْ﴾ لأنهم جماد. ومن إذا دُعي إلى الهدى لا يتبع كيف يُطلب منه الهدى؟ ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس: آية ٣٥] وهؤلاء إن هُدوا لا يهتدون!! وهذا معنى قوله: ﴿لاَ يَتَّبِعُوكُمْ﴾.
﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ﴾ هذه الهمزة التي هي قوله: ﴿أَدَعَوْتُمُوهُمْ﴾ هي التي تسميها علماء العربية: همزة التسوية، وهي وما بعدها ينسبك منهما مصدر من غير حرف سابك. وأجود الإعرابين في ذلك: أن المعنى: دعاؤكم لهم وصمتُكم عنهم سواء، أي: مستويان. فـ (سواء) خبر مقدم، وهو اسم مصدر بمعنى الوصف. وقوله: ﴿أَدَعَوْتُمُوهُمْ﴾ في محل مبتدأ مصدر مسبوك بلا سابك، وما بعده معطوف عليه. والمعنى: دعاؤكم إياهم إلى الهدى، وصُماتكم إياهم عن ذلك سواء. أي: مستويان، لا يتبعوكم في حالة من الحالتين، لا في حالة دعائكم لهم، ولا في حالة صمتكم عنهم، وهذا معنى معروف في كلام العرب، ونظيره في القرآن: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ﴾ [البقرة: آية ٦] أي: إنذارك لهم وعدمه سواء. أي: مستويان، وهذا المعنى معروف في
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٧.
أن يُتركوا يسكنونَ في جزيرةِ العربِ، فإقامةُ الكفارِ وَسُكْنَاهُمْ في جزيرةِ العربِ ممنوعٌ لاَ يجوزُ بحالٍ، فيجبُ على المسلمينَ أن يُخْرِجُوهُمْ من جزيرةِ العربِ جميعِها ولاَ يتركوا فيها كافرًا. وهذا من آخِرِ ما أَوْصَى به محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وقد ثَبَتَ في الصحيحين من حديثِ ابنِ عباسٍ (رضي الله عنهما) قال: اشْتَدَّ برسولِ اللَّهِ ﷺ وَجَعُهُ يومَ الخميسِ، وَأَوْصَى عندَ موتِه بثلاثٍ، قال: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ» قال الراوي: ونسيتُ الثالثةَ (١). فهذا حديثٌ صحيحٌ أَوْصَى به النبيُّ عند موتِه. وقد أخرجَ مسلمٌ وغيرُه أنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) قال: «لأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لاَ أَدَعُ فِيهَا إِلاَّ مُسْلِمًا» (٢). وروى الإمامُ أحمدُ وغيرُه عن عائشةَ (رضي الله عنها) أنها قالت: آخِرُ ما عَهِدَ رسولُ اللَّهِ ﷺ أن قَالَ: «لاَ يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ» (٣).
وروى أحمدُ وغيرُه عن أبِي عبيدةَ بنِ الجراحِ (رضي الله عنه) قال: آخِرُ ما قالَه رسولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم: «أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ
_________
(١) البخاري في الجزية والموادعة، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب. حديث رقم: (٣١٦٨) (٦/ ٢٧٠)، ومسلم في الوصية باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه. حديث رقم: (١٦٣٧) (٣/ ١٢٥٧).
(٢) مسلم في الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب. حديث رقم: (١٧٦٧) (٣/ ١٣٨٨) من حديث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).
(٣) أخرجه أحمد (٦/ ٢٧٥) وقال الهيثمي في المجمع (٥/ ٣٢٥): «رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع»
اهـ.


الصفحة التالية
Icon