والتحقيقُ في الاستثناءِ في قولِه: ﴿إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾ أنه استثناءٌ منقطعٌ. هذا هو التحقيقُ (١)، والمعنَى: لكن إن شاءَ رَبِّي أمرًا مَخُوفًا أَوْقَعَنِي فيه، أَمَّا أصنامُكم فليس منها خوفٌ، وليس منها نَفْعٌ؛ لأنها جماداتٌ لا تنفعُ ولا تَضُرُّ. وهذا هو التحقيقُ، خلافًا لقومٍ زَعَمُوا أن الاستثناءَ مُتَّصِلٌ، وقالوا: لا أَخَافُ من معبوداتِكم إلا أن يشاءَ اللَّهُ أن يجعلَ لِي منها ضررًا، كأن يُسْقِطَ عَلَيَّ قطعةً من القمرِ الذي تعبدونَ، أو من الشمسِ الذي تعبدونَ، وأن يخلقَ في الحجارة عقولاً وقوةً تبطشُ بِي بها (٢). هذا كُلُّهُ خلافُ التحقيقِ.
والتحقيقُ أن الاستثناءَ منقطعٌ، وأن المعنَى: ولا أخافُ ما تشركونَ به شيئًا، فلا أخافُ ما تشركونَ به، ثم إنه لَمَّا نَفَى الخوفَ عن نفسِه اسْتَثْنَى مشيئةَ اللَّهِ، إلا أن يشاءَ اللَّهُ أن يُخَوِّفَنِي بما شاءَ، فَلَهُ في ذلك ما شَاءَ، والاستثناءُ استثناءٌ منقطعٌ، والتحقيقُ: أن الاستثناءَ المنقطعَ جائزٌ في لغةِ العربِ، وفي كلامِ العربِ، خلافًا للمقررِ في
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٤٨٩)، القرطبي (٧/ ٢٩)، ابن كثير (٢/ ١٥٢)، البحر المحيط (٤/ ١٦٩)، الدر المصون (٥/ ٢٠).
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٧٠).
وقَدْ بَيَّنَ الله في سورة النور أن هذا التشريع الذي يُراعَى فِيهِ الظَّاهِر -ولو كان الظاهر باطلاً- أن الله إنما قَبِلَه رَأْفَةً بِهَذِهِ الأمة، وتسهيلاً عليها، أوضح ذلك في آية اللعان؛ لأنه لمَا جاء هلال بن أُمية (١)، وعويمر العجلاني (٢)، ورمى كلّ منهما زوجته بالزنا لرجل، وقال هلال: رَأَتْ عَيْنِي وسمعت أذُنِي، وأنزل الله آية اللعان، قام الرجل فحلف أَيْمَانَه، وخمَّس باللعنة، يقول في الأَيْمَان الأربعة: أشهد بالله إني لصادق فيما رميتُهَا به من الزنا، ثم خمَّس في الخامسة باللَّعْنَةِ، لعنة الله عليه إن كان كاذباً فيما رماها به من الزنا، ثم قامت المرأة فحلفت أَيْمَانَها، وخمَّست بغضب. تقول: أشهد بالله إنه لكاذب عليَّ فيما رماني به من الزنا، ثم قالت في الخامسة: غَضِبَ الله عليها إن كان صادقاً فيما رماها من الزنا.
فلما انتهت الأَيْمَان قال لهما الشرع الكريم: أنت مُصَدَّق، وأنتِ مُصَدَّقَة، ليس عليكَ أنْتَ قَذْفُ مُحْصَنَة، وليس عليكِ أنتِ حد الزنا، فصارت المرأة لا شيء عليها، والرجل لا شيء عليه، ونحن نَتَيَقَّن يقيناً جازماً أن باطن هذه القضية خراب!! لأنه لا بد أن واحداً منهما كاذب، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - ﷺ - قال: «اللهُ أَعْلَمُ إِنَّ أَحَدَكُمَا
_________
(١) أخرجه البخاري في التفسير، باب: (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين) حديث رقم: (٤٧٤٧) (٨/ ٤٤٩) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومسلم في اللعان، حديث رقم: (١٤٩٦) (٢/ ١١٣٤) من حديث أنس رضي الله عنه مختصراً.
(٢) أخرجه البخاري في التفسير، باب: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ حديث رقم: (٤٧٤٥) (٨/ ٤٤٨)، وانظر حديث رقم: (٤٧٤٦). ومسلم في اللعان. حديث رقم: (١٤٩٢)، (٢/ ١١٢٩) من حديث سهل بن سعد (رضي الله عنه). وقد جاء نحوه عن ابن عمر وابن عباس (رضي الله عنهما).
قلوبَ البشرِ بالنسبةِ إلى أمطارِ القرآنِ ثلاثةُ أنواعٍ: قلبٌ كالأرضِ الطيبةِ إذا نزلت عليه أمطارُ القرآنِ أَنْبَتَ العشبَ والكلأَ الكثيرَ، معناه: أنه يثمرُ فيه القرآنُ ومواعظُه فيجمعُ بينَ العلمِ به والعملِ، فيتعلمُ معانيه، ويفهمُ حِكمَه، ويعملُ بها، وَيُعَلِّمُهَا غيرَه. وفي حديثِ البخاريِّ من حديثِ عثمانَ بنِ عفانَ (رضي الله عنه): «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» وفي روايةٍ في صحيحِ البخاريِّ: «إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» (١) فهذه هي الطائفةُ الأُولَى من الطوائفِ الثلاثةِ التي شَبَّهَهَا النبيُّ ﷺ - في هذا الحديثِ الصحيحِ المتفقِ عليه - بالأرضِ الطيبةِ القابلةِ للماءِ الْمُنْبِتَةِ للكلأِ والعشبِ الكثيرِ، فكذلك القلوبُ الطيبةُ تُثْمِرُ فيها مواعظُ القرآنِ الثمراتِ الكثيرةَ الطيبةَ، فترى صاحبَها خائفًا من اللهِ، طَامِعًا في فَضْلِ اللهِ، مُطِيعًا لِلَّهِ، مُتَبَاعِدًا عن معاصِي اللهِ، مُمْتَثِلاً جميعَ الأوامرِ، مُتَبَاعِدًا عن انتهاكِ شيءٍ من النواهِي، فهذه الطائفةُ الأُولَى.
الطائفةُ الثانيةُ: ضَرَبَ لها النبيُّ ﷺ في هذا الحديثِ الصحيحِ المتفقِ عليه مَثَلاً بأنها كأنها أجادبُ ليس فيها مَرْعًى ولكن فيها منافعُ تمسكُ الماءَ فيسيلُ الماءُ ويحبسُ فيها فتكونُ مجتمعةً فيها مياهٌ كثيرةٌ، ثم هذه المياهُ ينفعُ اللَّهُ بها خلقَه: منهم مَنْ يأتي فيشربُ، ومنهم مَنْ يسقِي مواشيَه من هذا الماءِ، ومنهم مَنْ يُسَلِّطُهُ على زروعِه وبساتينِه فينتفعُ بهذا الماءِ. وهذه الطائفةُ هي التي حَفِظَتْ عن رسولِ اللهِ ﷺ العلمَ الذي جاء به من القرآنِ والحديثِ الصحيحِ، ولم يكن عندهم من قوةِ الفهمِ ما يتفهمونَ في معانيه ويطلعونَ على أسرارِه وَحِكَمِهِ،
_________
(١) البخاري في فضائل القرآن. باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه. حديث رقم (٥٠٢٨)، (٩/ ٧٤)، وذكر اللفظ الآخر قبله برقم (٥٠٢٧).
أحد القولين: أنهم كانوا يمثلون تماثيل ويجعلون لها أعينًا تشبه عيون الناس، حتى إنه إذا قابلك الصنم كأنه إنسان ينظر إليك. قالوا: وعلى هذا تراهم فيما يتراءى للناظر ينظرون إليك وهم لا يبصرون؛ لأنهم في الحقيقة جمادات. وذكر ابن جرير (١) وغير واحد أن العرب تقول لكل مقابل شيء إنه ناظر إليه، تقول: دار فلان تنظر إلى داري. معناه: أنها مقابلة لها. وقالوا: إن هذا أسلوب عربي معروف، نزل به القرآن. وعلى هذا القول: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ مقابلين لك ليس بينك وبينهما حاجز ﴿وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ لأنها جمادات لا تنفع ولا تضر. هذه الأقوال الثلاثة هي حاصل كلام أهل العلم في الآية. وهذا معنى قوله: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٩٨].
﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)﴾ [الأعراف: الآيتان ١٩٩، ٢٠٠].
هذه الآية الكريمة من أخريات سورة الأعراف إحدى ثلاث آيات (٢) في كتاب الله بيّن الله (جل وعلا) فيها آدابًا اجتماعية يجب على كل مسلم أن يتفهمها ويتدبرها ويعمل بها؛ لأنه ينتفع بها في طول حياته انتفاعًا تامًّا، وهي من تعاليم خالق السماوات والأرض، وسنلم بهذه الآيات ونذكر هذه الآداب الاجتماعية التي دَلَّتْ عَلَيْهَا التي يحتاج إلى تعليمها كل إنسان، ثم نرجع إلى الآية فنفَسِّر مُفْرَدَاتها.
_________
(١) تفسير ابن جرير (١٣/ ٣٢٥).
(٢) انظر: الأضواء (٢/ ٣٤١).
كافرًا مِنْ بَنِي دؤلِ بنِ كنانةَ يُسَمَّى عبدَ اللَّهِ بنَ الأُرَيْقِطِ، وكان في ذلك الوقتِ كافرًا من عبَدَةِ الأوثانِ، إلا أن عندَه خبرةٌ دنيويةٌ بالطرقِ من مكةَ إلى المدينةِ؛ لأنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) في ذلك الوقتِ محتاجٌ إلى خبيرٍ بِالطُّرُقِ؛ لأن الطرقَ المعهودةَ السابلةَ أَمْسَكَهَا الكفارُ وجعلوا جعائلَ لكلِّ مَنْ أَتَى بمحمدٍ ﷺ أن يُعْطُوهُ الأموالَ الكثيرةَ، فصارَ لا يمكن أن يسيرَ في الطرقِ المعهودةِ والسبلِ السابلةِ، بل لا بُدَّ أن يذهبَ من بُنَيَّاتِ طرقٍ ليست هي المعهودةَ، وهذه تحتاجُ إلى خبرةٍ خاصةٍ ووجدَ هذه الخبرةَ عند كافرٍ من بَنِي دؤلِ بنِ كنانةَ يُسَمَّى عبدَ اللَّهِ بنَ الأريقط، فَأَوْدَعَهُ رواحلَه وأعطاه الموعدَ، وكان ذلك الكافرُ أَمِينًا معه، فجاءَه في الموعدِ وَذَهَبَ به وجاء به من طُرُقٍ غيرِ معهودةٍ حتى أَوْصَلَهُ المدينةَ بسلامٍ (١).
فالنبيُّ ﷺ عندَ الحاجةِ انتفعَ بخبرةِ هذا الكافرِ ولم يَقُلْ: هذه خِبْرَةٌ نَجِسَةٌ قَذِرَةٌ لأنها من كَافِرٍ، بل انْتَفَعَ بها على حَدِّ قولِهم «اجْتَنِ الثِّمَارَ وَأَلْقِ الْخَشَبَةَ فِي النَّارِ». وكذلك لَمَّا سَمِعَ بالكفارِ في غزوةِ الأحزابِ قال له سلمانُ الفارسيُّ - كما هو مذكورٌ في الأخبارِ وَالسِّيَرِ -: كُنَّا إِذَا خِفْنَا خَنْدَقْنَا (٢). فأشارَ إليه بالخندقِ، وهو خطةٌ حربيةٌ عسكريةٌ، فقامَ النبيُّ ﷺ وانتفعَ بهذه الخطةِ الحربيةِ العسكريةِ وإن كانت ابْتَدَعَتْهَا أذهانُ فارسَ الذين هُمْ كفَرَةٌ يعبدونَ النارَ، ولم يَقُلْ: هذه خطةٌ نَجِسَةٌ قذرةٌ؛ لأَنَّ أصلَها من الكفارِ!! بل انتفعَ بما ينفعُه في دنياه وهو محافظٌ على دِينِهِ. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ أن النبيَّ ﷺ هَمَّ أن يمنعَ الرجالَ من أن يطؤوا نساءَهم فِي حالةِ إرضاعِهن؛ لأن العربَ كانوا يَظُنُّونَ أن الرجلَ إذا أَتَى أَبُوهُ أُمَّهُ وهي
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.


الصفحة التالية
Icon