ومعنَى: ﴿فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ [الأنعام: آية ٧٩] فَطَرَهُمَا يَعْنِي: خَلَقَهُمَا وَاخْتَرَعَهُمَا على غيرِ مثالٍ سابقٍ. فـ (الفَطْرُ) معناه: الاختراعُ والابتداعُ على غيرِ مثالٍ سابقٍ، رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ (رضي الله عنهما) أنه قال: ما كنتُ أتحققُ حقيقةَ معنَى ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الأنعام: آية ١٤] حَتَّى اختصمَ إِلَيَّ أعرابيانِ في بِيرٍ، فقال أحدُهما: إِنَّهَا بِيرِي، وأنا الذي فَطَرْتُهَا (١). يعني: اخْتَرَعْتُهَا، وَابْتَدَأْتُ حَفْرَهَا. فعلمتُ أن العربَ تُطْلِقُ هذا على اختراعِ الفعلِ وابتدائِه. وهذا معنَى قوله: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ أي: أَخْلَصْتُ عِبَادَتِي وَقَصْدِي للذي خَلَقَ السمواتِ والأرضَ.
﴿فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ أي: خَلَقَهُمَا وَابْتَدَعَهُمَا بما فيهما.
﴿حَنِيفًا﴾ أي: حالَ كَوْنِي حَنِيفًا، أي: مائلاً عن الدينِ الباطلِ إلى دينِ الحقِّ، أصلُ الحنيفِ: (فَعِيْل) من (الحَنَف) بفتحتين،
_________
(١) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (٢/ ١٧٤)، وفي غريب الحديث له (٤/ ٣٧٣)، وابن جرير (١١/ ٢٨٣)، والبيهقي في الشعب (٤/ ٣١٦)، وفي الأسماء والصفات له ص٤٤، وابن عبد البر في الاستذكار (٨/ ٣٨٤)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (انظر: مختصره لابن منظور (١٣/ ٣١٣))، وذكره السيوطي في الدر (٣/ ٧)، وعزاه لأبي عبيد، وابن جرير، وابن الأنباري في الوقف والابتداء. ومداره على إبراهيم بن مهاجر، وهو البجلي. قال عنه في التقريب (ص ٢٥٦): «صدوق لين الحفظ» اهـ. وانظر: ترجمته في تهذيب الكمال (٢/ ٢١١).
قال الحافظ في الكافي الشاف (ملحق بالكشاف (٤/ ٦١)): «بإسناد حسن ليس فيه إلا إبراهيم بن مهاجر» اهـ. وانظر: تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزيلعي (١/ ٤٣٤).
أحدهما: أن تُزاد لفظة (مِنْ) قبل النكرة التي هي فاعل، كقوله: ﴿مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ﴾ [القصص: الآية ٤٦] الأصل: ما أتاهم نذير.
أو أن تكون قبل المفعول، كقوله هنا: ﴿وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: الآية ١٤٨] الأصل: «ما حرمنا شيئاً». ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ﴾ [الأنبياء: الآية ٢٥] أي: ما أرسلنا قبلك رسولاً.
الثالث: أن تُزاد قبل المبتدأ، نحو: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [المائدة: الآية ٧٣] الأصل: وما إله إلا إله واحد، فزِيدَتْ قبلها (مِنْ) لتنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم.
قوله: ﴿مِن شَيْءٍ﴾ الشيء يطلق في اصطلاح الشرع على كل موجود حتى الله (جل وعلا) قد يطلق عليه اسم الشيء (١)، كما قال: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: الآية ٨٨]، وقال: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ﴾ [الأنعام: الآية ١٩] والمعتزلة يَزْعُمُون أن الشيء يطلق على المعدوم، ومناقشاتهم في هذا لأهل السنة معروفة (٢)، والدليل على أن المعدوم ليس الشيء، ولا يطلق عليه اسم الشيء: آيات قرآنية كثيرة، كقوله: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ [مريم: الآية ٩] فنفى عن العدم أن يكون شيئاً، وكقوله: ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ [مريم: الآية ٦٧] فنفى
_________
(١) قال الإمام البخاري في صحيحه: «باب: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ﴾ فسمى الله (تعالى) نفسه شيئاً، وسمى النبي - ﷺ - القرآن شيئاً وهو صفة من صفات الله، وقال: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾». البخاري مع الفتح (١٣/ ٤٠٢).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٩٦) من سورة الأنعام.
ومشيئتِه - جل وعلا - وإنما قَسَّمُوا المؤثرَ - أهلَ الحقِّ وأهلَ الباطلِ - إلى مؤثرٍ بالاختيارِ، ومؤثرٍ بالطبيعةِ في زعمِ الطَّبَائِعِيِّينَ، ومؤثرٍ بالعلةِ في زعمِ الفلاسفةِ المعللين بِالْعِلَلِ؛ لأنهم يقولونَ: المؤثرُ من حيث هو مؤثرٌ إما أن يصحَّ منه التركُ، وإما أن لاَ. فهذانِ قِسْمَانِ لاَ ثالثَ لهما، وهو تقسيمٌ عَقْلِيٌّ؛ لأن حَصْرَ المُقَسَّمِ في الشيءِ ونقيضِه حصرٌ عَقْلِيٌّ كما هو معروفٌ في فنونِ البحوثِ والمناظراتِ؛ لأنهم يقولونَ: إما أن يصحَّ من المؤثرِ التركُ، وإما أن لا، فإن كان يصحُّ منه التركُ فهو المؤثرُ بالاختيارِ. وهذا واضحٌ؛ لأنه لَمَّا صَحَّ له أن يتركَ، وصحَّ له أن يفعلَ وقد أَثَّرَ وهو قادرٌ على تركِ التأثيرِ عَلِمْنَا أنه اختارَ أحدَ المقدورين على الآخَرِ، وهذا هو التأثيرُ الحقُّ، وهو تأثيرُ خالقِ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا)، ولا تأثيرَ ألبتةَ في الحقيقةِ إلا هذا التأثيرَ بالاختيارِ من خالقِ السماواتِ والأرضِ.
أما النوعانِ الباطلانِ من المؤثراتِ وهما: التأثيرُ بالطبيعةِ، والتأثيرُ بالعلةِ فإنهم يقولونَ: إن كان المؤثرُ لا يصحُّ منه التركُ فله حالتانِ: إما أن يتوقفَ تأثيرُه على وجودِ شرطٍ وانتفاءِ مانعٍ، وإما أن لا، فإن توقفَ تأثيرُه على وجودِ الشرطِ وانتفاءِ المانعِ فهو الذي يُسَمِّيهِ الطبائعيونَ: (المؤثرَ بالطبيعةِ) وضابطُ تأثيرِ الطبيعةِ عندَهم: هو المؤثرُ الذي لاَ يصحُّ منه التركُ مع أن تأثيرَه يتوقفُ على وجودِ الشرطِ وانتفاءِ المانعِ. ومثالُه عندَهم: تأثيرُ النارِ بالإحراقِ، فهو تأثيرٌ بطبيعتِها؛ لأنَّ النارَ لاَ يصحُّ منها التركُ، وتأثيرُها قد يتوقفُ على وجودِ الشرطِ، وهو إبرازُ النارِ من كُمُونِهَا الأصليِّ في الزنادِ ونحوِه، وانتفاءُ المانعِ وهو أن لاَ يكونَ المانعُ الملاقِي للنارِ في أَوَّلِهَا مُنَافيًا
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (٦)﴾ [الأحقاف: الآيتان ٥، ٦] وقال: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةً بَيْنَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وفي القراءة الأخرى (١):
﴿مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ﴾ [العنكبوت: آية ٢٥] وقال جل وعلا: ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢)﴾ [مريم: الآيتان ٨١، ٨٢] ولذا قال هنا: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ولن يستجيبوا لكم أبدًا، ومن يدع من دون الله من لا يستجيب له لا أضل منه، كما صرح الله به في قوله: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأحقاف: آية ٥] وهذا معنى قوله: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأعراف: آية ١٩٤].
ثم بيّن انحطاط درجة المعبودات عن درجة العابدين، وكأنه يقول لهم: بلغت عقولكم من السخافة حتى عبدتم من أنتم خير منه وأكمل!! ومعبود يكون عابده أكمل منه فهذا لا ينبغي لأحد أن يعبده، كما قال تعالى في الأصنام المعبودات وهي جمادات معبّرًا بهمزة الاستفهام -استفهام الإنكار- المضمنة معنى النفي: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا﴾ أنتم أيها العابدون كل واحد منكم ذو رجلين يمشي عليهما ويتصرف، والذي يعبده جماد لا يقدر أن يتحرك ولا يمشي، فكيف تعبدون مَنْ أَنْتم أكْمَل منه وأقْدَر؟! هذا عمى وسخافة؛ ولذا
_________
(١) وفيه قراءات غير ما ذكر، انظر: المبسوط لابن مهران ص٣٤٤، السبعة ص٤٩٨..
أخذ الجزيةَ من أهلِ البحرينِ (١) وأكثرهم في ذلك الوقتِ كانوا مَجُوسًا.
فالحقُّ الذي لا شكَّ فيه أنها تُؤْخَذُ من المجوسِ لِمَا جاء عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» (٢) وَثَبَتَ عن عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ أنه قال: أَشْهَدُ فقد أَخَذَ رسولُ اللَّهِ الجزيةَ من مجوسِ هجرَ. وكان عمرُ بنُ الخطابِ تَوَقَّفَ في أَخْذِ الجزيةِ من المجوسِ حتى شَهِدَ عندَه عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ (رضي الله عنه) (٣).
والشافعيُّ (رحمه الله) يقولُ: لاَ تُؤْخَذُ إلا مِنَ الكتابيِّ عربيًّا كان أو عجميًّا، أو من المجوسيِّ بِالسُّنَّةِ. أما المشركونَ مِنْ عَبَدَةِ الأوثانِ وما جَرَى مجراهم (٤) قال الشافعيُّ: لاَ تُؤْخَذُ منهم الجزيةُ. وقال به
_________
(١) أخرجه البخاري في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب. حديث رقم: (٣١٥٨) (٦/ ٢٥٧)، وطرفه (٤٠١٥، ٦٤٢٥)، ومسلم في الزهد والرقائق. حديث رقم: (٢٩٦١) (٤/ ٢٢٧٣) من حديث عمرو بن عوف الأنصاري (رضي الله عنه).
وقد أخرجه الترمذي في السير، باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس، حديث رقم: (١٥٨٨) (٤/ ١٤٧) من حديث السائب بن يزيد. وعقبه بقوله: «وسألت محمدًا عن هذا فقال: هو مالك عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم» اهـ.
وقد أخرجه مالك ص١٨٧ عن الزهري بلاغًا.
(٢) أخرجه مالك في الموطأ ص١٨٨، والبيهقي (٩/ ١٨٩) من حديث عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه). وقال ابن عبد البر في التمهيد (٢/ ١١٤): «هذا حديث منقطع» اهـ. وله شاهد من حديث السائب بن يزيد (رضي الله عنه). قال في المجمع (٦/ ١٣): «رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه» اهـ. وانظر: الإرواء (٥/ ٨٨).
(٣) مضى تخريجه قريبًا.
(٤) انظر: المدونة (٢/ ٤٦)، الأم (٤/ ١٧٢ - ١٧٤)، المغني (١٣/ ٢٠٣ - ٢٠٤، ٢٠٨).