و (الحَنَفُ) أصلُه في لغةِ العربِ أن يميلَ مقدمُ الرجلِ اليمنى إلى جهةِ الرِّجْلِ اليُسْرَى، ويميلُ مقدمُ الرجلِ اليُسْرَى إلى جهةِ الرِّجْلِ اليُمْنَى، فيقال للرجلِ: (أحنفُ)، وللمرأةِ: (حَنْفَاء). وقد كان كذلك الأحنفُ بنُ قيسٍ المشهورُ، وقد قالت أُمُّهُ تُرقِّصُهُ وَهُوَ صَغِيرٌ (١):
وَاللَّهِ لَوْلاَ حَنَفٌ برِجْلِهِ مَا كَانَ فِي فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ
فهذا الميلُ صارَ حقيقةً عُرفيةً في الميلِ عن الدينِ الباطلِ إلى دينِ الحقِّ، فمعنَى ﴿حَنِيفًا﴾: مائلاً عن كُلِّ دينٍ باطلٍ إلى دينِ اللَّهِ الصحيحِ (٢).
﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: آية ٧٩] يعنِي في قولِه: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: آية ٧٦] لستُ أُشْرِكُ بِرَبِّي شيئًا، ولا أعتقدُ رُبُوبِيَّةَ كوكبٍ ولاَ شمسٍ ولاَ قَمَرٍ. هذا هو الظاهرُ في هذه الآياتِ الكريمةِ أن نَبِيَّ اللَّهِ إبراهيمَ مُنَاظِرٌ لا نَاظِرٌ، وأنه يريدُ بهذا التَّنَزُّلِ: التوصلَ إلى إفحامِ خصومِه بدليلِ قولِه: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ﴾ [الأنعام: آية ٨٠] حَاجَّهُ: أصلُه (حَاجَجَهُ) من (الْمُحَاجَجَةِ)، بأن يُدْلِي كُلٌّ منهما بحجتِه ضِدَّ الآخَرِ، وَكُلُّ كلامٍ يُدْلِي به خصمٌ ضِدَّ آخَرَ يُسَمَّى: (حجةً) ولو كان في غايةِ البطلانِ، كما قال تعالى في قومٍ أَدْلَوْا بكلامٍ باطلٍ: ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى: آية ١٦] فهو يُطْلَقُ على كُلِّ ما أَدْلَى به خصمٌ ضِدَّ آخَرَ، تقولُ له العربُ: (حجة) (٣)، و (المُفَاعَلَةُ): (حَاجَّ) أصلُها: (حَاجَجَ)، على وزنِ
_________
(١) البيت في القرطبي (٢/ ١٤٠)، الدر المصون (٢/ ١٣٧).
(٢) انظر: ابن جرير (٣/ ١٠٤)، المفردات (مادة: حنف) ٢٦٠، القرطبي (٢/ ١٣٩ - ١٤٠)، الدر المصون (٢/ ١٣٧).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٧٦) من سورة البقرة.
عنه في حال عدمه اسم الشيء، والمعتزلة يزعمون أن الشيء يطلق على المعدوم، وبعضهم يقول: المعدوم قسمان:
معدوم ممكن، كإيمان أبي لهب، فإن إيمان أبي لهب معدوم قطعاً؛ لأن الله يقول: ﴿سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد: الآية ٣] مع أن هذا المعدوم يمكن عقلاً؛ لأن إيمانه يجوز عقلاً؛ إذ لو كان مستحيلاً عَقْلاً لكان تكليفه بالإيمان تكليفاً بالمحال، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
الثاني: أن يكون الشيء المعدوم مستحيلاً عقلاً، كشريك الله جل وعلا سبحانه عن ذلك وتعالى علوّاً كبيراً.
وبعضهم يقول: إن الشيء يطلق على المعدوم مطلقاً.
وبعضهم [يقول] (١): يُطلق على المعدوم الممكن دون المعدوم المستحيل. واستدلوا بأدلة لا تنهض، منها: قوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ﴾ [يس: الآية ٨٢] قالوا: فسمَّاهُ (شيئاً) قبل أن يقول له: (كن)، وهو إذ ذاك معدوم، فدل على تسمية المعدوم (شيئاً). وهذا يناقضه قوله: ﴿وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ [مريم: الآية ٩] وإنما أطلق عليه اسم الشيء نظراً إلى عادة العرب أنهم ينزلون الواقع المتحقق وقوعه كالواقع بالفعل، كما قال: ﴿أَتَى أَمْرُ اللهِ﴾ [النحل: الآية ١] ذكر أنه أتى فعلاً وهو لم يأت بالفعل؛ لأن تحقق وقوعه كوقوعه بالفعل، وهذا كثير في القرآن -فقد ذكر الله منه في سورة الزمر- جدّاً: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾ معناه: سيكون ذلك يوم القيامة ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾ أي: يوم القيامة {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء
_________
(١) زيادة يقتضيها السياق.
للإحراقِ، كأن يكونَ أول ما يلاقي الشهابَ الخارجَ من الزندِ الواري ماء، فإن الماءَ لاَ يؤثرُ فيه، أو يكونَ أول ما يلاقيه صخر لا يؤثرُ فيه. فهذا توقفٌ على وجودِ الشرطِ وانتفاءِ المانعِ، وهو الذي يسمونَه: (المؤثرَ بالطبيعةِ) مع أنه لا يصحُّ منه التركُ.
أما إن كان لا يصحُّ منه التركُ ولا يتوقفُ تأثيرُه على وجودِ الشرطِ ولا على انتفاءِ المانعِ فهو الذي يسمونَه: (المؤثرَ بالعلةِ). ومثالُه عندَهم -قَبَّحَهُمُ اللَّهُ-: تأثيرُ حركةِ الأصبُعِ في حركةِ الخاتمِ؛ لأن الأصبُعَ إن كان فيه خاتمٌ فماذا تَحَرَّكَ الأصبعُ لا بد أن يتحركَ الخاتمُ. والفلاسفةُ يقولونَ: إن تأثيرَ وجودِ اللهِ في وجودِ المخلوقاتِ تأثيرٌ بالعلةِ، ومن هنا زعموا قدمَ هيولى العالَم؛ لأن المؤثرَ لا ينفكُّ عن أثرِه. ومذاهبُهم - قَبَّحَهُمُ اللهُ - باطلةٌ كُلُّهَا كفرياتٌ وإلحادياتٌ.
ونعطيكم نماذجَ وأمثلةً على أن المؤثرَ في الحقيقةِ هو اللهُ، وأن اللهَ يسببُ ما شاءَ من المُسبَباتِ على ما شاء من الأسبابِ، ولو شاءَ انخرامَ السببِ لاَنْخَرَمَ. ألا تسمعونَ في تاريخِ القرآنِ أن نبيَّ اللهِ إبراهيمَ أُلْقِيَ في النارِ هو والحطبُ، والحطبُ شيءٌ صلبٌ شديدٌ قويٌّ، وجسمُ إبراهيمَ لطيفٌ لَيِّنٌ، والنارُ لا عقلَ عندَها تُمَيِّزُ به بينَ إبراهيمَ وبينَ الحطبِ، فَأَكَلَتْ بحرارتِها الحطبَ حتى جَعَلَتْهُ رمادًا، في عينِ الوقتِ الذي هي فيه بردٌ على إبراهيمَ، والطبيعةُ معنًى واحدٌ لاَ يتجزأُ أو لاَ ينقسمُ، فالطبيعةُ من المعانِي الأفرادِ التي لا يمكنُ أن تتجزأَ، ولاَ أن تنقسمَ، فالنارُ لو كان التأثيرُ بطبيعتِها لاَسْتَحَالَ أن تكونَ بَرْدًا على إبراهيمَ وَحَرًّا على الحطبِ حتى يصيرَ رمادًا، مع أنها معنًى واحدٌ وطبيعةٌ واحدةٌ. وذلك يدلُّ على أن المؤثرَ في الحقيقةِ هو
قال: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: آية ١٩٥].
الأيدي جمع يد، ووزنه (أفْعُل) لأن الرِّجْلَ هنا واليد والعين كلها مجموعة على (أفعُل) أرجل، أعين، أيدي، أصله: (أيديٌ) على وزن (أَفْعُل) إلا أن الضمة قُلبت كسرة للياء المتطرفة بعدها؛ لأن الأيدي منقوص، والمنقوص إذا نُكِّر نوِّن على العين كما هو معروف في محله، وُيرفع بِضَمٍّ مُقَدَّر، ويُخفض بكسر مقدر، ويظهر نصبه كما هو معروف في محله، والأيدي جمع تكسير لليد، واحده يد. وأصل اليد (يَدَيٌ) ففاؤها ياء، وعينها دال، ولامها ياء، فحرفها الأول: ياء، وحرفها الأخير: ياء، وبين الياءين دال، إلا أن العرب حذفت الياء الأخيرة التي في محل اللام ولم تُعوض منها شيئًا، وأعربت (اليد) على العين ولم تُعوض من اللام المحذوفة شيئًا (١). وهذا فعلته في كلمات معدودة، كـ (يد) و (دم)، و (هَنٍ) و (غد) و (دَب) ونحو ذلك، إلا أن اليد أصلها تعرب على العين، تقول: «قطع يده، وأعطاه هذا بيده، ومدته له يده» بحذف الياء، إلا أن العرب إذا صغَّرت اليد أو جمعتها جمع تكسير رجعت الياء المحذوفة؛ لأن المقرر في فن التصريف: أن جمع التكسير والتصغير كلاهما يَردّ الأمر إلى أصله، فصغرت العرب اليد على يُديَّة، وجمعت اليد على أيدي. يظهر نصبه كقوله: ﴿فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: آية ٣٨] فرجعت في جمع التكسير الياء المحذوفة، وسُمع عن العرب نادرًا ذكر الياء في المفرد، وهو نادر، وإذا ذُكرت فيها الياء كانت من المقصور على الألف، فتقول العرب: (اليدى) كالفتى؛ لأن أصل الفتى (فَتَيٌ)
_________
(١) انظر: الدر المصون (١/ ٤٥١)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٢٩٤.
جماعةٌ من العلماءِ. قالوا ووجهُه: أن اللَّهَ [مَا نَصَّ في المشركينَ] (١) إلا على القتلِ: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ﴾ [التوبة: آية ٥] وفي أهلِ الكتابِ قال: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾ [التوبة: آية ٢٩] وفي المجوسِ ثَبَتَ أخذُ الجزيةِ منهم بالسنةِ. فالمشركونَ لهم السيفُ، وأهلُ الكتابِ لهم الجزيةُ بالقرآنِ، والمجوسُ لهم الجزيةُ بِالسُّنَّةِ، وبهذا قال جماعةٌ من العلماءِ منهم الشافعيُّ.
وقال مالكُ بنُ أنسٍ (رحمه الله) في جماعةٍ من العلماءِ: إنها تُؤْخَذُ من كُلِّ كافرٍ وَثَنِيًّا كان يعبدُ الأصنامَ أو مجوسيًّا، أو كتابيًّا، فتؤخذُ من جميعِ الكفارِ. هذا قولُ مالكٍ في طائفةٍ من العلماءِ.
وأقلُّ ما جاء في قَدْرِ الجزيةِ على الرجلِ من أهلِ الكتابِ دينارٌ (٢).
قال جمهورُ العلماءِ: لاَ تُنْقَصُ الجزيةُ عن دينارٍ. وبعضُهم يقولُ: لاَ حَدَّ لَهَا، فما صَالَحَ عليه الإمامُ هو الذي يُؤْخَذُ.
وكان عمرُ بنُ الخطابِ أَخَذَ الجزيةَ من أهلِ الشامِ (٣)، وَأَخَذَهَا من أهلِ السوادِ (٤). وكان النبيُّ ﷺ أَمَرَ معاذًا أن يأخذَ الجزيةَ من أهلِ اليمنِ من كُلِّ حَالِمٍ دينارًا (٥).
والتحقيقُ أنها لاَ تُؤْخَذُ من الصبيانِ والنساءِ، بل من الرجالِ المقاتلينَ، كما دَلَّ عليه حديثُ معاذٍ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» (٦).
_________
(١) في الأصل: أن الله في المشركين مانص...
(٢) كما جاء في حديت معاذ (رضي الله عنه) لما أرسله النبي ﷺ إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا. وقد مضى تخريجه قريبًا.
(٣) سيأتي تخريجهما قريبًا.
(٤) سيأتي تخريجهما قريبًا.
(٥) مضى تخريجه قريبًا.
(٦) مضى تخريجه قريبًا.


الصفحة التالية
Icon