وذلك ليس من جنسِ الأنيسِ. وقول الفرزدقِ (١):
وَبِنْتُ كَرِيمٍ قَدْ نَكَحْنَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا خَاطِبٌ إِلاَّ السِّنَانَ وَعَامِلَهْ
فالسنانُ ليس من جنسِ الخاطبِ.
وَيَنْبَنِي في الأصولِ على الخلافِ في الاستثناءِ المنقطعِ: ما لو قال رجلٌ في إقرارِه: أُقِرُّ لزيدٍ أن له عَلَيَّ ألفَ دينارٍ إلا ثوبًا. فالذين قالوا بجوازِ الاستثناءِ المنقطعِ قالوا: تسقطُ قيمةُ الثوبِ من الألفِ. وعلى مذهبِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ - المانعُ للاستثناءِ المنقطعِ - لا يسقطُ من الألفِ شيءٌ؛ لأن الثوبَ ليس من جنسِ الدنانيرِ التي أَقَرَّ بها.
وعلى هذا فالمعنَى: ﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ لا أخافُ الأصنامَ التي تُشْرِكُونَهَا بِاللَّهِ (جل وعلا). فالتحقيقُ في الضميرِ في (به) أنه عائدٌ إلى اللَّهِ (٢). (تشركونها بالله) أي: به (جل وعلا). لا أخافُها لأنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ. ثم استثنَى وقال: ﴿إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾ لكن إن شَاءَ رَبِّي مَخُوفًا أن يوقعَني فيه فَلَهُ (جل وعلا) ما شَاءَ، فالاستثناءُ منقطعٌ، وليس المرادُ أنه اسْتَثْنَى مخافةً من الأصنامِ أبدًا؛ لأنها جمادٌ لا ينفعُ ولا يَضُرُّ، والاستثناءُ منقطعٌ، كما جَزَمَ به غيرُ واحدٍ من الْمُحَقِّقِينَ، وقد غَلِطَ من جعلَه متصلاً، كمن قال: إن اللَّهَ قادرٌ على أن يخلقَ في الأصنامِ عقولاً وبطشًا تضرُّه به، وقادرٌ على أن يُسْقِطَ عليه فلقةً من القمرِ الذي يعبدونَ فتضره!! هذا بعيدٌ من
_________
(١) البيت في المقاصد النحوية (٣/ ١١٠).
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ٢٩)، البحر المحيط (٤/ ١٦٩)، الدر المصون (٥/ ٢٠).
﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ [الأنعام: الآية ١٤٩] إن احْتَجَجْتُمْ بأمور باطلة وشُبَه كاذبة فلِلَّه الحجة البالغة على خَلْقِهِ، وليس لأحد حجة على الله. والبالغة معناه: هي التي يبلغ بها صاحِبُهَا غَرَضَه لإِفْحَامِ خَصْمِه، وإظهار الحق. والعلماء يقولون: هذه الحجة البالغة هي إرسال الرسل، وإقامة المعجزات، وبيان أنه (جل وعلا) واحد لا شريك له.
وظاهر القرآن يدل على أن هذه الحجة البالغة على مذهب الجبرية هي قوله جل وعلا: ﴿فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ فهذا داخل فيها دخولاً أوليّاً؛ لأن مُلْك التوفيق حجة بالغة على الخلق، وهذه الآية هي التي احتج بضمنها أبو إسحاق على عبد الجبار؛ لأنه كأنه قال له: مُلكه تعالى للتوفيق حجة بالغة على خلقه، فتمام الحجة البالغة أنك إذا قارنت بين سُنِّي- مثلاً- وجبري، فقال الجبري: إن كفره -والعياذ بالله- ومعاصيه كُتِبَ عليه في الأزل قبل أن يُولد، وإن الأقلام جفت، والصحف طُويت، وما كان فقد كان، ولم يبق شيء حادث إلا وقد سبق في الأزل، فيقول هذا الجبري الكافر: إن كفر البعيد قد كتبه الله عليه أزلاً، وإنه لو شاء أن يتخلص من ذلك المكتوب أزلاً لما كانت له القدرة؛ لأن علم الله الأزلي لا يَتَغَيَّر، فيقول البعيد: هو مقهور، وإذاً هو مجبور!! فله حجة في زَعْمِهِ على ربه، فكأن ربه يقول: جميع الأسباب التي اهتدى بها المهتدون أعطيتك إيَّاهَا، فالأعين التي أبصروا بها سمائي وأرضي وجبالي وبحاري وحدائقي وحيواناتي حتى عرفوا بها قدرتي، وأني رب كل شيء، وأني المعبود وحده، أعطيتك عيوناً مثلها، والآذان التي سمعوا بها مواعظي وآياتي وكتبي عن الرسل أعطيتك مثلها،
وَالسُّنَّةِ، فيحفظُ عنه ذلك الفحلُ من فحولِ الأئمةِ ذلك الحديثَ مثلاً فيستنبطُ منه الأحكامَ، وَيُبَيِّنُ فيه الأسرارَ المشتملةَ عليه.
الطائفةُ الثالثةُ: هي التي ضَرَبَ لها مثلاً بالأرضِ السبخةِ التي لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كلأً، وهذه مضروبةٌ لقلوبِ الكفارِ والمنافقين، كلما تَتَابَعَتْ عليهم المواعظُ وَسَمِعُوا آياتِ القرآنِ تُتْلَى وَأُسْمِعُوا مواعظَه وزواجرَه كان يَمُرُّ على قلوبِهم من غيرِ أن يستفيدوا شيئًا، كما أن تلك الأرضَ السبخةَ كُلَّمَا تَتَابَعَ عليها المطرُ لم تَزْدَدْ إلا خبثًا، لم تُمْسِكْ ماءً عذبًا يُشْرَبُ منه، ولم تُنْبِتْ للناسِ كلأً ولاَ عُشْبًا. فقلوبُ هؤلاءِ لم تَحْفَظْ عن النبيِّ ﷺ عِلْمًا يُرْوَى عنهم حتى ينتفعَ به غيرُهم، ولم ينتفعوا بأنفسِهم مما سَمِعُوا منه صلى الله عليه وسلم، فَهُمْ كالسباخِ التي لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلأً.
وهذا مَثَلٌ عظيمٌ ضَرَبَهُ اللهُ، وَجَرَتِ العادةُ أن الكتبَ السماويةَ تَكْثُرُ فيها ضروبُ الأمثالِ؛ لأن المثلَ يُصيِّر المعقولَ كالمحسوسِ؛ ولذا قال اللهُ: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: آية ٢١] وَبَيَّنَ أن الأمثالَ لاَ يفهمها عن اللهِ إلا أهلُ العلمِ حيث قال في العنكبوتِ: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ (٤٣)﴾ [العنكبوت: آية ٤٣] وَبَيَّنَ (جل وعلا) أنه لا يَسْتَحْيِي أن يضربَ مثلاً ما، كائنًا ما كان، وأن الأمثالَ التي يَضْرِب يهدي اللهُ بها قومًا أرادَ هداهم، وتكونُ سببًا لضلالِ آخَرِينَ أرادَ اللهُ إضلالَهم، فهي من فتنةِ اللهِ التي يُضِلُّ بها مَنْ يشاءُ ويهدي من يشاءُ، وذلك في قولِه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾ ثم قال:
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} لا دواء له إلا ذلك ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: آية ٢٠٠].
الموضع الثاني: في سورة (قد أفلح المؤمنون) قال تعالى في عدوك من بني جنسك: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ يعني: ادفع سيئات المسيئين بمقابلتها بالتي هي أحسن ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ ثم قال في العدو الثاني من شياطين الجن: ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (٩٨)﴾ [المؤمنون: الآيات ٩٦ - ٩٨].
الموضع الثالث: في (حم السجدة) زاد فيه تعالى أن هذا الدواء السماوي والعلاج القرآني الذي يَكْسِر عداوَةَ هَذَيْنِ العَدُوَّيْنِ لا يُعْطِيهِ الله لكلِّ أحد، وإنما يخص به مَنْ شَاءَ مِمَّنْ لَهُ عِنْدَهُ الحَظّ الأعْظَم، وزاد أن هذا دواء نافع وعلاج عظيم حيث قال في العدو من الإنس: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: آية ٣٤] في غاية الصداقة؛ لأن مقابلة إساءته بالإحسان تخجله وتقضي على عداوته حتى يُضطر إلى أن يرجع صديقًا.
وقال: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ﴾ [فصلت: آية ٣٥] هذه الخصلة وهذا التعليم القرآني لا يُعطاه كل الناس، لا يعطيه الله إلا لصاحب الحظ والبخت العظيم عنده من الصابرين؛ ولذا قال: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)﴾ ثم قال في رفيقه الآخر: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)﴾ [فصلت: الآيتان ٣٥، ٣٦] فهذا علاج قُرْآنِي ودوَاء سَمَاوِيّ نافع يحتاج إليه كل مسلم، ومحل هذا في غير الكفار المناصبين الناس بالعداوة، فالملاينة لهم لا تجوز؛ لأن الكفار يجب
الأصولِ بـ (السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ)، وعندَ علماءِ المنطقِ. بـ (الشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ)، وعندَ علماءِ الجدلِ بـ (الترديدِ والتقسيمِ) (١)، فنقولُ: إن موقفَ المسلمينَ مِمَّا أَحْدَثَتْهُ الحضارةُ الغربيةُ التي صارت سببَ ضلالٍ ودمارٍ مع ما أُدْخِلَ في الثقافاتِ من البلايا والويلاتِ، نقولُ: وهو بالتقسيمِ الصحيحِ منحصرٌ في أربعةِ أقسامٍ حَصْرًا اسْتِقْرَائِيًّا (٢)، وقد تَقَرَّرَ في علمِ البحثِ والمناظرةِ، وعلمِ الأصولِ أن للحصرِ طَرِيقَيْنِ: إما عَقْلٌ، وإما استقراءٌ، فهو محصورٌ في أربعةِ طرقٍ بطريقِ الاستقراءِ:
أَوَّلُهَا: أن نقولَ: يجبُ علينا أن نأخذَ جميعَ ما أَنْتَجَتْهُ الحضارةُ الغربيةُ من مائِها الزلالِ وَسُمِّهَا الفتَّاكِ القتَّالِ، فهذا قِسْمٌ وَاحِدٌ، أو نقولُ: نتركهما معًا، أو نأخذُ نافعَها ونتركُ ضارَّها، أو نأخذُ ضَارَّهَا ونتركُ نافعَها، فهي أربعةُ أقسامٍ بالحصرِ الاستقرائيِّ، فإذا رَجَعْنَا لهذه الأقسامِ الأربعةِ بِالسَّبْرِ الصحيحِ نَجِدُ ثلاثةً منها باطلةً، وواحدًا صحيحًا، وهذه فائدةُ السبرِ والتقسيمِ، التقسيمُ: يحصرُ الأوصافَ، والسبرُ: يُمَيِّزُ بَيْنَ خَبِيثِهَا وَطَيِّبِهَا وصالحِها وطالحِها. فلو قُلْنَا: نَأْخُذُ جميعَ ما أَنْتَجَتْهُ الحضارةُ الغربيةُ، فإن مَنْ أرادَ أن يأخذَ الماءَ الزلالَ مَمْزُوجًا بالسمِّ الفتاكِ القَتَّالِ لاَ ينتفعُ بالماءِ، وَمَنْ أَرَادَ تَقَدُّمًا مِنَ الأمورِ الدنيويةِ التي عندهم مع ما فيها من الانحلالِ، وضياعِ الأخلاقِ، والتمردِ على نظامِ السماءِ، والإلحادِ والكفرِ بخالقِ السماواتِ والأرضِ، فهذا لا ينفعُ معه شيءٌ، إذا الدينُ لم يَكُنْ فَلاَ كانت الدنيا. فهذا قِسْمٌ باطلٌ يَقِينًا، ولو قلنا: نتركهما جميعًا، فهذا القسمُ باطلٌ أيضًا؛ لأَنَّ تركَ الأخذِ بالقوةِ تَوَاكُلٌ وعجزٌ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٤٤) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١١٥) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon