على قَوْمِهِ (١)، حيث قَالَ: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنعام: آية ٨٣].
ومعلومٌ أن النظرَ العقليَّ أنه محصورٌ في أربعةِ أنواعٍ؛ لأَنَّ المُسْتَدَلَّ به: إمَّا وجودٌ، وإمَّا عدمٌ. والمُسْتَدَلَّ عليه: إما وجودٌ، وإما عدمٌ. فَتَضْرِبُ حَالَتَيِ الدليلِ في حَالَتَيِ المدلولِ، اثنين باثنين: بأربعةٍ. بَسْطُهَا وتَصْطِيْحُهَا: استنتاجُ وجودٍ من وجودٍ، واستنتاجُ عدمٍ من عدمٍ، استنتاجُ عدمٍ من وجودٍ، واستنتاجُ وجودٍ من عدمٍ. هذا معروفٌ.
مثالُ استنتاجِ الوجودِ من الوجودِ: هو استنتاجُ وجودِ خالقِ هذا الكونِ من وجودِ هذا الكونِ على هذه الأساليبِ الغريبةِ العجيبةِ، الدالةِ على أن له خَالِقًا مدبرًا هو الربُّ المعبودُ وحدَه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الألْبَابِ﴾ [آل عمران: أية ١٩٠] فَبَيَّنَ أَنَّ وجودَ هذا الكونِ دليلٌ على وجودِ صانعِه، فهو وجودٌ يَلْزَمُ منه عقلاً وجودُ خالقٍ مُدَبِّرٍ، هو الربُّ المعبودُ.
ومثالُ استنتاجِ العدمِ من العدمِ: قولُه تعالى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: آية ٢٢] فَهُنَا: عدمُ فسادِ السماواتِ والأرضِ يستلزمُ عدمَ تعددِ الآلهةِ. فهو عدمٌ يُنْتِجُ عَدَمًا، كما في قولِه: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ فعدمُ الفسادِ المشاهَدُ يلزمُه عدمُ تعددِ الآلهةِ.
وكذلك رُبَّمَا يُسْتَنْتَجُ عدمٌ من وجودٍ - كما في هذه الآيةِ - فإن
_________
(١) انظر: آداب البحث والمناظرة (٢/ ٨٣).
الرعد؛ لأن الله (جل وعلا) لما بَيَّنَ في سورة الرعد -في أولها- عظمته، وبراهين كماله وقدرته، وأنه المعبود وحده، وأبطل فيها أدلة الطبائعيين إبطالاً كليّاً لا شبهة فيه، حيث قال في السورة- في أولها: ﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٍ وَنَخِيلٍ﴾ -وفي القراءة الأخرى-: ﴿وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ﴾ (١) ﴿صِنْوَانٍ وَغَيْرِ صِنْوَانٍ﴾ - وفي الأخرى: ﴿صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ﴾ (٢) ﴿تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ﴾ - وفي الأخرى -: ﴿يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ﴾ (٣)
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أتبع هذا بقوله: ﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ -في البعث-: ﴿أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ هذا تعجُّب منكري البعث من البعث الذي هو خلق جديد، ثم قال مُخْبِراً عن هؤلاء الذين شَكّوا في البعث وأنكروه: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ﴾ [الرعد: الآيات ١ - ٥]، والعياذ بالله، فهؤلاء جمعوا بين التكذيب بالقرآن والتكذيب بالبعث. ثم قال جل وعلا: ﴿وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩٩) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٥١.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٩٩) من سورة الأنعام..
الْعَالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٦٢)}.
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩)﴾ [الأعراف: آية ٥٩] قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا الكسائيَّ: ﴿مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهِ﴾ وَقَرَأَ الكسائيُّ من السبعةِ: ﴿ما لكم من إلهٍ غَيْرهِ﴾ (١).
وقرأ نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو: ﴿إنيَ أخاف عليكم﴾ بفتحِ ياءِ المتكلمِ. وقرأَ الباقونَ:... ﴿إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ بإسكانِ الياءِ (٢). والجميعُ لغةٌ.
أما قراءةُ الكسائيِّ: ﴿ما لكم من إله غَيْرِه﴾ فـ (غَيْرِه) نعتٌ للإلهِ وهو مجرورٌ بـ (من). وأما على قراءةِ الجمهورِ: ﴿مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ فالنعتُ راجعٌ للمحلِّ؛ لأَنَّ الأصلَ: (ما لكم إله غيره) فَجُرَّ المبتدأُ بـ (من) لتوكيدِ النفيِ، فهو مخفوضٌ لفظًا مرفوعٌ مَحَلاًّ، والتابعُ للمخفوضِ لفظًا المرفوعُ محلاًّ يجوزُ رفعُه نظرًا إلى المحلِّ، وخفضُه نَظَرًا إلى اللفظِ كما هو معروفٌ في علمِ العربيةِ (٣).
واللامُ في قولِه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ هي جوابُ قسمٍ محذوفٍ: واللهِ لقد أرسلنا. وهذه اللامُ الموطئةُ للقسمِ إذا جاءت مع الفعلِ الماضِي لا تكادُ العربُ تُجَرِّدُهَا من (قد)، تأتِي معها بـ (قد) التحقيقيةِ دائمًا، حتى زَعَمَ بعضُ العلماءِ أن (قد) واجبةٌ معها إن كانت بعدَ اللامِ
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٠.
(٢) المصدر السابق ص٢١٩، الإتحاف (٢/ ٥٣).
(٣) انظر: حجة القراءات ص٢٨٦، الإتحاف (٢/ ٥٢).
﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ﴾ [الأعراف: آية ٢٠٠] (إما) هذه أصلها (إن) الشرطية زيدت بعدها (ما) المزيدة لتوكيد الشرط (١) والكثير في كلام العرب: أن (إن) الشرطية إذا أُكِّدت شرطيتها بـ (ما) المزيدة بعدها كان الفعل المضارع لا بد أن تكون فيه نون التوكيد المُثَقَّلة، حتى قال بعض العلماء: كل مضارع قبله (إما) لا بد أن يتصل بنون التوكيد الثَّقيلة (٢). والتحقيق أن هذا وإن كان هو لغة القرآن لم يوجد في القرآن فعل مضارع قبله (إما) إلا وهو مقترن بنون التوكيد المُثَقَّلة ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ﴾ [الأعراف: آية ٢٠٠] ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ﴾ [الزخرف: آية ٤١] ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا﴾ [مريم: آية ٢٦] إلى غير ذلك؛ إلا أن التحقيق أن إتيان نون التوكيد بعده هو اللغة الفصيحة ولو لم تأت بعده لكان جائزًا، وسُمع في أشعار العرب بكثرة عدم توكيد الفعل بعد (إما)، ومنه قول الأعشى (٣):

فَإِمَّا تَريْني ولي لِمَّةٌ فإنَّ الحَوَادثَ أَودَى بها
قال: «تريني» ولم يأت بنون التوكيد. ومنه قول الحماسي (٤):
زَعَمتْ تُمَاضِرُ أَنَّني إِمَّا أَمُت يَسْدُدْ أُبَيْنُوهَا الأَصَاغِرُ خُلَّتي
ومنه قول الشنفرى (٥):
فإما تريني كابنةِ الرَّمْلِ ضَاحِيًا على رِقَّةٍ أَحْفَى ولا أتَنَعَّل
_________
(١) انظر: الدر المصون (١/ ٢٩٨).
(٢) انظر: المصدر السابق (١/ ٢٩٩).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٣٥) من هذه السورة.
(٤) السابق.
(٥) السابق.
اتَّبَعْتُمُوهُمْ في ذلك النظامِ الذي وَضَعَهُ الشيطانُ لأَتْبَاعِهِ وَأَقَامَ دليلاً من وَحْيِهِ عليه ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ بِاللَّهِ، متخذونَ مَنِ اتَّبَعْتُمْ تشريعَه رَبًّا غيرَ اللَّهِ. وهذا الشركُ في قولِه: ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ هو الشركُ الأكبرُ المخرجُ عن مِلَّةِ الإسلامِ بإجماعِ المسلمينَ، وهو الذي أَشَارَ اللَّهُ إليه في قولِه: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)﴾ [النحل: آية ١٠٠] وهو الذي صَرَّحَ به الشيطانُ في خطبتِه يومَ القيامةِ المذكورةِ في قولِه: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ إلى قولِه: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾ [إبراهيم: آية ٢٢] وهو المرادُ على أَصَحِّ التفسيرين في قولِه: ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ﴾ [سبأ: آية ٤١] يعبدونَ الشياطينَ باتباعِهم أنظمتَهم وتشريعاتِهم على ألسنةِ الكفارِ، وهو الذي نَهَى عنه إبراهيمُ أَبَاهُ: ﴿يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ [مريم: آية ٤٤] أي: بِاتِّبَاعِ ما يقررُ لَكَ من نظامِ الكفرِ والمعاصِي مُخَالِفًا لشرعِ اللَّهِ الذي أَنْزَلَهُ على رُسُلِهِ، وهذه العبادةُ بعينِها هي التي وَبَّخَ اللَّهُ مُرْتَكِبَهَا وَبَيَّنَ مصيرَه الأخيرَ في سورةِ "يس" في قولِه: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (٦٠)﴾ [يس: آية ٦٠] ما عَبَدُوهُ بسجودٍ ولاَ ركوعٍ وإنما عَبَدُوهُ باتباعِ نظامٍ وتشريعٍ وقانونٍ شَرَعَ لهم أمورًا غيرَ ما شَرَعَهُ اللَّهُ فاتبعوه وتركوا ما شَرَعَ اللَّهُ فعبدوه بذلك واتخذوه رَبًّا كما بَيَّنَهُ النبيُّ ﷺ لعديِّ بنِ حاتمٍ (رضي الله عنه)، فهذا أمرٌ لاَ شَكَّ فيه، وهو المرادُ بقولِه: ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا﴾ [النساء: آية ١١٧] يعني: ما يعبدونَ إلا شيطانًا مَرِيدًا،
أي: عبادةَ اتباعِ نظامٍ وتشريعٍ. وَاعْلَمْ أن قومًا زَعَمُوا أنهم يريدونَ أن يتحاكموا إلى شرعِ الشيطانِ والذي وَضَعَهُ، وَادَّعُوا مع ذلك أنهم


الصفحة التالية
Icon