الْمَوْضِعُ الخامسُ: هو أَنْ تُحْذَفَ نونُ الرفعِ لغيرِ واحدٍ من الأسبابِ الأربعةِ - لأَنْ لاَ يدخلَ عليها نَاصِبٌ وَلاَ جَازِمٌ، ولاَ تكونُ مع نونِ التوكيدِ الثقيلةِ، وَلاَ مَعَ نونِ الوقايةِ - فَحَذْفُهَا في مثلِ هذا شَاذٌّ يُحْفَظُ وَلاَ يُقَاسُ عليه، كقولِ الراجزِ (١):
أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي
فالتحقيقُ أن قراءةَ نافعٍ في هذا الحرفِ وفي غيرِه أنها على لغةٍ عربيةٍ فُصْحَى.
ومعنى الآيةِ الكريمةِ: أَتُحَاجُّونَنِي، أَتُجَادِلُونَنِي في اللَّهِ، وأني لا أعبدُه وحدَه، والحالُ قد هَدَانِي رَبِّي، وَشَرَحَ صَدْرِي بما أَوْحَى إِلَيَّ، وبما أَرَانِي من ملكوتِ السمواتِ والأرضِ حتى صرتُ من الْمُوقِنِينَ، أَبَعْدَ هذا من العلمِ واليقينِ الذي أَعْطَانِي اللَّهُ تُحَاجُّونَنِي وَتُجَادِلُونَنِي في اللَّهِ، في أنه المعبودُ وحدَه؟ هذا مما لا يكونُ ولا يصحُّ. ثم إنهم قالوا له على عادةِ الكفارِ: تَرَى أَنَّكَ عِبْتَ آلِهَتَنَا وأصنامَنا، وَعِبْتَهَا وكسرتَها، وقلتَ: إنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ. ترى أنها ستصيبُك ببرصٍ أو جُذَامٍ أو تُخَبِّلُكَ فَتُجَنّنكَ (٢)!! وهذه عادةُ الكفارِ، يخوفونَ أنبياءَ اللَّهِ من أصنامِهم. فأجابَهم إبراهيمُ قال لهم: ﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ قال لهم: لا أخافُ ما تشركونَ به؛ لأنه لا ينفعُ ولا يَضُرُّ، ولا يُتَرَقَّبُ منه خوفٌ ولا نفعٌ، فلا أخافُه أَبَدًا.
_________
(١) البيت في الخصائص (١/ ٣٨٨)، الخزانة (٣/ ٥٢٥)، الدر المصون (٥/ ١٧).
(٢) انظر: ابن جرير (١١/ ٤٨٩).
بمعرفة الواقع، فنحن جميعاً هؤلاء موجودون، كل واحد منا يُقال له فلان بن فلان، يُنسب إلى أبيه، وتكون أخوات أبيه عماته، ويرث في أبيه، ونحن لا نجزم قطعاً بأن كل واحد منا مخلوق من ماء أبيه، فقد تكون بعض النساء فاجرة، وتدخل لزوجها ولداً من غيره، وهذا الظن يُحكم له بالقطع، والله أمرنا بالبيِّنَة، قال: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق: الآية ٢] فنحن نُشهد العَدْلَيْنِ، ونقتل المسلم بشهادة عَدْلَيْنِ، ولو سُئلنا: هل أنتم جازمون في نفس الأمر أنهما صادقان؟ لقلنا: لا والله، لا نجزم؛ لأنهما غير مَعْصُومَيْنِ، ويجوز في حقهما الكذب، ولكننا نظن ظنّاً غالباً لعدالتهما أنهما صادقان، فإن كانا صادقين فذلك، وإن كانا كاذبين فعليهما، ونحن نبْرَأُ من ذلك.
ومن هذا المعنى ثَبَتَ في الصحيحين عن النبي - ﷺ - من حديث أم سلمة أم المؤمنين -رضي الله عنها- هند بنت أمية، أن النبي - ﷺ - قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً، فَكَأَنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» (١) هذا حديث ثابت في الصحيحين، بَيَّنَ فِيهِ النَّبِيّ أنه ليس على يقين أن ما يقضي به مطابق للواقع في نفس الأمر، بل هو يقضي على نحو ما يسمع من ظواهر الدعاوي والبيِّنَات، وقد يكون الأمر مخالفاً في باطن الأمر؛ ولذا قال: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً، فَكَأَنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ».
_________
(١) أخرجه البخاري في المظالم، باب: إثم من خَاصَمَ في باطل وهو يعلمه، حديث رقم: (٢٤٥٨)، (٥/ ١٠٧)، ومسلم في الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، حديث رقم: (١٧١٣)، (٣/ ١٣٣٧).
والسخاءِ والشجاعةِ والرضا بقضاءِ اللهِ، والإيثارِ وعدمِ الشُّحِّ، إلى غيرِ ذلك من خصالِ الإسلامِ الكريمةِ الجميلةِ.
﴿وَالَّذِي خَبُثَ﴾ أي: والبلدُ الذي خَبُثَ كالبلدِ الذي يكونُ سَبِخًا خبيثًا لاَ يخرجُ نباتُه ولو تَتَالَتْ عليه الأمطارُ: ﴿إِلاَّ نَكِدًا﴾ إلا في حالِ كونِه نَكِدًا عسيرَ الخروجِ لاَ خيرَ فيه ولا منفعةَ فيه ألبتةَ، يخرجُ بِعُسْرٍ غايةَ العسرِ، ويخرجُ مَسْلُوبًا من الخيرِ والنفعِ.
وأصلُ النَّكِدِ في لغةِ العربِ: العسيرُ، لا يخرجُ إلا في حالِ كونِه نَكِدًا، أي: عسيرَ الخروجِ، مسلوبَ الفائدةِ، لاَ يُنْتَفَعُ به في أَكْلِ الناسِ، ولاَ أَكْلِ الأنعامِ؛ إِذْ لاَ فائدةَ فيه، فكذلك قلبُ الكافرِ لاَ يُثْمِرُ إلاَّ نكدًا عسيرًا، ثمرةً لاَ فائدةَ فيها، كالأرضِ السبخةِ إذا كَثُرَتْ عليها الأمطارُ لاَ يُثْمِرُ شيئًا فيه فائدةٌ.
وهذا المثلُ بَيَّنَهُ النبيُّ ﷺ في حديثِ أبِي موسى الأشعريِّ المتفقِ عليه بيانًا واضحًا، وفيه: «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى كَمَثَلِ غَيْثٍ كَثِيرٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءُ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُنْبِتُ كَلأً وَلاَ تُمْسِكُ مَاءً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي الدِّينِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (١).
والنبيُّ ﷺ في هذا الحديثِ الصحيحِ الذي اتفقَ عليه مسلمٌ والبخاريُّ من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ (رضي الله عنه) بَيَّنَ أن
_________
(١) البخاري في العلم، باب فضل من عَلِمَ وعَلَّم. حديث رقم (٧٩)، (١/ ١٧٥). ومسلم في الفضائل، باب بيان مثل ما بعث النبي ﷺ من الهدى والعلم. حديث رقم (٢٢٨٢)، (٤/ ١٧٨٧).
قوله: ﴿الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾.
﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ وهو (جل وعلا) يتولى الصالحين، وسيدهم وخيرهم هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تولاه، ولا يضره شيء مع كلاءة الله وحفظه له ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: آية ٦٧] ومعنى كونه يتولاهم أي: يتولاهم بالنصر والحفظ والكلاءة والجزاء ونحو ذلك.
والصالحون جمع صالح، وهو ضد الطالح، وهو الذي يطيع الله (جل وعلا) فيما أمره به ونهاه عنه. وهذا معنى قوله: ﴿الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾.
ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ﴾ أي: إعانتكم من ظالم ظلمكم، لا يقدرون أن يدفعوا عنكم شيئًا ﴿وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٩٧].
﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ﴾ كما تقدم بيانه.
﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٩٨] في هذه الآية الكريمة أوجه معروفة من التفسير (١): قال بعض العلماء: الضمير في ﴿وَتَرَاهُمْ﴾ عائد إلى الكفار الذين يعبدون الأصنام. يعني: تراهم ينظرون إليك وتظن أن عيونهم مبصرة وهم لا يبصرون شيئًا؛ لأنهم عمي؛ إذ لو كانوا يبصرون شيئًا لما عبدوا حجارة لا تنفع ولا تضر!!
وقال بعض العلماء: الضمير في قوله: ﴿وَتَرَاهُمْ﴾ عائد إلى الأصنام. والذين قالوا هذا اختلفوا إلى قولين:
_________
(١) انظر: ابن حرير (١٣/ ٣٢٤)، القرطبي (٧/ ٣٤٤).
(صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، عندما تسنحُ الفرصةُ المواتيةُ لذلك، فالعزيمةُ لها وقتُها، وإنا كان الوقتُ للعزيمةِ لا يجوزُ أن تُهْمَلَ بحالٍ من الأحوالِ، فإذا كان الظرفُ مناسبًا للرخصِ أُعْمِلَتِ الرخصُ؛ لأن دينَ الإسلامِ دينٌ مرنٌ صالحٌ لمواجهةِ جميعِ التياراتِ والأحداثِ والتطوراتِ، وقد قَدَّمْنَا في سورةِ [آل عمران] (١) طَرَفًا جَيِّدًا من هذا في الكلامِ على قولِه: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: آية ٢٨] أي: إلا أن تخافوا منهم خوفًا فَلِذَلِكَ حَالٌ وَحُكْمٌ آخَرُ.
وَاعْلَمُوا - أيها الإخوانُ - أن المؤسفَ كل المؤسف هو أن الذي يجوزُ لنا أن نأخذَه من الكفارِ والذي يمتنعُ علينا أن نأخذَه منهم معكوسٌ في أقطارِ المعمورةِ الآنَ!! يأخذونَ منهم ما لا يَحِلُّ أَخْذُهُ، ويتركونَ ما لاَ ينبغِي تَرْكُهُ، فيعكسونَ القضيةَ عَكْسًا تَامًّا!! وإيضاحُ هذا المعنَى أنه يجوزُ للمسلمينَ أن يَنْتَفِعُوا بأعمالِ الكفارِ التي هي أمورٌ دنيويةٌ بحتةٌ وَيَحْذَرُوا كُلَّ الحذرِ من أن يُقَلِّدُوهُمْ في شيءٍ من أوامرِ الدينِ. وسنذكرُ لكم أمثلةً من هذا يتضحُ بها المقامُ (٢): هذا سَيِّدُ الخلقِ محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه - لَمَّا تَوَاطَأَتْ عليه قُوَى الشَّرِّ وَاضْطَرُّوهُ أن يخرجَ مِنْ مَسْقَطِ رَأْسِهِ - كما قَدَّمْنَا في سورةِ الأنفالِ في الكلامِ على قولِه تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأنفال: آية ٣٠] وَدَخَلَ هو وصاحبُه في غارٍ كما سيأتِي تفصيلُه في هذه السورةِ الكريمةِ إن شاء الله - وَجَدَ في ذلك الوقتِ
_________
(١) في الأصل: «النساء». وهو سبق لسان.
(٢) راجع ما سبق عند تفسير الآية (١١٥) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon