قال إبراهيمُ: ﴿لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ يعني بقولِه: ﴿لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ لا أحبُّ أن أعبدَ هذا الساقطَ المُتَغَيِّرَ المُسَخَّرَ؛ لأنه لا يمكنُ أن يكونَ هو الْمُدَبِّرَ لشؤونِ هذا الْعَالَمِ، الذي بِيَدِهِ النفعُ والضرُّ، فَمَنْ يتصفُ بصفةِ الأفولِ والغيبوبةِ والسقوطِ لا يحبُّ عبادتَه؛ لأنه ليس مُتَّصِفًا بصفاتِ الربِّ؛ لأن صفاتِ الربِّ: العظمةُ، والقدرةُ الكاملةُ، وهذا متصفٌ بصفةِ نقصٍ وتغيرٍ، لا يصلحُ أن يكونَ رَبًّا. قال بعضُ العلماءِ: ووافقَ هذا أن في مُعْتَقَدِهِمْ أن الكواكبَ التي يَعْبُدُونَهَا أنها وَقْتَ أُفُولِهَا يسقطُ تأثيرُها في ذلك الوقتِ، وأنها تضعفُ حتى ترجعَ طالعةً، فيرجعَ لها ما كان لها من [٧/ب] التأثيرِ في زَعْمِهِمْ / فوافقَ هذا أُفُولَهُ؛ ولذا قال لهم: ﴿لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾. فكأنه هنا اسْتَنْتَجَ لهم إنتاجًا واضحًا أن الكوكبَ لاَ يمكنُ [أن يكونَ] (١) رَبًّا من مُقَدِّمَتَيْنِ:
أحدُهما: أنه آفِلٌ، وكونُه آفلاً يدلُّ على أنه مُسَخَّرٌ، أنه جرمٌ مُسَخَّرٌ بقدرةِ وإرادةِ غَيْرِهِ.
الثَّانِيَةُ: هي أنه لا يُحِبُّ الآفِلِينَ، فكأنه يقول: هذا آفِلٌ، وَكُلُّ آفِلٍ كائنًا ما كَانَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ النقصِ لا يمكنُ أن يكونَ رَبًّا، فهذا لا يمكنُ أن يكونَ رَبًّا.
ثم قال جل وعلا: ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: آية ٧٧] أَصْلُ البزوغِ: أولُ الطلوعِ، لَمَّا رَآهُ طَالِعًا في أولِ طلوعِه قال: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ على ما بَيَّنَّا في غيرِه.
_________
(١) زيادة يقتضيها السياق.
﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم﴾ وقال- ولا سيما القراءة الأخرى (١) -: (كذلك كَذب الذين من قبلهم) فجعل أن مَنْ قال: إن الشرك بمشيئة الله أنه كاذب عند الله، وأن الله نص على كذبه!! وهذا تحريف في آيات الله، وقَدْح في ربوبية خالق السماوات والأرض سبحانه أن يقع في ملكه شيء دون مشيئته (جل وعلا)؛ لأن من يقع في ملكه شيء بغير مشيئته صار ليس برب، ناقص القدرة الكاملة، والله يَتَعَالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فلما جاء عبد الجبار يَتَقَرَّب بهذا المذهب في مجلس الإسفراييني أبي إسحاق الشافعي المعروف، فقال عبد الجبار: سبحان مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفحشاء! يعني أن السرقة والزنا والشرك ليست بمشيئته.
فقال أبو إسحاق: كلمة حق أُرِيدَ بها باطل. ثم قال: سُبْحَان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء!
فقال عبد الجبار: «أتراه يشاؤه ويعاقبني أنا عليه؟».
فقال له أبو إسحاق: «أتراك تفعله جبراً عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟».
فقال عبد الجبار: «أرأيْتَ إنْ دَعَانِي إلى الهدى وقضى عليَّ بالرَّدَى، بَيَّن لي الخير ودعاني إليه، وسد الباب دوني، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟!».
قال: أرى أن الذي منعك إن كان حقّاً واجباً لك عليه، فقد ظلمك وقد أساء، وإن كان مُلْكه المحض، فإن منعك فَعَدْل وإن منَحَكَ فَفَضْلٌ.
فبُهِتَ عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب!
_________
(١) مضى قريباً.
هذه غرائبُ صنعِ اللهِ وعجائبُه، والكفرةُ الملاعينُ الذين يزعمونَ أن إنزالَ اللهِ للمطرِ بهذا الأسلوبِ الغريبِ العجيبِ المُبيَّنِ في سورةِ النورِ وغيرِها - الذي صَرَّحَ اللهُ بأنه هو الذي أَنْزَلَهُ، وهو الذي يُصَرِّفُهُ بين خَلْقِهِ كما يشاءُ - يزعمونَ أن كُلَّ هذا كَذِبٌ، وأنه لاَ خالقَ ولا فاعلَ مختار، وإنما هي أمورٌ طبيعيةٌ، فطبيعةُ الماءِ أن يتبخرَ بطبيعتِه إما بدرجاتِ حرارةِ الشمسِ؛ لأن الماءَ إذا بلغَ درجةَ مائةٍ من درجاتِ الحرارةِ يستحيلُ بُخَارًا، أو باحتكاكِه بالريحِ، فاحتكاكُ الريحِ بالماءِ قد يجعلُه بخارًا، ثم إن البخارَ يتصاعدُ بطبيعةِ حالِه، ثم يجتمعُ بعضُه إلى بعضٍ، فيلاقي هواءً آخَرَ بصفةِ كذا، فتفرقُه الريحُ، وأن هذا أمرٌ طبيعيٌّ لاَ فاعلَ له. هذا كُفْرٌ بالله، وإنكارٌ لخالقِ السماواتِ والأرضِ، وجحودٌ له (جل وعلا).
واللهُ بَيَّنَ أن أكثرَ الخلقِ سيصيرونَ إلى ذلك في سورةِ الفرقانِ كما أَوْضَحَهُ بقولِه: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (٥٠)﴾ [الفرقان: الآيات ٤٨ - ٥٠] ولاَ شَكَّ أن مِنَ الناسِ الذين أَبَوْا إلا كفورًا: الذين زَعَمُوا أنه نَزَلَ بطبيعةِ بخارِ كذا وكذا عليهم لعائنُ اللهِ، وإذا ماتوا فسيعلمونَ هل هناك رَبٌّ مُدَبِّرٌ ملكُ السماواتِ والأرضِ هو المنزلُ للمطرِ، الخالقُ لكلِّ شيءٍ أو لاَ؟ وهذا معنَى قولِه: ﴿حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ﴾ ﴿حَتَّى﴾ هنا هي الابتدائيةُ التي تُذْكَرُ قبلَ الْجُمَلِ. و (أقلت) معناه: حَمَلَتْ «حتى إذا أقلت الرياح» أي: حَمَلَتْ: ﴿سَحَابًا﴾ أي: مُزْنًا مملوءةً بالماءِ.
﴿ثِقَالاً﴾ السحابُ: جمعُ سحابةٍ أو اسمُ جمعٍ للسحابةِ.
كلام العرب، والأجود فيه أن (سواء) خبر مقدم، ونظيره من كلام العرب قول ابن قيس الرّقَيَّات (١):

تَخَطَّتْ بِيَ الشَّهْبَاءُ نَحْوَ ابْنِ جَعْفَرٍ سَوَاءٌ عَلَيْهَا لَيْلُهَا ونَهَارُهَا
يعني: ليلها ونهارها سواء، أي: مستويان. وقول الآخر (٢):
وَلَيْلٍ يَقُولُ المَرْءُ مِنْ ظُلُمَاتِهِ سَواءٌ صَحِيحَاتُ العيونِ وعُورُها
أي: صحيحات العيون وعُورها سواء، أي: مستويات لشدة ظلامه لا يبصر فيه البصير كما لا يبصر الأعمى. وهذا معنى قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ﴾ إلى الهدى أم صَمَتُّم عنهم. وعبَّر بالجملة الاسمية، يعني: إذا صَمَتُّم عنهم دائمًا فلم يهتدوا، وإذا دعوتهم فلن يهتدوا، فلا يهتدون إلى الهدى في حالة من الأحوال!! ومن كانت هذه حاله فكيف يتخذه العاقل ربًّا يعبده من دون الله؟! فهذا يدل على أنهم أقوام لا عقول لهم. وكان ابن عباس (رضي الله عنهما) يقول: إذا أردت أن تعرف عدم عقول العرب فاقرأ الآية الفلانية من سورة الأنعام قدر كذا، يعني: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (١٤٠)﴾ [الأنعام: آية ١٤٠] (٣) رزقهم الله الأولاد والمال فقتلوا الأولاد
_________
(١) البيت في ديوانه ص١٦٣، ابن جرير (١/ ٢٥٦)، الكامل للمبرد (٢/ ٨٢٨)، تاريخ دمشق (٢٧/ ٢٧٢)، (٣٣/ ٢٨٥)، (٣٨/ ٩١) وصدره في بعض هذه المصادر: «تغذُّ»، وفي بعضها «تَقَدَّتْ».
(٢) البيت لمضرس بن ربعي. وهو في ابن جرير (١/ ٢٥٦)، القرطبي (١/ ١٨٤)، الدر المصون (١/ ١٠٧).
(٣) أخرجه البخاري في المناقب، باب قصة زمزم وجهل العرب، حديث رقم (٣٥٢٤)، (٦/ ٥٥١).
الْعَرَبِ» (١).
فهذه الأحاديثُ وأمثالُها تَدُلُّ على أنه لاَ يجوزُ أن يسكنُ كافرٌ بجزيرةِ العربِ كائنًا ما كَانَ، وأن على المسلمينَ إخراجُ الكفارِ من جزيرةِ العربِ، ولكنهم لا يمنعونَ من الإتيانِ إليها لتجارةٍ أو نحوِه من غيرِ إقامةٍ بها، وكان عمرُ بنُ الخطابِ (رضي الله عنه) إذا أَرَادَ بعضُ اليهودِ دخولَ الحجازِ لتجارةٍ أَذِنَ له وَأَجَّلَ لهم ثلاثةَ أيامٍ يبيعونَ فيها ويشترونَ ثم يذهبونَ (٢).
وَاعْلَمُوا أن الجزيةَ إذا أَسْلَمَ الكافرُ اختلف العلماءُ هل تسقطُ عنه الجزيةُ (٣)؟ وَأَظْهَرُ القولينِ: أنه تسقطُ عنه الجزيةُ لِمَا جاءَ عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «لاَ جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ» (٤) ولأنه لا تُؤْخَذُ منه وهو صَاغِرٌ؛ لأن المسلمَ لا يُحَقَّرُ ولاَ يُهَانُ.
وقال الشافعيُّ في طائفةٍ من العلماءِ: إذا أَسْلَمَ لَمْ تسقط عنه
_________
(١) أخرجه أحمد (١/ ١٩٥، ١٩٦)، وأبو يعلى (١/ ٨٧٢)، والحميدي (٨٥)، والدارمي (٢/ ١٥١ - ١٥٢)، والطيالسي (٢٢٩)، والبيهقي (٩/ ٢٠٨). وانظر: السلسلة الصحيحة (١١٣٢).
(٢) أخرجه البيهقي (٩/ ٢٠٩).
(٣) انظر: بدائع الصنائع (٧/ ١١٢)، المغني (١٣/ ٢٢١ - ٢٢٢)، القرطبي (٨/ ١١٣ - ١١٤).
(٤) أخرجه أحمد (١/ ٢٢٣، ٢٨٥)، وأبو عبيد في الأموال ص٤٩، وأبو داود في الخراج والفيء، باب الذمي الذي يسلم في بعض السنة. حديث رقم: (٣٠٣٧) (٨/ ٣٠٥)، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء: ليس على المسلم جزية. حديث رقم: (٦٣٣) (٣/ ١٨)، والبيهقي (٩/ ١٩٩)، والدارقطني (٤/ ١٥٦، ١٥٧)، وابن عدي (٥/ ١٨٤٥)، (٦/ ٢٠٧٢)، وأبو نعيم في الحلية (٩/ ٢٣٢). وانظر: الإرواء (٥/ ٩٩).


الصفحة التالية
Icon