كلامِ العربِ، والظاهرُ ما ذَكَرْنَا. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾ يُخَوِّفُنِي به فمشيئةُ اللَّهِ نافذةٌ كائنةٌ ما كَانَتْ.
﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ ﴿عِلْمًا﴾ تمييزٌ مُحَوَّلٌ عن الفاعلِ (١). والمعنَى: وَسِعَ علمُه كُلَّ شيءٍ، فهو عَالِمٌ بِكُلِّ شيءٍ، وعلمُه المحيطُ بِكُلِّ شيءٍ إذا أحاطَ بأنه يَجْعَلُنِي في مخافةٍ فذلك حقيقٌ، فلما نَفَى الخوفَ من الأصنامِ تداركَ وقال: لا يُمْكِنُنِي أن أنفيَ الخوفَ، بل أُنِيطُهُ بمشيئةِ اللَّهِ، إذا شاءَ أن يُخِيفَنِي أَخَافَنِي، وإلا فَلاَ. هذا معنَى الكلامِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾ أفلاَ تَتَّعِظُونَ وتعلمونَ أَنَّنِي لا ينبغي لي أن أخافَ من جماداتٍ لا تَنْفَعُ مع أنكم لا تَخَافُونَ من شديدِ البطشِ، ملكِ السماواتِ والأرضِ، حيثُ تكفرونَ به، وتصرفونَ حقوقَه لغيرِه؛ وَلِذَا أتبعَه بقولِه: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ﴾ [الأنعام: آية ٨١] في غايةِ الإنكارِ، كيفَ أخافُ هذه الجماداتِ التي أَشْرَكْتُمُوهَا بِاللَّهِ، لا تنفعُ ولا تضرُّ، وأنتم لا تخافونَ جبارَ السماواتِ والأرضِ، حيث تَكْفُرُونَ به، وَتُشْرِكُونَ به غيرَه؟
﴿وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ﴾ (ما) موصولةٌ، وهي في محلِّ المفعولِ لـ: ﴿أَشْرَكْتُمْ﴾ (٢) أي: أشركتُم بِاللَّهِ الشيءَ الذي لم يُنَزِّلْ به سلطانًا. أي: حُجَّةً.
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٧٠)، الدر المصون (٥/ ٢١).
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ٢١).
والقلوب التي عقلوا بها عن الله، وعرفوا مخالفة الخالق للمخلوق، وعرفوا بها عظمة جبار السماوات والأرض، وأنه جدير بأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى أعطيتك قلباً مثل قلوبهم، فكل ما أعطيت المهتدين من أسباب الهداية أعطيتك مثل ما أعطيتهم، إلا خصوصية التوفيق، فقد تفضلت به على قوم ولم أتفضل به على آخرين، فمن تفضلت به فهو فضل مني، ومن لم أتفضل به فهو عدل مني، كما قال أبو إسحاق: «إن كان الذي منعك حقّاً واجباً لك عليه فقد ظلمك، وإن كان مُلكه المحض فإن منعك فَعَدْل، وإن مَنَحَك ففضل» (١).
ولذا قال هنا: ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ على خلقه، وهي ما أنذرهم به من الإنذار، وما أرسل لهم من الرسل، وما أعطاهم من العقول والأسماع والأبصار ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)﴾ [النحل: الآية ٧٨] ﴿فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ [الأنعام: الآية ١٤٩] لأنه قطع عُذر عبده بأن أعطاه كل ما أعطى المهتدين: إلا خصوص التوفيق، فهذا الذي منعه، وبملكه للتوفيق قامت حجته البالغة؛ ولذا أَتْبَعَه بقوله: ﴿فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ فلو شاء لمَنَحَكُمْ التوفيق كُلاًّ، ولكنه تفضل به على بعض، ولم يتفضل به على الآخرين، فَمَنْ تَفَضَّل به عليهم فهو فضل، ومن منعهم إياه فهو عَدْلٌ لا ظُلْمَ فيه؛ ولذا قال: ﴿فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ومفعول المشيئة محذوف، وقد ذكرنا مِرَاراً أن فعل المشيئة إن كان معلقاً بشرط فإنه يكفي عن مفعوله جزاء الشرط (٢). والأصل: فلو شاء
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٩) من هذه السورة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٠٦) من هذه السورة.
﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: آية ٢٦] هذه أمثالُ القرآنِ يهدي اللَّهُ بها من يريد هُدَاهُ، وما يضلُّ بها إلا الفاسقينَ. ولما سمعَ الكفارُ أن اللهَ يضربُ المثلَ بالكلبِ في قولِه: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ [الأعراف: آية ١٧٦] ويضرب المثلَ بالحمارِ في قولِه: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة: آية ٥] ويضربُ المثلَ بالذبابِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾ [الحج: آية ٧٣] وسمعوه يضربُ المثلَ بهذه الأشياءِ قالوا: اللهُ أعظمُ وأكبرُ وَأَنْزَهُ من أن يذكرَ الحمارَ والكلبَ والذبابَ والعنكبوتَ! فهذا الكلامُ الذي فيه هذه الحقيراتُ ليس من كلامِ اللهِ؛ لأن اللهَ أعظمُ من هذا.
فَبَيَّنَ اللهُ أنه يضربُ الأمثالَ وَيُبَيِّنُ العلومَ العظيمةَ الجليلةَ في ضَرْبِ الأمثالِ في أمورٍ حقيرةٍ؛ وَلِذَا قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ فترى الذبابَ من أحقرِ الأشياءِ ولكن المثلَ المضروبَ فيه من أعظمِ العلومِ؛ يُبَيِّنُ للناسِ أن المعبوداتِ من دونِ اللهِ بالغةٌ من التفاهةِ وعدمِ الفائدةِ ما يجعلُها لاَ تقدرُ على خلقِ ذُبَابٍ، وَلَوْ تَسَلَّطَ الذبابُ عليها فانتزعَ منها شيئًا ما قَدَرَتْ على أن تنتصفَ منه. وهذا من التحقيرِ والتصغيرِ للمعبودِ من دونِ اللهِ يقتضي عِلْمًا عظيمًا له قَدْرُهُ ومكانتُه، وهو إفرادُ اللهِ بالعبادةِ، وإدراكُ أن ما سواه لا يُغْنِي شيئًا. وكذلك ضربُه المثلَ في العنكبوتِ لأنه يُبَيِّنُ أن بيتَ العنكبوتِ الذي تنسجه من خيوطِ رِيقِهَا لا يُغْنِي شيئًا عن أحدٍ، فكذلك المعبوداتُ من دونِ اللهِ. فالشيءُ في نفسِه حقيرٌ، والعلمُ المبينُ في ضربِ المثلِ فيه علمٌ عظيمٌ كريمٌ له مكانتُه وَقَدْرُهُ؛ ولذا قال تعالى:
عليهم الغلظة والقوة والعزة، ولا يُلاينون، ولا تُقابل سيئاتهم بالحسنات، كما وصف الله بذلك نبينا ﷺ وأصحابه: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: آية ٢٩] ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: آية ٧٣] مع أنه يقول: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: آية ٨٨] ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥)﴾ [الشعراء: آية ٢١٥] ويقول في غيرهم: ﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: آية ٧٣] وقد مدح الله قومًا بلين جانبهم لإخوانهم المسلمين وقوتهم على الكفرة ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: آية ٥٤] وقد قال الشاعر في نبينا صلى الله عليه وسلم:
وما حَمَلَتْ من نَاقَةٍ فَوقَ رَحْلِهَا | أَشَدَّ على أَعدائِهِ من محمدِ (١) |
_________
(١) هذا البيت وما ذكره الشيخ بعده لمالك بن نمط. وقوله: «أبر وأوفى ذمة من محمد» ليس في أبياته التي أوردها ابن هشام في السيرة (٤/ ١٤٥٥)، وإنما هو باللفظ الأول الذي ذكره الشيخ (أشد على أعدائه من محمد). والبيت المذكور (أبر وأوفى ذمة من محمد) ذكره الصالحي في (سبيل الهدى والرشاد) (١/ ٤١٩) منسوبًا لأُسيد بن أبي إياس الدؤلي. ونقل عن أبي علي الحاتمي قوله: «اتفق أهل الأدب على أن أصدق بيت قالته العرب هو قول أبي إياس الدؤلي... » وذكره. كما أورده الحافظ ابن حجر في الإصابة (١/ ١٣٢) في ترجمة أنس بن أُسيد بن أبي إياس بن زنيم الكناني. وقال الحافظ بعد أن أورده: «هذا البيت من قصيدة أنس بن زنيم» اهـ. وأورده في ترجمته (١/ ٦٩)، وانظر ما قاله الحافظ (رحمه الله) في ترجمة أسيد بن أبي إياس بن زنيم الكناني الدؤلي (١/ ٤٧).
وتمردٌ على نظامِ السماءِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: آية ٦٠].
فَتَرْكُ القوةِ والاستعدادِ للعدوِّ مخالفٌ للشرعِ الكريمِ، ومخالفٌ لِلْفِطَرِ السليمةِ، فالحياةُ بتطوراتِها الراهنةِ لاَ يجوزُ للمسلمينَ أن يتركوا استعمالَ القوةِ وجميعَ أنواعِ الوسائلِ لتكونَ عندهم قوةٌ يدافعونَ بها عن أنفسِهم ودينِهم، فهذا القسمُ باطلٌ أيضًا.
القِسْمُ الثالثُ: وهو أن يُؤْخَذَ سُمُّهَا فقط، ويتركَ زُلاَلُهَا، فَمَنْ وَجَدَ ماءً زُلالاً وَسُمًّا فَاتِكًا قَتَّالاً، واختار السمَّ على الماءِ فهذا مجنونٌ أَهْوَجُ!!
أما أن نأخذَ نافعَها ونتركَ ضَارَّهَا، فهذا هو اللائقُ بكلِّ عاقلٍ أن يأخذَ ما ينفعُه ويتركُ ما يضرُّه.
والمؤسفُ كُلُّ المؤسفِ أن الذين تَأَثَّرُوا بهذه الحضارةِ من الناسِ الذين أصلُهم مسلمونَ لم يأخذوا من هذه الحضارةِ إلا سُمَّهَا الْفَتَّاكَ الْقَتَّالَ، ولم ينتفعوا بمائِها الزلالِ، فتراهم يقلدونَهم في الإلحادِ والكفرِ بِاللَّهِ وَالْمَسْخَرَةِ من الدينِ، والاستهزاءِ بآياتِ اللَّهِ، في الوقتِ الذي لم يَأْخُذُوا عنهم شيئًا مما أَنْتَجُوهُ من الأمورِ النافعةِ في الدنيا.
مَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا | وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالإِفْلاَسَ بِالرَّجُلِ (١) |
_________
(١) تقدم هذا البيت عند تفسير الآية (١٥٥) من سورة الأنعام.