ثم قال: ﴿هَذَا أَكْبَرُ﴾ هذا مِنَ التَّنَزُّلِ كالأولِ، يعني: هذا أكبرُ من الكوكبِ ومن القمرِ، فَحَذَفَ (مِنْ) وما بَعْدَهَا (١)، هذا أكبرُ من الكوكبِ ومن القمرِ، ومقصودُه بـ ﴿هَذَا أَكْبَرُ﴾ هو إسقاطُ الشمسِ أيضًا؛ لأن الأكبرَ الأعظمَ إذا كان يتصفُ بصفةِ النقصِ فصفةُ النقصِ أعظمُ في الكبيرِ الجليلِ منها في الصغيرِ الحقيرِ.
﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ﴾ أي: غَابَتِ الشمسُ ﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ﴾ أَقَامَ عليهم الحجةَ ثلاثَ مراتٍ، فأظهرَ حقيقةَ أمرِه، وقد قَضَى وَطَرَهُ مِنَ التَّنَزُّلِ لهم حتى أَلْقَمَهُمُ الْحَجَرَ، فَصَرَّحَ لهم بعقيدتِه، قال لهم: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ أَبْرَأُ إلى اللَّهِ مِمَّا تعبدونَ مِنْ دُونِهِ.
ثم قال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ [الأنعام: آية ٧٩] أي: أَخْلَصْتُ عِبَادَتِي وَقَصْدِي ﴿لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ للقادرِ النافعِ الضارِّ الذي هو الخالقُ الرازقُ. وقولُه: ﴿لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ يُشِيرُ به إلى أن علامةَ استحقاقِ العبادةِ شيءٌ واحدٌ، العلامةُ لِمَنْ يستحقُّ العبادةَ شيءٌ واحدٌ، وهو أنه الذي يَخْلُقُ وَيُبْرِزُ من العدمِ إلى الوجودِ، فَمَنْ يُبْرِزُكَ من العدمِ إلى الوجودِ هذا رَبُّكَ الذي يستحقُّ أن تعبدَه، وَمَنْ لاَ يَقْدِرُ على إبرازِك من العدمِ إلى الوجودِ فهو عبدٌ مربوبٌ محتاجٌ إلى خالقٍ يعبدُه مثلُك؛ وَلِذَا قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: آية ٢١] وقال: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ [النحل: آية ١٦] لا وَاللَّهِ ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: آية ١٦] وخالقُ كُلِّ شيءٍ هو المعبودُ وحدَه.
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٤٨٦).
كان كل شيء من خير أو شر بإرادته الكونية القدرية، فالله (جل وعلا) يعم جميع الخلق بدعوتهم إلى الدين، ثم يخصص من شاء للتَّوْفِيق، فالدعوة إلى الخير عامة، والتوفيق خاص ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: الآية ٢٥]. وهذا معنى قوله: ﴿لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ يعني: ولا أشرك آباؤنا من قبْلِنَا، والذي سوَّغ العطف هنا على الفاعل الذي هو ضمير الرفع المتصل: الفصل بلفظة (لا) وكل فاصل مسوِّغ، وهو مذهب الكوفيين، وهو الصواب، خلافاً لمذهب البصريين القائلين: لا بد من ضمير منفصل مُسَوِّغ للعطف، كما في آية النحل (١). وهذا معنى قوله: ﴿مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا﴾ أي: ولا أشرك آباؤنا من قبلنا، ولا حرمنا من شيء؛ أي: لا مِنْ بَحِيرَة، ولا سائبة، ولا وصيلة، ولا حام، ولا من أنعام، ولا من حرث، إلى غير ذلك.
وقوله: ﴿مِن شَيْءٍ﴾ أصله مفعول (حرّمنا) وقد تقرر في علم الأصول أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة (مِنْ) نقلتها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم (٢)، وذكره الشيخ سيبويه في كتابه.
والنكرة في سياق النفي قد تُزاد قبلها لفظة (مِنْ) فتنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، ويكون ذلك قياساً مطرداً في ثلاثة مواضع لا رابع لها (٣):
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٤٨) من هذه السورة.
(٢) مضى عد تفسير الآية (٣٨) من هذه السورة.
(٣) السابق.
آية ١١] أي: تُخْرَجُونَ من قبورِكم أحياءً بَعْدَ الموتِ عندَ النفخةِ الثانيةِ، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: آية ٦٨] وقال جل وعلا: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)﴾ [النازعات: آية ١٣ - ١٤] أي: على وجهِ الأرضِ أحياءً يمشونَ. وهذا معروفٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ (جل وعلا) يبعثُ الخلائقَ كُلَّهُمْ يومَ القيامةِ. وإحياءُ الأرضِ بعدَ موتِها دليلٌ على بعثِ الخلائقِ. وهذا معنَى قولِه: ﴿سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ [الأعراف: آية ٥٧].
وقولُه: ﴿سُقْنَاهُ﴾ بصيغةِ التعظيمِ دليلٌ قاطعٌ على أن الموضعَ الذي يَأْتِيهِ المطرُ أن ما يأتيه بإرادةِ اللهِ - جل وعلا - وأنه هو الذي سَاقَ ذلك المطرَ محمولاً على الريحِ إلى ذلك البلدِ الْمُعَيَّنِ بحكمتِه وقدرتِه وإرادتِه، لاَ بطبيعةِ الريحِ، ولا بطبيعةِ البخارِ، ولا بطبيعةِ الهواءِ؛ لأن اللهَ (جل وعلا) هو الخالقُ لكلِّ شيءٍ. والطبائعُ لا يؤثرُ منها إلا ما شاء اللهُ أن يؤثرَ. وقد أجمعَ أهلُ الحقِّ وأهلُ الباطلِ جميعًا - عن بكرةِ أبيهم - أن المؤثرَ من حيث هو مؤثرٌ لا يَعْدُو عن ثلاثةِ أشياء: مؤثرٌ بالاختيارِ، ومؤثرٌ بالطبيعةِ، ومؤثرٌ بالعلةِ (١).
والحقُّ من هذه المؤثراتِ واحدٌ، وهو المؤثرُ بالاختيارِ، وهو خالقُ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا) سبحانَه وحدَه، لاَ يمكنُ أن يقعَ تأثيرٌ في الدنيا ولا في الآخرةِ، ولا تسكينةٌ ولا تحريكةٌ إلا بمشيئتِه وقدرتِه (جل وعلا) فالتأثيرُ بالاختيارِ هو التأثيرُ الحقُّ، وهو تأثيرُ خالقِ السماواتِ والأرضِ الذي لا يمكنُ أن تقعَ تحريكةٌ ولا تسكينةٌ في الدنيا ولا في الآخرةِ، ولا أَيِّ شيءٍ كائنًا ما كان إلا عن قدرتِه وإرادتِه
_________
(١) انظر: الكليات ص٢٧٩، موقف ابن تيمية من الأشاعرة ٣/ ١٣٤٦ - ١٣٤٧.
التي تعبدونها من دون الله، سوَّاها أولاً بهم في هذه الآية، قال: ﴿عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ إنما أطلق على الأصنام اسم العباد وعبّر عنها بضمائر العقلاء؛ لأن الكفار يصفونها بصفات من هو خير من مطلق العقلاء، أنها معبودات، وأنها تشفع وتقرِّبُ إلى اللهِ زُلْفَى، فبهذا الاعتبار أجرى عليها ضمائر العقلاء، وعبّر عنها بالعباد. ووجه مماثلتهم هنا: أن الكفار العابدين، والأصنام المعبودات كلهم مخلوقات لله لا تقدر أن تجلب لنفسها نفعًا ولا أن تدفع عنها ضرًّا. فهم من قبيل تَسْخِيرِ الله لهم، وخلقه للجميع، وقدرته على الجميع، بهذا الاعتبار هم سواء؛ ولذا قال: ﴿عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ بهذا الاعتبار، وفي الآية التي بعدها سيبيّن انحطاط درجة المعبودين عن العابدين، كما سيأتي إيضاحه قريبًا إن شاء الله.
وقوله: ﴿فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ﴾ يعني: ادعوا هذه الأصنام واطلبوا منها النفع، أو ادعوها إلى الهدى ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أنها معبودات من دون الله، وأنها تنفع وتقرب إلى الله زُلفى وتشفع ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ﴾ إذا دعوتموهم إلى الهدى تبعوكم أو نفعوكم بشيء ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ جمهور علماء العربية على أن جزاء الشرط لا يتقدم عليه، إلا أن ما تقدم دليل الجزاء، أي: إن كنتم صادقين في أنها تعبد وتنفع فادعوها فلتستجب لكم، ولا تستجيب لكم أبدًا، كما صرح الله بذلك وأوضحه في آيات من كتابه كقوله: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (١٣) إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)﴾ [فاطر: الآيتان ١٣، ١٤] وكقوله تعالى:
الجزيةَ (١). وأُكيدر دومة معلومٌ أنه عَرَبِيٌّ، أصلُه من كندةَ، كما قاله غيرُ واحدٍ.
وَأَخَذَ الجزيةَ من أهلِ نجرانَ (٢). وأكثرُ أهلِ نجرانَ نصارى عربٌ. وهذا هو التحقيقُ، فالحقُّ الذي لا شكَّ فيه أن الكتابيَّ الذي كان على دينِ أهلِ الكتابِ قبلَ أن يُبْعَثَ محمدٌ ﷺ تُؤْخَذُ منهم الجزيةُ بنصِّ هذه الآيةِ؛ ولأَنَّهَا لم تُفَصِّلْ.
وأما المجوسُ فقد ثَبَتَ عن النبيِّ ﷺ أنهم تُؤْخَذُ منهم الجزيةُ، فقد رَوَى البخاريُّ في صحيحِه عن عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ (رضي الله عنه) أن النبيَّ ﷺ أَخَذَ الجزيةَ من مجوسِ هجرَ (٣). وقد
_________
(١) أخرجه أبو داود في الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية. حديث رقم: (٣٠٢١) (٨/ ٢٨٦)، والبيهقي (٩/ ١٨٦، ١٨٧). وانظر: صحيح أبي داود (٢/ ٥٨٩).
(٢) أخرجه أبو داود في الإمارة، باب في أخذ الجزية. حديث رقم: (٣٠٢٥) (٨/ ٢٩١)، والبيهقي (٩/ ١٨٧).
(٣) أخرجه البخاري في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب. حديث رقم: (٣١٥٧) (٦/ ٢٥٧).


الصفحة التالية
Icon