أصولِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ، فالمقررُ في الأصولِ (١) عند ثلاثةٍ من الأئمةِ: مالكٍ، والشافعيِّ، وأبِي حنيفةَ، أن الاستثناءَ المنقطعَ صحيحٌ، وأنه جائزٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، خلافًا لِلْمُقَرَّرِ في أصولِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ أن الاستثناءَ المنقطعَ لا يجوزُ؛ لأن غيرَ ما دَخَلَ لا يمكنُ أن يُخْرَجَ بالاستثناءِ، وحجةُ الجمهورِ وُرُودُ الاستثناءِ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، وَمِنْ ورودِ الاستثناءِ المنقطعِ في القرآنِ: ﴿مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ [النساء: آية ١٥٧] فاتباعُ الظَّنِّ ليس من جنسِ العلمِ، وكقولِه: ﴿وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (٢٠)﴾ [الليل: الآيتان ١٩، ٢٠].
فليس من جنسِ نعمةٍ لأحدٍ عندَه، وكقولِه: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا﴾ ﴿إِلاَّ سَلَامًا﴾ [الواقعة: الآيتان ٢٥، ٢٦] فالسلامُ ليس من جنسِ اللغوِ. وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ قولُ نابغةِ ذبيانَ (٢):

وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلاَنًا أُسَائِلُهَا عَيَّتْ جَوَابًا، وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
إِلاَّ الأَوَارِيَّ لأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ
فالأَوَارِيُّ التي هي مرابطُ الخيلِ لَيْسَتْ من جنسِ الأحدِ. وكقولِ الراجزِ (٣):
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ إِلاَّ الْيَعَافِيرُ وَإِلاَّ الْعِيسُ
_________
(١) في هذه المسألة راجع: ابن جرير (٢/ ٢٦٤)، (٨/ ١٣٦، ١٣٧)، (٩/ ٣١)، البحر المحيط في أصول الفقه (٣/ ٢٧٧)، شرح الكوكب المنير (٣/ ٢٨٦)، المذكرة في أُصول الفقه ٢٢٦، نثر الورود (١/ ٢٨١)، أضواء البيان (٤/ ٣٣٦ - ٣٣٩).
(٢) البيت الثاني مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة، وهما في ديوان النابغة ص٩. وقوله: (أصيلاناً) أي: عند الأصيل. و (عيت جوابا) أي: عجزت عن الإجابة. و (الأواري) مفردها الآري، وهي الآخية التي تشد بها الدابة. و (اللأي) الشدة. و (النؤي) ما يُحفر حول الخيمة لعدم تسرب الماء أو غيره بداخلها. و (المظلومة الجلد) أي: الأرض الشاقة التي أُقيم فيها حوض على غير استحقاق منها لذلك.
(٣) البيت لجران العود. وهو في الخزانة (٤/ ١٩٧)، الدر المصون (١١/ ٣٣) واليعافير: جمع يعفور، وهو الظبي بلون التراب، أو عام.
لَكَاذِبٌ» ولو لم يقلها - ﷺ - فنحن نَعْرِفُهَا كل المعرفة، ونجزم كل الجزم أن الكاذب منهما في ظَهْرِهِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللهِ، فإن كانت كاذبة فعليها حد الزنا، وإن كان كاذباً فعليه حد القذف، هذا لا محيص منه.
وهذا الحكم السماوي الذي أنزله خالق السماوات والأرض فيه هذا الحكم لهذه الأمة، صدّق الرجل، وصَدَّق المرأة، وذهبا مُصَدَّقَين، لم يثبت على أحدهما شيء. ونحن نعلم أن واحداً منهما خائن كاذب، ومحل الشاهد: أن الله لما فَصَّل هذا في آية اللعان أتبعه بقوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)﴾ [النور: الآية ١٠] أي: لولا فضله عليكم، ورحمته بكم، وتوبته عليكم، وحكمته في تخفيف التشريع عليكم. وحذف جواب (لولا)، أي: لَمَا قَبِلَ منكم هذا، أو: لَفَضَح الكاذب على رؤوس الأشهاد، فهذا تسهيل، وهذا مما يدل على أنَّا في الشرائع العملية، لسنا مُكَلَّفِين بمعرفة الباطن في نفس الأمر، فالباطن عند الله، فعلينا أن نعمل بما ظهر من الظنون الغالبة على الظن، وإن كنا لا نجزم بالواقع في نفس الأمر، فتبين أن قوله: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ [يونس: الآية ٣٦] فيما يُطلب فيه اليقين، كعبادة الله (جل وعلا) وحده، وتنزيهه عن الأولاد والشركاء، وأنه لا حرام إلا ما حَرّمَهُ، ولا حلال إلا ما أحَلَّه مما يجب فيه القطع والجزم اليقيني، أما المسائل العملية فما في باطن الأمر لا نجزم به، وكذا بأنّا نعمل بأخبار الآحاد بإجماع من يُعتد به من العلماء، ولو سُئلنا عنهم: أيجوز في حقهم الكذب؟ لقلنا: نعم؛ لأنهم غير معصومين!! وهذا معنى قوله: ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: الآية ١٤٨].
فَهُمْ كهذا المستنقعِ الذي أَمْسَكَ هذا الماءَ حتى انتفعَ به آخرونَ، فهم يحفظونَ ذلك العلمَ فيرويه عنهم فَطَاحِلُ علماء يقفونَ على أسرارِه ويفهمونَ معانيه ويستنبطونَ منه، فكذلك هذا الماءُ الذي أَمْسَكَتْهُ هذه الأجادبُ لم يُنبت هو فيه نفسه، ولكن الله نَفَعَ به الناسَ حيث شربوا منه وَسَقَوْا مواشيَهم وزروعَهم، كذلك هؤلاء يحفظونَ عن رسولِ اللَّهِ ﷺ ما أَنْزَلَ اللهُ عليه، ولم تكن أفهامُهم بالغةً أفهامَ فطاحلِ العلماءِ، إلا أن العلماءَ يَرْوُونَهُ عنهم روايةً صحيحةً ثابتةً عنه صلى الله عليه وسلم، فيتفهمونَ في معانيه، ويقفونَ على أسرارِه، ويستنبطونَ منه وَيُبَيِّنُونَهُ للناسِ.
هذه الطائفةُ الثانيةُ: «وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» (١)
فَتَرَى بعضَ الأئمةِ العظامِ يروي حديثًا صحيحًا وبعضُ رواتِه ليس من أهلِ العلمِ، وليسَ من أهلِ الاستنباطِ والخوضِ في معانِي الكتابِ
_________
(١) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة منهم:
١ - زيد بن ثابت. عند الترمذي في العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع. حديث رقم (٢٦٥٦)، (٥/ ٣٣)، وابن ماجه في المقدمة، باب من بلغ علمًا، حديث رقم (٢٣٠)، (١/ ٨٤)، وهو في صحيح الترمذي (٢١٣٩)، صحيح ابن ماجه (١٨٧)، السلسلة الصحيحة (٤٠٣).
٢ - ابن مسعود. عند الترمذي (في الموضع المتقدم من سننه) برقم (٢٦٥٧)، (٢٦٥٨)، (٥/ ٣٤)، وابن ماجه (في نفس الموضع المتقدم) برقم (٢٣٢)، (١/ ٨٥)، وهو في صحيح الترمذي برقم (٢١٤٠)، وصحيح ابن ماجه برقم (١٨٩)، المشكاة (٢٣٠).
٣ - جبير بن مطعم. عند ابن ماجه (الموضع المتقدم) برقم (٢٣١)، (١/ ٨٥)، وهو في صحيح ابن ماجه (١٨٨).
٤ - أنس بن مالك. عند ابن ماجه (الموضع السابق) برقم (٢٣٦)، (١/ ٨٦)، وهو في صحيح ابن ماجه برقم (١٩٣).
اعلموا أولاً أن الله أجرى العادة بأنه لا يخلو أحد كائنًا مَنْ كَان مِنْ عَدُو مُنَاوِئ له من بني آدم ومن الشياطين، لا بد للإنسان مِنْ عَدُوٍّ يُنَاوِئهُ من بني جنسه ومن الشياطين. وهذا أمر غالبًا، وخير الناس الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- والله يقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا﴾ [الأنعام: آية ١١٢] فلا يخلو إنسان من عدو من بني جنسه وعدو من الشياطين.
ليسَ يَخْلُو المَرْءُ مِنْ ضِدٍّ ولَوْ حَاوَلَ العُزلَةَ في رَأْسِ جَبَلْ (١)
وفي هذه الآية والآيتان الأخريان بيان ما يتلقى الإنسان به العدو من جنسه والعدو من الشياطين؛ ليكتفي شرهما ويكسر أصل هذه العداوة المضرة الشنيعة التي لا يسلم منها أحد (٢)، وذلك أن عدوك من بني جنسك أنك تقابل إساءته بالإحسان، ومنكره بالمعروف، وإساءته بالحلم والصفح، فإن ذلك الإحسان وذلك الحلم والصفح يقضي على إساءته ويذهبها حتى يُضطر إلى أن يصير في آخر الأمر من أصدق الأصدقاء.
وأما إذا كان العدو من الشياطين فإن الملاينة لا تفيد فيه، وأنت لا تراه ولا لك فيه حيلة إلا الاستغاثة بخالق السماوات والأرض والاستعاذة به منه. قال هنا فيمن يتسلط عليك من الإنس: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩)﴾ [الأعراف: آية ١٩٩] وقال في صاحبه الآخر من شياطين الجن: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ
_________
(١) هذا البيت من لامية ابن الوردي. وهي ضمن مجموع (كفاية الإنسان من القصائد الغر الحسان) ص ١٦٨.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام.
تُرْضِعُهُ أن ذلك يُضْعِفُ عظمَه ويتركُ فيه ضَعْفًا طَبِيعِيًّا!! كانوا إذا ضَرَبَ الرجلُ وَنَبَا سيفُه عن الضريبةِ قالوا: هذا من آثارِ الغيلةِ، وهي وطءُ الْمُرْضِعِ!! وكان شاعرُهم يقولُ (١):
فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعٍ فتَنْبُوا فِي أَكُفِّهُمُ السُّيُوفُ
فَأُخْبِرَ النبيُّ ﷺ عن فَارِسَ والرومِ أنهم يفعلونَ ذلك ولا يضرُّ أولادَهم (٢)، فَأَخَذَ هذه الخطةَ الطبيةَ من فارسَ والرومِ ولم يَمْنَعْهُ خبثُ مَنْ جاء بها عن أن يأخذَها. فهذا تعليمُ الصادقِ المصدوقِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه).
وَمِمَّا هو واضحٌ أن ما جاء به الكفَرَةُ الفَجَرَةُ الخنازيرُ الذين يُسَمُّونَ أنفسَهم (أهلَ الحضارةِ) أنهم جاؤوا بماءٍ زُلاَلٍ، وجاؤوا بِسُمٍّ فَتَّاكٍ قَتَّالٍ؛ لأن ما في الحضارةِ الغربيةِ من المنافعِ الدنيويةِ لا يحتاجُ أن يُنَوَّهَ عنه، فَهُمْ خَدَمُوا الإنسانَ - من حيث إنه جِسْمٌ - خدمةً هائلةً ما كانت تخطرُ على البالِ. ولاَ يُحْتَاجُ أن يُنوَّهَ عنها، ولكنهم بالنسبةِ إلى الروحِ وإلى عنصرِ الإنسانِ من حيثُ كونه رُوحًا مُفْلِسُونَ كُلَّ الإفلاسِ. فعلى المسلمينَ أن يُمَيِّزُوا بَيْنَ ما يَضُرُّ وما لا يَضُرُّ، فيأخذوا منهم الأمورَ الدنيويةَ فينتفعوا بخبرتِهم في الأمورِ كما انتفعَ ﷺ فِي الأمورِ الدنيويةِ من الكفارِ، أما أنهم يأخذونَ عنهم كُفْرَهُمْ وَتَمَرُّدَهُمْ على اللَّهِ وإفلاسَهم الروحيَّ النهائيَّ فهذا مِمَّا لا يجوزُ وَلاَ كان ينبغِي لعاقلٍ أن يفعلَه.
ونحنُ دائمًا نُبَيِّنُ الموقفَ السليمَ فِي الأوضاعِ الراهنةِ للإسلامِ والمسلمينَ، وَنَعْرِضُهُ على الدليلِ العظيمِ المعروفِ عندَ علماءِ
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.


الصفحة التالية
Icon