الثالثةُ (١): إذا دَخَلَتْ عليها نونُ التوكيدِ الثقيلةُ نحو: ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ فإنها يجبُ حَذْفُهَا فِي هذه الأمورِ الثلاثةِ بقياسٍ مُطَّرِدٍ. ما إذا تَقَدَّمَهَا جَازِمٌ، أو تَقَدَّمَهَا ناصبٌ، أو دَخَلَتْ عليها نونُ التوكيدِ الثقيلةُ. فَتُحْذَفُ نونُ الرفعِ باطرادٍ، وبقاؤُها مع الجازمِ أو الناصبِ لغاتٌ قليلةٌ مسموعةٌ، وبقاؤُها مع الجازمِ كقولِ الشاعرِ (٢):
لَوْلاَ فَوَارِسُ مِنْ نُعْمٍ وَأُسْرَتِهِمْ يَوْمَ الصُّلَيْفَاءِ لِمْ يُوفُونَ بِالْجَارِ
فهذه لغةٌ قليلةٌ تُحْفَظُ وَلاَ يُقَاسُ عليها. وكبقائِها مع الناصبِ، كقولِ الشاعرِ (٣):
أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا مِنِّي السَّلاَمَ وَأَنْ لاَ تُشْعِرَا أَحَدَا
هذا أيضًا كذلك.
أما الموضعُ الرابعُ: فهو يجوزُ فيه حذفُها وإبقاؤُها بقياسٍ مُطَّرِدٍ، كأن تجتمعَ نونُ الرفعِ مع نونِ الوقايةِ - كهذه الآياتِ التي ذَكَرْنَا - فإنها يجوزُ إثباتُ نونِ الرفعِ كقراءةِ الجمهورِ، ويجوزُ حذفُها كقراءةِ نافعٍ، وقد غَلِطَ مَنْ ظَنَّ أن النونَ المحذوفةَ أنها نونُ الوقايةِ، فالمحذوفةُ نونُ الرفعِ (٤).
_________
(١) انظر: الكتاب لسيبويه (٣/ ٥١٩)، المصدر السابق (٢/ ٢٥٨ - ٢٥٩).
(٢) البيت في المحتسب (٢/ ٤٢)، الخصائص (١/ ٣٨٨)، الخزانة (٣/ ٦٢٦).
والصُّليفاء: مصغَّر صلفاء، وهي الأرض الصلبة. ويوم الصلفاء: من أيام العرب. وقد صغّره الشاعر هنا. وهو لهوازن على فزارة وعبس.
(٣) انظر: الخصائص (١/ ٣٩٠)، أوضح المسالك (٣/ ١٦٦)، الخزانة (٣/ ٥٥٩).
(٤) انظر: القرطبي (٧/ ٢٩)، الدر المصون (٥/ ١٦).
﴿وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ معناه: وما أنتم إلا تكذبون.
الخرص هنا معناه: الكذب، ومنه: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠)﴾ [الذاريات: الآية ١٠] لُعن الكذابون، وأصل اشتقاقه من الخَرْص الذي هو الحزر؛ لأن الكذاب لا يَتَحَرَّى حَتَّى يَتَحَقَّق وإنما يقول حَزراً وتخمينًا، ومن هُنَا أُطلق الكذب على الخرص (١)، وقوله: ﴿وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ معناه: وما أنتم إلا تكذبون، كَذَبَة فَجَرَة؛ حيث زعمتم أن شرككم وإن كان واقعاً بمشيئة الله أن الله راضٍ به، وأنه حسنٌ عنده، كلا! لا دليل ولا علم بذلك، وإنما هو افتراء وكذب وتخرّص على الله، وهذا معنى قوله: ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ أي: والظنّ لا يغني من الحق شيئاً، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ [يونس: الآية ٣٦] وقال - ﷺ - في الحديث الصحيح: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ» (٢)، وهذا في الظن فيما يُطلب فيه اليقين، كعبادة الله (جل وعلا) وحده، فإن هذه أمور يقينية لا تختلجها ظنون.
وتمسك ابن حزم بظاهر هذه الآيات أن كل اجتهاد باطل، وأن كل اجتهاد ظن، وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً (٣)، فهذا ليس على بابه؛ لأن الأمور العملية إنما يُعمل فيها بالظنون، وقد يكون الظاهر قطعيّاً لا شك فيه وباطن الأمر مظنون لا ندري أحق هو أم كذب؟ وقد دلَّ القرآن في بعض المواضع أن الظاهر يكون قطعيّاً لا شك فيه، والباطن باطن (٤) لا شك فيه، وهذا الشرع الكريم لا يأمر في نفس الواقع
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١٦) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٧٩) من سورة البقرة.
(٣) انظر: المحلى (١/ ٦٨، ٧١).
(٤) يحتمل أن تكون: «باطل».
القلوبُ ثمراتِها الرائعةَ اليانعةَ من الإيمانِ باللهِ والتقوى والخشيةِ والإنابةِ والإيثارِ وطاعةِ اللهِ (جل وعلا) والخوفِ منه والانقيادِ لأوامرِه، والتباعدِ لنواهيه، فالقرآنُ مطرُ القلوبِ، والأرضُ كأنها المطرُ الذي يُثْمِرُ فيه القرآنُ، كما أن الأرضَ هي مطرُ السحابِ التي يُثْمِرُ فيها. فَضَرَبَ اللهُ المثلَ هنا لقلوبِ بَنِي آدمَ بِأَنَّ بَيْنَهُمْ شَبَهًا وبينَ الأرضِ؛ لأنها أصلُهم وعنصرُهم الذي خُلقوا منه، فإذا نزل المطرُ من السماءِ وأصابَ أرضًا طيبةً أَثَّرَ فيها أثرًا شَدِيدًا فأنبتتِ الزروعَ والحبوبَ والثمارَ والعشبَ والكلأَ الكثيرَ، وصارت تَرْفُلُ في حُلَلِ زِينَتِهَا من أنواعِ النباتاتِ.
وإذا نزلَ المطرُ على أرضٍ سَبِخَةٍ خبيثةٍ لاَ تقبلُ النباتَ كلما ازدادَ نزولُ المطرِ عليها ازدادت خُبْثًا، لا تمسكُ ماءً عذبًا يُشْرَبُ منه، ولا تُنْبِتُ مرعًى يُرْتَعُ فيه، ولا ثمارًا ولا زروعًا تُؤْكَلُ، فهذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لقلبِ المؤمنِ وقلبِ الكافرِ، وضربَ المثلَ للقرآنِ بأنه مطرُ القلوبِ المثمرِ فيها، كما أن مطرَ السحابِ هو مطرُ الأرضِ المثمرُ فيها، قال: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾ [الأعراف: آية ٥٨] أصلُ البلدِ الطيبِ من الأرضِ إذا صادفَه المطرُ الكثيرُ يخرجُ نباتُه بإذنِ رَبِّهِ أَحْسَنَ ما يكونُ، يخرجُ نباتُه نباتًا حسنًا فيه الزروعُ والثمارُ والأعشابُ والكلأُ وكلُّ ما ينتفع به الناسُ في أمورِ معاشِهم، هذا هو البلدُ الطيبُ، كذلك القلبُ الطيبُ إذا نَزَلَتْ عليه أمطارُ القرآنِ: زواجرُه ونواهيه ومواعظُه وحلالُه وحرامُه أثمرَ ذلك القرآنُ في ذلك القلبِ ثمراتٍ أحسنَ من ثمراتِ الأرضِ الطيبةِ إذا نزلَ عليها المطرُ، فأثمرَ الإيمانَ باللهِ، والتطهرَ من أدناسِ المعاصِي والكفرِ، وامتثالَ أَمْرِ اللهِ واجتنابَ نواهيه.
وكلُّ خصلةٍ حسنةٍ يُثْمِرُهَا مطرُ القرآنِ في قلبِ المؤمنِ؛ كالخشيةِ من اللهِ، والتوبةِ عندَ الزلاتِ، والإنابةِ إليه،

ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُم بِهِنَّ فُلولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ
ولذلك أُطلقت الكتابة على الخياطة؛ لأن الخياطة يُضم فيها طرف الثوب أو طرف الأديم بعضها إلى بعض ويُجمعان بالخيط الذي يخيط به الخائط كما هو معروف، وفي ألغاز الحريري (١):
وكَاتِبِينَ وَمَا خَطَّتْ أَنَامِلُهمْ حَرْفًا ولا قَرَءُوا مَا خُطَّ في الكُتُبِ
يعني الخياطين؛ ولذلك سمّت الْعَرَبُ الرّقْعَة التي تكون في السقاء، والسير التي تُخاط به سَمَّتْهُمَا (كُتبة) لأنه شيء يُلصق بشيء ويُضم إليه، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول غيلان ذي الرمة (٢):
ما بَالُ عَيْنَيْك منها الماءُ يَنْسَكِبُ... كأنهُ من كُلًى مَفْريةٍ سَرَبُ...
وفْراء غَرْفِيَّة أَثْأَى خَوَارِزها مشَلْشَلٌ ضَيَّعَتْهُ بينها الكُتَبُ
ومن هذا قيل للخياط: كاتب، ومنه قول الشاعر يهجو بني فزارة ويعيرهم بأنهم يفعلون الفاحشة مع إناث الإبل (٣):
لا تَأْمَنَنَّ فَزَاريًّا خَلَوْتَ بِهِ عَلَى قلُوصِكَ واكْتُبْهَا بأَسْيَارِ
فقوله: «واكتبها بأسيار» يعني: خِط ثفرها بأسيار لئلا يفعل بها الفزاري الفاحشة. هذا أصل هده المادة في لغة العرب. والكتابة مصدر سيَّال معناه أنك تجمع نقوشًا وتضم بعضها إلى بعض، وتجمع بعضها مع بعض، هي هذه الحروف حتى تصير دالة على المعاني. هذا معنى الكتاب، وهو (فِعال) بمعنى (مفعول) مكتوب. وهذا معنى
_________
(١) السابق.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام.
(٣) السابق.
والتي لا يجوزُ أخذُها؛ ليكونَ المسلمُ على بصيرةٍ من ذلك، ويعلمَ ما ينبغي وما لا ينبغي، وَيُفَرِّقَ بينَ ما يضرُّ وما لا يضرُّ. لاَ شَكَّ أنه إن كانت القوةُ كاملةً للمسلمينَ من غيرِ حاجةٍ للكفارِ في شيءٍ أنهم يقومونَ بأنفسِهم ويقيمونَ عزائمَ اللَّهِ في المشركينَ مِنْ قَتْلٍ حتى يُعْطُوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرونَ، وتطهيرُ جزيرةِ العربِ منهم إلى غيرِ ذلك مِمَّا قَدَّمْنَا أنه لا بُدَّ منه في كُلِّ الأحوالِ وفي كُلِّ الظروفِ، أي: إذا كان محل العزائمِ والمسلمون في قوتِهم كما ينبغي، أما إذا كان المسلمونَ في ضَعْفٍ عن ذلك، أو في حاجةٍ ماسةٍ ضروريةٍ إلى الكفارِ فَلِكُلِّ حالٍ مقالٌ، وقد عَلَّمَنَا النبيُّ ﷺ الْمَخْرَجَ في جميعِ هذه الأشياءِ، فهو (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) لَمَا أَمْكَنَهُ أن يُجْلِيَ بني قَيْنُقَاعَ من غيرِ حاجةِ المسلمينَ ولا ضرورةٍ عليهم أجلاهم من المدينةِ إلى الشامِ، وَلَمَا أمكنَه بعد ذلك أن يُجْلِيَ بنِي النضيرِ أجلاهم من المدينةِ إلى أطرافِ الشامِ كما سيأتِي في قولِه: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا... ﴾ إلى آخِرِ الآياتِ [الحشر: آية ٢]. وَلَمَّا كانت حاجةُ المسلمينَ ماسةً إلى عدمِ إجلاءِ خيبر لم يُجْلِهِمْ بل عَامَلَهُمْ ليتولوا القيامَ على نَخْلِ خيبرَ وأرضِها، وأعطاهم شَطْرَ ثمارِ نخلِ خيبرَ وما يخرجُ من أرضِها، وهو ﷺ عازمٌ على إخراجِهم عندما أَمْكَنَتِ الفرصةُ، وصار وقتُ العزيمةِ، وانتهى وقتُ الرخصةِ؛ وَلِذَا ثَبَتَ في بعضِ الرواياتِ الصحيحةِ أنهم لَمَّا قالوا له: أَقِرَّنَا على الأرضِ نقومُ على نَخْلِهَا وزرعِها بشطرِها. قال لهم صلى الله عليه وسلم: «نُقِيمُكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شَئْنَا، وَإِنْ شِئْنَا أَنْ نُخْرِجَكُمْ أَخْرَجْنَاكُمْ» (١)
لأنه عازمٌ على إخراجِهم
_________
(١) البخاري في الحرث والمزارعة، باب: إذا قال رب الأرض: أُقرك ما أقرك الله.. حديث رقم: (٢٣٣٨) (٥/ ٢١)، ومسلم في المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع. حديث رقم: (١٥٥١) (٣/ ١١٨٧).


الصفحة التالية
Icon