﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ أي: غَابَ القمرُ وَذَهَبَ. ﴿قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾. العلماءُ قالوا: قولُه: ﴿لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي﴾ فيه وجهانِ من التفسيرِ (١):
أحدُهما: أنه تَوَاضُعٌ مِنْ إبراهيمَ، كقولِه هو وإسماعيل: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ [البقرة: آية ١٢٨] يطلبُ اللَّهَ أن يجعلَه مِنْ جُمْلَةِ المسلمين تَوَاضُعًا لِلَّهِ (جل وعلا). وكقولِه: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: آية ٣٥] كُلُّ هَذَا تواضعٌ من الأنبياءِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم)، وإظهارُهم للفقرِ والعجزِ بين يَدَيِ اللَّهِ (جل وعلا)، ولذا قال: ﴿لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ [الأنعام: آية ٧٧].
الثَّانِي: هو ما قَالَ بعضُ العلماءِ: أن هذا تعريضٌ بقومِه، يعنِي مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ فإنه ضَالٌّ، فكيفَ تَضِلُّونَ وَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أجرامًا لا تنفعُ ولا تَضُرُّ، وليس بيدِها شيءٌ؟ والمعنَى: مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلاَ هاديَ لَهُ، فهو ضَالٌّ، كأنه تعريضٌ بقومِه على هذا القولِ.
ثم لَمَّا رَأَى الشمسَ ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً﴾ أي: طَالِعَةً ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: آية ٧٨] والمعنَى: هذا الطالعُ المنيرُ رَبِّي، فَعَبَّرَ عنها بالمعنَى، هذا الطالعُ المنيرُ رَبِّي (٢). قال بعضُ العلماءِ (٣): وَوَجْهُ تذكيرِه لأنه لاَ ينبغي أن يُطْلَقَ على الرَّبِّ اسمُ أُنْثَى، ولو على لَفْظِهِ؛ وَلِذَا قال: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ هذا الطالعُ المنيرُ رَبِّي.
_________
(١) انظر: القاسمي (٦/ ٥٩١).
(٢) انظر: ابن جرير (١١/ ٤٨٦)، البحر المحيط (٤/ ١٦٧)، ابن كثير (٢/ ١٥١).
(٣) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٦٧)، الدر المصون (٥/ ١٤)، القاسمي (٦/ ٥٩١).
وذكرنا مراراً أن رئيسهم الكبير عَمْرو بن عبيد -الذي يطريه الزمخشري غاية الإطراء، والذي رثاه أبو جعفر المنصور؛ لأنه توفي في خلافته، وهو من رؤساء وكبراء المعتزلة المشهورين- أفحمه بدوي جاهل، لا يعرف شيئاً؛ لأن الكبير العالم من أهل الإلحاد والضلال قد يُفْحِمُه العامِّي من أهل الحق، لظهور دلالة الحق؛ ذلك لأنه لما سُرقت دابته، وجاءه يسأل منه الدعاء أن يَرُدَّها الله عليه، وأراد التقرب بهذا المذهب، وقال: اللهم إنها سُرقت ولم تُرِدْ سَرِقتها، ولم تكن سَرِقَتُهَا بمشيئتك؛ لأنك أنزه وأعْظَم وأكْرَم وأجَلّ من أن تكون هذه الخسيسة بمشيئتك، ففهم البدوي الجاهل، وقال له: ناشدتك الله يا هذا إلا ما كففت عني من دعائك الخبيث، إن كانت قد سُرقت ولم يُرد سرقتها فقد يُريد رَدَّها ولا تُرَدّ! فإن كان أول الأمر ليس بمشيئته فَلَسْتُ بواثق منه في آخر الأمر؛ لأن الرَّبَّ لا بد أن يكون كل شيء بمشيئته أولًا وآخراً، فأَفْحَمَه وألْقَمَهُ الحَجَرَ (١).
والحاصل أن هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام أخْبَرَ الله فيها أن الكفار سيقولون: إن كُفْرَهُمْ وتَحْرِيمَهُم للحلال بمشيئة الله، وأن وقوعه بمشيئة الله دليل على رضاه به! فكذّبهم القرآن، والتكذيب مُنْصَبٌّ على أن كون ذلك بمشيئته لا يدل على رضاه، فلا يقع شيء إلا بمشيئته، ولا يرضيه إلا ما كان طاعة له، كما قال: ﴿وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر: الآية ٧] لأنه صرف قُدَر الخلق وإراداتهم إلى ما سبق به العلم الأزلي، فأتوه طائعين، فما كان إيماناً وطاعة فهو مرضي عند الله، وما كان كفراً وعصياناً فهو غير مرضي عند الله، وإن
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٩) من هذه السورة.
والثقالُ: جمعُ ثقيلةٍ، لثقلها بالماءِ الذي هي موقرةٌ منه، يحملُها اللهُ على مَتْنِ الريحِ.
﴿سُقْنَاهُ﴾ أي: سُقْنَا ذلك السحابَ المُوقَرَ بالماءِ.
﴿إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ قَرَأَهُ بعضُ السبعةِ: ﴿مَيِّتٌ﴾ بالتشديدِ. وقرأه بعضُهم: ﴿مَيْت﴾ بالتخفيفِ، وهما قراءتانِ سبعيتانِ مشهورتانِ (١) ولغتانِ صحيحتانِ معروفتانِ.
ومعنَى كونِ البلدِ مَيِّتًا أنه غبارٌ لاَ نباتَ فيه ولا شجرَ. ميتٌ جَدْبٌ ليس فيه نباتٌ ولا شجرٌ نابتٌ.
﴿سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ﴾ أي: بذلك البلدِ. وعليه فالباءُ ظرفيةٌ، أي: فَأَنْزَلْنَا فيه، أي: في ذلك البلدِ: ﴿الْمَاءَ﴾ أو ﴿فَأَنْزَلْنَا بِهِ﴾ أي: بذلك السحابِ ﴿الْمَاءَ﴾ في ذلك البلدِ، وَصَرَّفْنَاهُ إلى ما شئنا من البلادِ وَصَرَفْنَاهُ عمن شئنا من البلادِ: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا﴾ [الفرقان: آية ٥٠] وهذا معنَى قولِه: ﴿سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾ أي: بسببِ ذلك الماءِ: ﴿مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى﴾ هذا من براهينِ البعثِ، كما أَخْرَجْنَا النباتَ بعدَ أن لم يكن شيئًا، وأخرجناه بعدَ أن انعدمَ، كذلك نُخْرِجُكُمْ من قبورِكم أحياءً بعدَ أن كنتُم معدومين؛ لأن الكلَّ إخراجٌ بعدَ عَدَمٍ، وإعادةٌ بعدَ فناءٍ، وحكمُ الكلِّ واحدٌ.
ومعنَى: ﴿وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ (٢) [الروم: آية ١٩، الزخرف:
_________
(١) انظر: الإتحاف (٢/ ٥٢).
(٢) الظاهر أنه وقع للشيخ (رحمه الله) سهو في هذا الموضع فذكر قوله: ﴿كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ وليست هذه الجملة في آية الأعراف، وإنما في آية الروم: (١٩)، وآية الزخرف: (١١)، وإنما في الأعراف: ﴿كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى﴾.
وحرموا المال على أنفسهم. فهؤلاء قوم لا يعقلون؛ لأن الكفر يطمس البصائر، ويترك الإنسان أعمى لا يعرف حقًّا من باطل. ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: آية ٤٦] وهذا معنى قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٩٣].
[٢٧/أ] / ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (١٩٨) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)﴾ [الأعراف: الآيات ١٩٤ - ٢٠٣].
يقول الله (جل وعلا): ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٩٤)﴾ [الأعراف: آية ١٩٤].
في هذه الآيات الكريمة من سورة الأعراف بيّن الله (جل وعلا) سخافة عقول المشركين حيث عبدوا من هو دونهم وهم أكمل منه، قال أولاً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أي: هذه الأصنام والأوثان
الجزيةُ؛ لأنها بقيت دَيْنًا فيه، فهي كسائرِ الديونِ، إلا أنه عند أدائِها يُؤَدِّيهَا غيرَ صاغرٍ ولا مُهَانٍ؛ لأَجْلِ إسلامِه، ولكنها تَقَرَّرَتْ في ذمتِه.
واختلف العلماءُ: في القَدْرِ الذي يُؤْخَذُ من أهلِ الجزيةِ (١)، وَمِمَّنْ تُؤْخَذُ الجزيةُ (٢)؟ فقال جماعةٌ من العلماءِ: تُؤْخَذُ الجزيةُ من كُلِّ كتابيٍّ عَجَمِيًّا كان أو عَرَبِيًّا، والجزيةُ بالأديانِ لاَ بالأنسابِ. وهذا القولُ هو الصحيحُ والأظهرُ.
وقال بعضُ العلماءِ: تُؤْخَذُ من مُشْرِكِي العجمِ ولا تُؤْخَذُ من مشركِي العربِ. وهو قولُ أبِي حنيفةَ رحمه الله (٣).
والحقُّ أن الجزيةَ تُؤْخَذُ من كُلِّ كتابيٍّ عربيًّا كان أو غيرَه، وقد أَمَرَ النبيُّ ﷺ مُعَاذًا لَمَّا أرسلَه إلى اليمنِ أن يأخذَ من كُلِّ حالمٍ من كفارِ أهلِ اليمنِ - أهلِ الكتابِ - الذين لم يُسْلِمُوا أن يأخذَ من كُلِّ حالمٍ دينارًا منهم (٤).
وبعثَ خالدَ بنَ الوليدِ إلى أُكَيْدَر فَأَخَذَ من أُكيدر
_________
(١) انظر: بدائع الصنائع (٧/ ١١ - ١١٢)، المغني (١٣/ ٢١١ - ٢١٢)، القرطبي (٨/ ١١١)، أحكام أهل الذمة (١/ ٢٦).
(٢) انظر: الأم (٤/ ٢٤٠، ٢٨١)، القرطبي (٨/ ١١٠)، المغني (١٣/ ٢٠٢) فما بعدها، أحكام أهل الذمة (١/ ١) فما بعدها.
(٣) انظر: المدونة (٢/ ٤٦ - ٤٧)، بدائع الصنائع (٧/ ١١٠ - ١١١)، المغني (١٣/ ٢٠٦ - ٢٠٧، ٢٠٨).
(٤) أخرجه أحمد (٥/ ٢٣٠، ٢٣٣، ٢٤٠، ٢٤٧)، وعبد الرزاق (٤/ ٢١)، وابن أبي شيبة (٣/ ١٢٦ - ١٢٧)، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر. حديث رقم: (٦٢٣) (٣/ ١١) وقال: «هذا حديث حسن. وروى بعضهم هذا الحديث عن سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق أن النبي... وهذا أصح» ا. هـ. وأبو داود في الزكاة، باب في زكاة السائمة. حديث رقم: (١٥٦١ - ١٥٦٢) (٤/ ٤٥٧) وفي الإمارة، باب في أخذ الجزية. حديث رقم: (٣٠٢٢، ٣٠٢٣) (٨/ ٢٨٧)، وابن ماجه في الزكاة، باب صدقة البقر. حديث رقم: (١٨٠٣) (١/ ٥٧٦)، والنسائي في الزكاة باب زكاة البقر. حديث رقم: (٢٤٥٠ - ٢٤٥٢) (٥/ ٢٥ - ٢٦)، والحاكم (١/ ٣٩٨)، والبيهقي (٤/ ٩٨)، (٩/ ١٩٣)، وابن خزيمة (٤/ ١٩)، وابن حبان (الإحسان ٧/ ١٩٥). وقال ابن عبد البر في التمهيد (٢/ ٢٧٥): «إسناده متصل صحيح ثابت» اهـ.
وانظر: التلخيص (٢/ ١٥٢)، الإرواء (٧٩٥)، صحيح أبي داود (٢/ ٥٨٩)، صحيح ابن ماجه (١/ ٣٠٢).