اللَّهِ وَفِي عبادتِه، قال مُنْكِرًا عليهم: ﴿أَتُحَاجُّونِّي﴾ قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ، ما عدا نَافِعًا وحدَه، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ، وهشامٌ عن ابنِ عامرٍ - بخلافٍ عنه - قَرَأَهُ كُلُّهُمْ: ﴿أَتُحَاجُّونِّي﴾ بتشديدِ النونِ، وقرأَه نافعٌ بروايةِ ورشٍ وقالونَ وهشامٍ - بخُلف عنه - عن ابنِ عامرٍ كذلك ﴿أَتُحَاجُّونِي﴾ بتخفيفِ النونِ. والياءُ مثبتةٌ عِنْدَ جميعِ القراءِ، فَهُمَا قراءتانِ سَبْعِيَّتَانِ (١) ﴿أَتُحَاجُّونِّي﴾ وهذه قراءةُ الجمهورِ، وقراءةُ نافعٍ وهشامٍ - في إحدى الروايتين -: ﴿أَتُحَاجُّونِي﴾ بنونٍ بعدَها ياءٌ، نونٌ مُخَفَّفَةٌ.
أما قراءةُ الجمهورِ فلا إشكالَ في الآيةِ عليها، أصلُها تأتي هنا نونانِ، النونُ الأُولَى: نونُ الرفعِ، والثانيةُ: نونُ الوقايةِ، فأُدْغِمَتْ إحدى النُّونَيْنِ في الأُخْرَى، وهذا لا إشكالَ فيه (٢).
أما على قراءةِ نافعٍ: ﴿أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ﴾ وقرأ بها هشامٌ عن ابنِ عامرٍ - في إحدى الرِّوَايَتَيْنِ - ﴿أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ﴾ فقد اسْتَشْكَلَهَا بعضُ العلماءِ، وذُكِرَ عن بعضِ علماءِ العربيةِ أنه قال: قراءةُ نافعٍ في هذا لَحْنٌ (٣)!! وهذا خطأٌ، بل هي قراءةٌ فصيحةٌ، ولغةٌ عربيةٌ فُصْحَى، قرأ بها نافعٌ في حروفٍ كثيرةٍ من القرآنِ، في قولِه هنا في الأنعامِ: ﴿أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ﴾ وفي قولِه في الزمرِ: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ [الزمر: آية ٦٤] وفي قولِه في النحلِ: {أَيْنَ
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ١٩٧.
(٢) انظر: حجة القراءات ٢٥٧، القرطبي (٧/ ٢٩)، البحر المحيط (٤/ ١٦٩)، الدر المصون (٥/ ١٥).
(٣) انظر: القرطبي (٧/ ٢٩)، البحر المحيط (٤/ ١٦٩)، الدر المصون (٥/ ١٩).
الأخروي -والعياذ بالله- كما قال تعالى في التنكيل بالمشركين يوم بدر مع اتصال العذاب الأخروي على ما ذكره بعض أهل العلم: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ﴾ [السجدة: الآية ٢١].
ومعنى: ﴿حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا﴾ لم يزالوا مُصِرِّين على تكذيب الرسل معاندين ﴿حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا﴾ أي: ذاقوا طَعْمَ ألم العذاب والنّكال الكائن مما في الدنيا، المتصل بعذاب الآخرة -والعياذ بالله- قل لهم يا نبي الله: ﴿هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ﴾ دعواكم أن كل ما وقع بمشيئة الله هو راضٍ به حسن عنده؟ هل عندكم من علم بهذا أن الكفر الواقع بمشيئته أنه لما كان بمشيئته كان برضاه، وكان حسناً عنده؟ هل عندكم على هذه الدعوى الفاجرة من علم فتخرجوه لنا؟ أي: تبرزوه لنا، الفعل هنا منصوب، وأصله: (تخرجونه) إلا أن المقرر في علم النحو أن فَاءَ السَّبَبِيَّة إذا [جاءت] بعد طلب أو نفي محضين [فإن الفعل بعدها] ينصب بـ (أن) مضمرة (١)، والطلب هنا محض؛ لأنه استفهام ﴿هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ [الأنعام: الآية ١٤٨]، ولو كان استفهام التقريع يقتضي النفي، فالنفي أيضاً مَحْض، فعلى كل حال فهو منصوب، كقوله: ﴿فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا﴾ [الأعراف: الآية ٥٣].
هَل مِنْ سَبِيلٍ إِلَى خَمْرٍ فأَشْرَبَهَا... أَمْ هَلْ سَبِيلٌ إلى نَصْر بْنِ حَجَّاجِ (٢)
وما جرى مجرى ذلك.
_________
(١) انظر: التوضيح والتكميل (١٢/ ٢٩٦)، مضى عند تفسير الآية (٥٢) من هذه السورة.
تنبيه: العبارة في الأصل هكذا: ((أن فاء السببية إذا جاء بعد طلب أو نفي محضين فإنه ينصب... ))
(٢) البيت لفريعة بنت همَّام، وهو في اللسان (مادة: مني) (٣/ ٥٣٩).
بشيءٍ كُفْرٌ باللهِ (جل وعلا) وإلحادٌ في شَرْعِهِ، بل الحقُّ أن اللهَ هو خالقُ كُلِّ شيءٍ، ومسببُ ما شاءَ من [المسببات] (١) على ما شاءَ من الأسبابِ، هو الذي جَعَلَ تأثيرَ الإحراقِ في النارِ، وجعلَ تأثيرَ الريِّ في الماءِ، وجعلَ تأثيرَ الشبعِ في الخبزِ، وجعلَ تأثيرَ القطعِ في السكينِ. وهكذا فهو الخالقُ لكلِّ شيءٍ، وكلُّ شيءٍ بمشيئتِه وقدرتِه (جل وعلا)؛ وَلِذَا قال: ﴿سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى﴾ [الأعراف: آية ٥٧] كذلك الإخراجُ الذي أَخْرَجْنَا به النباتَ بعدَ الانعدامِ نخرجُ الموتَى من قبورِهم أحياءً للبعثِ.
﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: آية ٥٧] (لعل) تأتِي في القرآنِ بِمَعْنَيَيْنِ (٢)، قال بعضُ العلماءِ: هي على التَّرَجِّي، ولكن الترجِّي بحسبِ ما يظهرُ للناسِ، أما اللهُ فهو عَالِمٌ بما كان فلا يَصْدُقُ عليه الترجِّي، كقولِه لموسى وهارونَ: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ﴾ [طه: آية ٤٤] أي: على رجائِكما وَعِلْمِ بَنِي آدمَ القاصرِ، أما اللهُ فهو عالمٌ أنه لا يذَّكر ولا يَخْشَى.
الثاني: ما قاله بعضُ العلماءِ: إن كلَّ العللِ في القرآنِ مشمَّةٌ معنَى التعليلِ بمعنَى: لأَجْلِ. وعليه فـ ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ لأَجْلِ أن تتذكروا وتتعظوا بآيتِنا وغرائبِ صُنْعِنَا وعجائِبِنا. و (لعل) تأتِي في لغةِ العربِ بمعنَى التعليلِ، وهو معروفٌ في كلامِهم، ومنهُ قولُ الشاعرِ (٣):
_________
(١) في الأصل: «الأسباب» وهو سبق لسان.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.
(٣) السابق.
قال: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ﴾ [الأنعام: آية ٨١] وقد قالوا لنبي الله هود: إن آلهتهم اعترته بسوء فَخَبَّلَتْه وجننته، فزعموا أنه مجنون، وأن الذي أضر عقله آلهتهم، كما في قولهم لهود: ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (٥٥)﴾ [هود: الآيتان ٥٤، ٥٥] هذا الذي قال لهم نبي الله هود هو الذي قال لهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ﴾ وتعاونوا معهم وكل من قدرتم عليه ﴿ثُمَّ كِيدُونِ﴾ يعني: امكروا بي وافعلوا بي ما تستطيعون من الكيد والمكر ثم لا تُنْظِرُون: لا تمهلون؛ إلا أن نبي الله هودًا قال: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٥٦)﴾ [هود: آية ٥٦] ونبينا (صلوات الله وسلامه عليه) قال: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ
يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾
[الأعراف: آية ١٩٦] وقد أجرى الله عادة الشياطين أنهم يخوفون الناس من أولياء الشياطين كما تقدم إيضاحه في تفسير قوله: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ الأصل: يخوفكم أولياءَه ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: آية ١٧٥] وأنواع تخويف الشيطان الناس من أوليائه مختلفة كما هو معروف؛ ولذا قال هنا: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ﴾ [الأعراف: آية ١٩٥].
ثم قال (صلوات الله وسلامه عليه): ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ﴾ الولي في لغة العرب: وهو المولى، وهو الذي انعقد بينك وبينه سبب ولاية يجعلك تواليه ويواليك (١). والله (جل وعلا) انعقد بينه وبين رسوله
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنعام.
والتحقيقُ - إن شاء الله - أن كُلَّ هذا واسعٌ بحسبِ ما يراهُ الإمامُ، إلا أنه لا ينبغي أن ينقصَ الجزيةَ عن دينار. وهذا معنَى قولِه: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: آية ٢٩] لأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتعالى ما أَذِنَ في تركِهم إلا بهذا.
واختلفَ العلماءُ في الْعِوَضِ الذي أُعْطِيَتْ عنه الجزيةُ (١): قال بعضُ العلماءِ: عِوَضُهَا حقنُ دمائِهم. وعلى هذا القولِ إذا أَسْلَمَ سقطت عنه الجزيةُ؛ لأن دمَه حَقَنَهُ الإسلامُ. وقال بعضُهم: عِوَضُهَا حَقْنُ دمائِهم، والمدافعةُ عنهم، وَمَنْعُ مَنْ أرادَ أن يَظْلِمَهُمْ. وعلى هذا تَبْقَى الجزيةُ فيه ولو أَسْلَمَ. هكذا قالَه بعضُ العلماءِ.
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)﴾ [التوبة: الآيتان ٣٠، ٣١].
﴿ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة: آية ٣٠] قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ السبعةِ غيرَ عاصمٍ والكسائيِّ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ﴾ بلا تنوينٍ على الراءِ. وقرأه عاصمٌ والكسائيُّ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ بتنوينِ الراءِ (٢). وقرأ عامةُ السبعةِ غيرَ عاصمٍ: ﴿يضاهُون قول الذين كفروا﴾ بضم الهاء ليس بعدها همزةٌ.
_________
(١) انظر: المغني (١٣/ ٢٠٢)، القرطبي (٨/ ١١٣)، أحكام أهل الذمة (١/ ٢٥).
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص ٢٢٦.


الصفحة التالية
Icon