شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: آية ٢٧] وفي قولِه في الحجرِ: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر: آية ٥٤] بكسرِ النونِ. كُلُّ هذه الحروفِ قَرَأَهَا نافعٌ على هذه الوتيرةِ. والتحقيقُ في هذا: أن هذه لغةٌ فُصْحَى، كما جَزَمَ به سيبويه (١) أن من عادةِ العربِ إذا اجتمعَ مِثْلاَنِ أن يُخَفِّفُوا وَيَحْذِفُوا أحدَ الْمِثْلَيْنِ، وأنشدَ له سيبويه قولَ عمرِو بنِ مَعْدِي كَرِبَ الزبيديِّ (٢):
تَرَاهُ كَالثَّغَامِ يُعَلُّ مِسْكًا | يَسُوءُ الْفَالِيَاتِ إِذَا فَلَيْنِ |
أَوَّلُهَا: ما إذا دَخَلَ عليها جَازِمٌ.
والثانيةُ: إذا دَخَلَ عليها ناصبٌ. وقد جَمَعَهُمَا قولُه: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة: آية ٢٤].
_________
(١) انظر: الكتاب (٣/ ٥١٩).
(٢) البيت في: الكتاب (٣/ ٥٢٠) وحجة القراءات ٢٥٨، القرطبي (٧/ ٢٩)، الدر المصون (٥/ ١٨).
والثغام: نبت له نور أبيض يُشَبَّه به الشيب.
ويُعلْ: أي: يطيب شيئا بعد شيء.
(٣) انظر: حجة القراءات ٢٥٨.
(٤) انظر: التوضيح والتكميل (١/ ٦٠ - ٦١).
وقوله: ﴿هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ﴾ أصله مبتدأ جاءت قبله (مِنْ) والأصل: (هل عندكم علم)، فالعلم: مبتدأ استند على الظرف قبله، وهو خبره (١)، ويجب تقديم المبتدأ هنا؛ لأن الذي سوَّغ الابتداء به: النكرة التي كانت خبراً (٢)، إلا أنَّا ذكرنا -الآن- أن زيادة لفظة (مِنْ) قبل النكرة في سياق النفي -الذي ينقلها من الظهور في العموم- إلى التنصيص الصريح في العموم مطرد في ثلاثة مواضع (٣): تُزاد قبل الفاعل، وتزاد قبل المفعول، وقبل المبتدأ كما هنا، والأصل: هل عندكم علم فتخرجوه لنا؟ ولو قال: (هل عندكم علم) لأن الاستفهام هنا استفهام إنكار مشتمل على معنى النفي.
﴿فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ أي: فتُبْرِزُوهُ لنا وتظهروه لنا، وهذا -مَثَلاً- إعجاز؛ لأن الله يعلم أنهم ليس عندهم علم، وإنما قالوه تخرُّصاً وكذباً.
ثم قال: ﴿هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ والمعنى: لا علم عندكم ألبتة.
﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ﴾ ما تتبعون في هذه الأمور إلا الظن، وأصل الظن في الاصطلاح: جُل الاعتقاد، والعرب تطلقه على الشك (٤)، وجدتُم آباءكم يقولون شيئاً فاعتقدتموه، باطلاً وتقليداً أعمى من غير دليل.
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٢١١).
(٢) قوله: «ويجب تقديم المبتدأ، إلى قوله: التي كنت خبراً» هذه الجملة فيها اضطراب في المعنى، والصواب أن يُقال: «يجب تأخير المبتدأ هنا؛ لأن الذي سوَّغ الابتداء به -وهو نكرة- تقدم الخبر وهو شبه جملة».
(٣) مضى عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام.
(٤) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة البقرة.
وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا... نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مُوثَقِ...
فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ | كَشِبْهِ سَرَابٍ فِي الْمَلاَ مُتَأَلِّقِ |
ومعنَى: ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ تتعظونَ بما أريناكم من غرائبِ صنعِنا وعجائبِه.
﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)﴾.
يقول اللهُ جل وعلا: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)﴾ [الأعراف: آية ٥٨] لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ - جل وعلا - وَنَهَى في هذه الآيةِ الكريمةِ، وَبَيَّنَ عظائمَ آياتِه وبرهانَ عبادتِه وربوبيتِه أنه الربُّ وحدَه، والمعبودُ وحدَه، وَبَيَّنَ أنه أَنْزَلَ إلى هذه الخلائقِ كِتَابًا فصَّله على عِلْمٍ هدًى ورحمةً، بَيَّنَ هنا أن الناسَ الذين أُنْزِلَ عليهم هذا الكتابُ لهم شَبَهٌ بعنصرهم الأولِ وهو الأرضُ، وشبَّه الوحيَ الذي أنزلَه على نبينا ﷺ بالمطرِ، فالوحيُ كثيرًا ما يُشبَّهُ بالمطرِ كما أَوْضَحْنَاهُ في سورةِ البقرةِ في الكلامِ على قولِه: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ الآياتِ [البقرة: آية ١٩] فَكَمَا أن المطرَ يُحْيِي اللهُ به الأرضَ بعدَ موتِها وينبتُ به النباتاتِ والزروعَ والثمارَ، وَيُنْعِشُ به الحيواناتِ، وَيُهَيِّئ به لِبَنِي آدمَ مصالَحهم الدنيويةَ، فكذلك القرآنُ هو مطرُ أرضِ القلوبِ، إذا نزلَ مطرُ القرآنِ على أرضِ القلوبِ أَثْمَرَتِ
موجب الولاية، الرسول يوالي ربه بالطاعات، والله يوالي نبيه بالإعانة والنصر والثواب الجزيل، والرسول ولي المؤمنين، والمؤمنون أولياؤه ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ [الأحزاب: آية ٦] والله ولي المؤمنين، والرسول ولي المؤمنين ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ [المائدة: آية ٥٥] والمؤمنون المتقون أولياء الله ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (٦٣)﴾ [يونس: الآيتان ٦٢، ٦٣].
قوله: ﴿نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾ [الأعراف: آية ١٩٦] هو هذا القرآن العظيم. وقال بعض العلماء: المراد جنس الكتاب. فالمعنى: أنه نزل جميع الكتب المنزلة، فيها هذا الكتاب الذي هو الأخير منها، الذي جمع الله فيه علوم الأولين والآخرين، وهذا القرآن سُمي كتابًا، وهو (فِعَال) بمعنى (مَفْعُول) أي: مكتوب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (٢٢)﴾ [البروج: الآيتان ٢١، ٢٢] ومكتوب في صحف عند الملائكة، كما قال تعالى: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (١٣) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (١٦)﴾ [عبس: الآيات ١٣ - ١٦] وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (١) أن مادة الكاف، والتاء، والباء. (كَتَبَ) معناها في لغة العرب: الضم والجمع، فكل شيء ضممت بعضه إلى بعض وجمعته فقد كتبته. ومنه سُميت الكتيبة كتيبة، وهي القطعة العظيمة من الجيش؛ لأنها انضم بعضها إلى بعض واجتمع بعضها مع بعض، ومنه قول نابغة ذبيان (٢):
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
وَقَرَأَ من السبعةِ عاصمٌ وحدَه: ﴿يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بكسرِ الهاءِ وهمزةٍ بعدَه (١).
وفي الآيةِ التي قبلَ هذا أَمَرَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) بعقوبةِ أهلِ الكتابِ بقولِه: ﴿قَاتِلُوا﴾ ثُمَّ بَيَّنَ موجبَ تلك العقوبةِ بقولِه: ﴿الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ ثم أَكَّدَ موجبَ عقوبتِه بقولِه هنا: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ يعني: هؤلاء الذين أَمَرْتُكُمْ بقتالِهم مرتكبونَ من الجرائمِ ما يستوجبُ قتالَهم ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: آية ٢٩] فَأَوْجَبَ على أهلِ الكتابِ عقوباتٍ شديدةً، منها: قتالُهم حتى يدفعوا الجزيةَ ﴿عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أَخِسَّاءُ أَذِلاَّءُ. وكذلك لحقارتِهم على اللَّهِ [٥/ب] / بَيَّنَّا أن النبيَّ ﷺ أَوْصَى بإخراجِهم من جزيرةِ العربِ [وتطهيرِها منهم] (٢). ومن آخِرِ ما أَوْصَى به النبيُّ ﷺ تطهيرُ جزيرةِ العربِ من اليهودِ والنصارى وسائرِ المشركينَ (٣). ولاَ شَكَّ أن هذا أَمْرٌ مُهِمٌّ، لو لم يكن مُهِمًّا لَمَا أَوْصَى به النبيُّ عند موتِه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، ولكنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) عَلَّمَنَا في هذا الدينِ العظيمِ أن له عزائمَ وَرُخَصًا، فهذا الدينُ العظيمُ أنزلَه اللَّهُ مُنْقَسِمًا إلى عزائمَ ورخصٍ، فعزائمُه: تُسْتَعْمَلُ عندَ الأوقاتِ المناسبةِ لها، ورخصُه: تستعملُ عندَ الأوقاتِ المناسبةِ لها؛ لأن الدينَ السماويَّ لاَ بُدَّ أن يكونَ مُشْتَمِلاً على مواجهةِ التطوراتِ والأحداثِ حيث ما كانت وأيًّا ما كانت، ففي كُلِّ حالٍ له فيها مواجهةٌ.
ونريدُ هنا أن نُبَيِّنَ بعضَ الأشياءِ التي يجوزُ أخذُها من الكفارِ
_________
(١) السابق ص٢٢٦.
(٢) في الأصل: «وتطهيرهم منها». وهو سبق لسان.
(٣) مضى تخريجه قريبًا.