(فَاعَلَ) أُدْغِمَتْ إحدى الْجِيمَيْنِ في الأُخْرَى.
﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ﴾ قومُ الرجلِ أصلُهم: جماعتُه، و (القومُ) في وضعِ اللسانِ العربيِّ يُطْلَقُ على الذكورِ خاصةً، وربما دَخَلَ فيهم الإناثُ بِحُكْمِ التَّبَعِ (١). فالدليلُ على إِطْلاَقِهِ على الذكورِ خاصةً في الوضعِ العربيِّ قولُه تعالى: ﴿لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾ ثم قال: ﴿وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ﴾ [الحجرات: آية ١١] فَعَطْفُ النساءِ عليهم يدلُّ على اختصاصِ اسمِ (القومِ) بالذكورِ دونَ الإناثِ، ونظيرُه من كلامِ العربِ قولُ زهيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى (٢):
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْري أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
والدليلُ على دخولِ النساءِ في اسمِ (القومِ) بحكمِ التبعِ قولُه تعالى في بلقيسَ: ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [النمل: آية ٤٣] دَخَلَتْ بالتبعِ، بدليلِ قرينةِ السياقِ.
ومعنى محاجةِ قومِه له: أنهم قالوا له: كَيْفَ تَدَّعِي أن المعبودَ واحدٌ، وأن العَالَمَ كُلَّهُ يُدَبِّرُ شؤونَه ويسمعُ نداءَه معبودٌ واحدٌ؟ هذا لا يمكنُ!! كما قال قومُ نَبِيِّنَا له: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: آية ٥] فقالوا له: مَنْ يَعْبُدُ آلهةً متعددةً خيرٌ مِمَّنْ يقتصرُ على واحدٍ؛ لأن هؤلاء المتعددين تَتَكَرَّرُ بهم الشفاعةُ من جهاتٍ، وهذا واحدٌ. ومحاججتُهم له في توحيدِ اللَّهِ؛ وَلِذَا قال: ﴿أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ﴾ [الأنعام: آية ٨٠] دَلَّ ذلك على أن محاججتَهم فِي
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: قوم) ٦٩٣، اللسان (مادة: قوم) (٣/ ١٩٥)، الكليات ٧٢٨.
(٢) البيت في اللسان: (مادة: قوم) (٣/ ١٩٥)، الدر المصون (١/ ٣٦٠).
وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ [الزمر: الآيات ٦٩ - ٧٣] كل هذه الأفعال الماضية إنما هي بمعنى المستقبلات التي ستقع يوم القيامة؛ لأن تَحَقُّقَ وقوعها نزّلها منزلة الواقع فعلاً، كما هو معروف في فن المعاني (١). وهذا معنى قوله: ﴿وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾.
ثم قال الله: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم﴾ كما كذب هؤلاء الكفرة الفجرة رسولي محمداً - ﷺ - في أن الله واحد لا شريك له، وأنه لا حرام إلا ما حرمه الله، كما كذبوه وادّعوا أن وقوع ذلك بمشيئة الله دليل على رضاه، كما كذبوه بهذه الشُّبَه الكافرة الملحدة ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم﴾ الرسل، ﴿كَذَلِكَ﴾ التكذيب، ولم يزالوا مكذبين ﴿حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا﴾ [الأنعام: الآية ١٤٨] أي: ذاقوا أليم عقابنا وشديد نكالنا، وقد يكون ذلك بهم في الدنيا كما وقع لقوم نوح حيث استأصلهم الطوفان بالغرق، ووقع لقوم هود حين أرسل عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، قال الله فيهم: ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى﴾ أي: قتلى أمواتاً ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (٨)﴾ [الحاقة: الآيتان ٧، ٨] وكما فعلنا بقوم صالح حيث أُرسلت عليهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وكما أحرق قوم شعيب بالظلة، وكما رفع الأرض بقوم لوط وجعل عاليها سافلها، وكما أغْرَق فرعون وقومه في البحر، هذا من نكال العذاب الدنيوي، ويتلوه العذاب
_________
(١) انظر: تأويل مشكل القرآن ٢٩٥، الصاحبي ٣٦٤، فقه اللغة للثعالبي ٣٠١، البرهان للزركشي (٣/ ٣٧٢)، المزهر (١/ ٣٣٥)، قواعد التفسير (١/ ٢٩٢).
خالقُ السماواتِ والأرضِ لَمَّا قال للنارِ: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا﴾ [الأنبياء: آية ٦٩] وخصصَ وقال: ﴿عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: آية ٦٩] ولم يَقُلْ: «على الحطبِ» كانت على إبراهيمَ بَرْدًا إطاعةً لِمَالِكِ السماواتِ والأرضِ. والحطبُ الذي لم يُقَلْ لها أن تكونَ بردًا عليه كانت حَرًّا عليه فَأَحْرَقَتْهُ حتى كان رَمَادًا، وهو طبيعةٌ واحدةٌ، والطبائعُ لاَ تتجزأُ لأنها معنًى واحدٌ لاَ ينقسمُ، فَدَلَّ هذا على أن المؤثرَ في الحقيقةِ هو خالقُ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا). وزعمَ المفسرونَ أن اللَّهَ لو لم يَقُلْ: ﴿وَسَلاَمًا﴾ [الأنبياء: آية ٦٩] لأهلكه البردُ من شدةِ بردِ النارِ عليه في الوقتِ الذي هي فيه حَرٌّ على الحطبِ تحرقُه حتى يكونَ رمادًا.
فاللهُ يُسَبِّبُ ما شاءَ من الأسبابِ، على ما شاءَ من المُسَبِّباتِ، وهو المريدُ لكلِّ ذلك، الذي كُلُّ شيءٍ بمشيئتِه، لا يصدرُ أمرٌ إلا عن قُدْرَتِهِ وإرادتِه، وربما جعلَ السببَ مُضَادًّا للمسبِّبِ، وجعلَه سببًا في وجودِه، كما بَيَّنَّاهُ في سورةِ البقرةِ (١) لَمَّا أرادَ إحياءَ قتيلِ بَنِي إسرائيلَ أَمَرَهُمْ أن يذبحوا بقرةً حتى صارت بقرةً ميتةً، وأمرَ بقطعِ قطعةٍ منها وهي ميتةٌ فَضُرِبَ الميتُ بها فَحَيِيَ!! فمن أين للميتِ الحياةُ من قطعةِ لحمٍ ميتةٍ من بقرةٍ ميتةٍ؟ فهذا لا سببَ فيه يعقلُ، فلو كانت البقرةُ حَيَّةً لقالوا: سَرَتْ للميتِ الحياةُ من حياتِها. فهي قطعةٌ ميتةٌ، فَمِنْ أَيْنَ جاءت هذه الحياةُ من الضربِ بهذه القطعةِ الميتةِ؟ ومثلُ هذا يُبَيِّنُ اللهُ به أنه هو الذي يَرْبِطُ بينَ الأسبابِ ومسبباتِها، فالأسبابُ حَقٌّ، والربطُ بينَها وبينَ مسبباتِها حَقٌّ، وإنكارُه تلاعبٌ بِالدِّينِ، وجعلُها مستقلةً
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة البقرة.
وأصل اليد: (يَدَيٌ) وهذا سُمع قليلاً في كلام العرب - وجود الياء من أصلها، وإبدالها ألفًا، وجعل اليد من المقصور- ومنه بهذا المعنى قول الراجز (١):

يا رُبَّ سارٍ بَاتَ ما تَوَسَّدا إلا ذِرَاعَ العَنْسِ أو كفَّ اليَدَا
فـ (اليدَا) هنا مردود إلى الأصل فيه (الياء) وأُبدل منها الألف كما هو معروف.
وقوله: ﴿أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ﴾ قرأه بعض السبعة: ﴿قُلِ ادْعُواْ﴾ بكسر اللام على الأصل في التخلص من الساكنين بكسر أولهما، وقرأه بعض السبعة: ﴿قُلُ ادعوا﴾ بضم اللام إتباعًا للضمة كما لا يخفى (٢).
وهذا معنى قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ﴾ [الأعراف: آية ١٩٥] أجرى الله العادة أنه إذا أرسل الأنبياء وعابوا الأصنام وقالوا: إنها لا تنفع ولا تضر، وأن عبادتها كفر بالله مُخلّد في النار، أن أصحاب الأصنام الذين يعبدونها يقولون للرسل: ستضركم هذه الآلهة، ستخبلكم وتخرب عقولكم، ويأتيكم منها الضر؛ لأنكم عبتموها!! والرسل (صلوات الله وسلامه عليهم) لا يخافون هذا؛ لأن الخوف من الأصنام كفر بالله وعدم توكل عليه، فقد خوفوا النبي ﷺ بأن أصنامهم تضره؛ لأنه عابها، كما سيأتي إيضاحه في الزمر في قوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ [الزمر: آية ٣٦] وقد خوفوا بها نبي الله إبراهيم كما قال الله عنه أنه
_________
(١) البيت في الدر المصون (١/ ٤٥٢).
(٢) انظر: الإتحاف (٢/ ٧٢).
يعنِي: لا صَبِيًّا، ولا امرأةً؛ ولأن الصبيانَ والنساءَ ليسوا من المقاتلينَ ولا يجوزُ قتلُهم. وَاللَّهُ يقولُ في الْمُقَاتِلِينَ: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾. فَدَلَّ أن الذي يُعْطِي الجزيةَ هم المقاتلونَ لاَ غيرهم. كان عمرُ بنُ الخطابِ (رضي الله عنه) أَخَذَ الجزيةَ من أهلِ الشامِ على الواحدِ أربعةُ دنانيرَ (١).
وعن ابنِ أبِي نُجيح أنه سألَ مجاهدًا (رحمه الله): ما بالُ أهلِ اليمنِ أُخِذَ منهم في الجزيةِ دينارٌ، وأهلُ الشامِ أربعةُ دنانيرَ؟ قال: ذلك باعتبارِ الفقرِ وَالْيَسَارِ، وهؤلاءِ فقراءُ أُخِذَ منهم دينارٌ، وهؤلاءِ مُوسِرُونَ أُخِذَ منهم أربعةُ دنانيرَ (٢). وكان عمرُ بنُ الخطابِ (رضي الله عنه) أَخَذَ الجزيةَ من أهلِ السوادِ، فَأَخَذَ من الفقيرِ -والمرادُ به الفقيرُ الذي لَهُ حِرْفَةٌ وتَسَبُّبٌ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، ومن المتوسطِ أربعةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، ومن الغنيِّ ثمانيةً وأربعينَ درهمًا (٣).
وبعضُ العلماءِ يقولُ هذا، وبعضُهم يقولُ: أربعةُ دنانيرَ، وبعضُهم يقول: دينارٌ. وقد أَمَرَ النبي بدينارٍ، وأخذ عمرُ من أهلِ الشامِ أربعةَ دنانيرَ، ومن أهلِ السوادِ اثْنَيْ عَشَرَ [درهمًا] (٤) للفقيرِ، وأربعةً وعشرينَ للمتوسطِ، وثمانيةً وأربعينَ للغنيِّ.
_________
(١) أخرجه البيهقي (٩/ ١٩٥).
(٢) البخاري في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب (٦/ ٢٥٧).
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة (١٢/ ٢٤١)، والبيهقي (٩/ ١٩٦).
(٤) في الأصل: «دينارًا». وهو سبق لسان.


الصفحة التالية
Icon