أُفُولَ الكوكبِ صفةٌ وجوديةٌ عَايَنُوهَا بالحسِّ فيه، اسْتَنْتَجَ منها عدمَ الربوبيةِ، حيث قال: ﴿لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ [الأنعام: آية ٧٦].
وأما استنتاجُ الوجودِ من العدمِ: فهو معروفٌ باستنتاجِ عدمِ النقيضِ من وجودِ نقيضِه، أو مُسَاوِي نقيضِه، كما هو معروفٌ.
والشاهدُ أن نَبِيَّ اللَّهِ إبراهيمَ نَاظَرَ قومَه مناظرةً عقليةً، بَيَّنَ لهم فيها أن هذه المعبوداتِ التي يَزْعُمُونَهَا أَرْبَابًا هي آفِلَةٌ، وهذه المقدمةُ - التي كَوْنُ تلك المعبوداتِ آفلةً - مُقَدِّمَةٌ قطعيةٌ؛ لأنها تُدْرَكُ بالحواسِّ، فهم يشاهدونَ أُفُولَهَا بأعينِهم، فهي مقدمةٌ لا يمكنُ إنكارُها. ثم رَتَّبَ لهذه المقدمةِ المحسوسةِ مقدمةً عقليةً ضَمَّهَا معها، أشارَ لها بقوله: ﴿لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ هي أن الأُفولَ صفةُ نقصٍ لاَ شَكَّ فيها، تَدُلُّ على حدوثٍ وتسخيرٍ، وهذه تُنَافِي صفاتِ الربوبيةِ، فالآفلُ لا يمكنُ أن يكونَ رَبًّا. ثم قال لهم مثلَ هذا في الشمسِ والقمرِ، حتى أَلْقَمَهُمُ الْحَجَرَ (١). ثم بعدَ ذلك بَيَّنَ لهم معتقدَه، وأظهرَ حقيقتَه، وقال: ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)﴾ [الأنعام: الآيتان ٧٨ - ٧٩] وكان اللَّهُ (جل وعلا) أَعْطَى إبراهيمَ حُسْنَ الْحُجَجِ والمناظرةِ، واللطفَ فيها. من ذلك أنه لَمَّا نَاظَرَ نَمْرُود، وهو الذي بُعِثَ إبراهيمُ في زمنِ ولايتِه، وكان مَلِكًا جَبَّارًا طَاغِيًا، نمرودُ بنُ كنعانَ بنِ سِنْجَارِي بنِ كُوشَ بنِ سامِ بنِ
_________
(١) في هذا الموضوع انظر: آداب البحث والمناظرة (٢/ ٧٨، ٨٢ - ٨٣).
العرب تقول: عدل به، يَعْدِل به: إذا جعل الشيء عديلاً ونظيراً له يُمَاثِلُهُ ويُعَادِلُهُ، وهم يعدلون بالله؛ أي: يجعلون له العَدِيلَ والنَّظِيرَ والمثيل؛ حيث قالوا: ﴿هَذَا لِلهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا﴾ [الأنعام: الآية ١٣٦] فجعلوا له النظراء والعديلين بِسَبَبِ عبادتهم له مثله، وجَعْلهم له مثل ما جعلوا. والعرب تقول: أعَدَلْتَ بفلان فلاناً: إذا جَعَلْتَه عِدلاً ونظيراً له، وهو مشهور في كلام العرب، ومنه قول جرير (١):
أَثَعْلَبَةَ الفَوَارِسَ أَمْ رِيَاحاً | عَدَلْتَ بِهِمْ طُهيَّةَ والخِشَابَا |
{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
_________
(١) البيت في ديوانه ص ٥٨، الكتاب لسيبويه (١/ ١٠٢) (٣/ ١٨٣).
الموطئةِ للقسمِ قبلَ فعلٍ مَاضٍ. والتحقيقُ أنه لغةٌ فصحى كثيرةٌ ربما نَطَقَتِ العربُ بغيرِها فجاءت باللامِ والماضي دونَ (قد)، وهو مسموعٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ امرئِ القيس (١):
حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حَلفْةَ فَاجِرٍ | لَنَامُوا فَمَا إِنْ مِنْ حَدِيثٍ وَلاَ صَالِي |
واللهِ ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ ﴿نُوحًا﴾ هو نبيُّ اللهِ نوحٌ عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ. والمؤرخونَ يقولونَ: إنه ابن لمك بن متوشَلَخ بن خنوخ، ويزعمونَ أن خنوخَ هو إدريسُ، وأن نوحًا من ذريةِ إدريسَ. هكذا ذَكَرَهُ غيرُ واحدٍ من المفسرين (٢). وأن إدريسَ قَبْلَ نوحٍ، وجاء في بعضِ رواياتِ حديثِ الإسراءِ ما يدلُّ على أن نوحًا ليس من ذريةِ إدريسَ، لأنه إذا سَلَّمَ على أجدادِه كإبراهيمَ ونوحٍ وَمَنْ جرى مجرَاهم يقولونَ: مَرْحبًا بالنبيِّ الصالحِ والابنِ الكريمِ. وإدريسُ لم يَقُلْ مرحبًا بالنبيِّ الصالحِ والابنِ، وإنما قال: والأخِ. كما جاءَ في بعضِ رواياتِ حديثِ المعراجِ (٣) كما هو معروفٌ، وأكثرُ المؤرخين على هذا.
ونوحٌ هو أولُ نَبِيٍّ بعثَه اللهُ في الأرضِ بعدَ أن صارَ الكفرُ في الأرضِ، وَعُبِدَتْ فيها الأصنامُ، وَعُبِدَ فيها غيرُ اللهِ. فأولُ رسولٍ أُرْسِلَ بمنعِ عبادةِ الأصنامِ وتوحيدِ اللهِ بعبادتِه هو نبيُّ اللهِ نوحٌ عليه وعلى نبيِّنا الصلاةُ والسلامُ، وقد ثَبَتَ في أحاديثِ الشفاعةِ التي تكادُ
_________
(١) البيت في ديوانه ص١٢٥، و «الصالي»: المستدفئ بالنار.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٨٤) من سورة الأنعام.
(٣) مضى عند تفسير الآية (١٦١) من سورة الأنعام.
وقول لبيد بن رييعة (١):
فَإِمَّا تريني اليومَ أصبحتُ سَالمًا | فلَسْتُ بِأَحْيَا من كلابٍ وجعفرِ |
سَيَذْكُرني قَومي إذا جَدَّ جِدُّهُم | وفي الليلةِ الظَّلماء يُفْتَقَدُ البدرُ |
_________
(١) السابق.
(٢) البيت في ديوانه ص١٦١.
(٣) انظر: القرطبي (٧/ ٣٤٧).
مؤمنونَ فعَجَّبَ اللَّهُ نَبِيَّهُ من دَعْوَاهُمُ الكاذبةِ الفاجرةِ التي لا يمكنُ أن تُصَدَّقَ في سورةِ النساءِ في قولِه (جلَّ وعلا): ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ [النساء: آية٦٠].
وَكُلُّ مَنْ تَحَاكَمَ إلى غيرِ ما أنزل اللَّهُ فهو متحاكمٌ إلى الطاغوتِ، وهؤلاء قومٌ أَرَادُوا التحاكمَ إلى الطاغوتِ وزعموا أنهم مؤمنونَ بالله فَعَجَّبَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنْ كَذِبِ هؤلاءِ وعدمِ حيائِهم في قولِه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ﴾ يُعَجِّبه منهم ﴿يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ﴾ الذي شَرَعَ لهم تلك النظمَ والأوضاعَ التي يسيرونَ عليها ﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا﴾ وَأَقْسَمَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) إقسامًا سماويًّا من رَبِّ العالمينَ على أنه لا إيمانَ لِمَنْ لم يُحَكِّمْ رسولَ اللَّهِ فيما جاء به عن اللَّهِ خالصًا من قلبِه في باطنِه وَسِرِّهِ في قولِه: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾ [النساء: آية ٦٥] وَبَيَّنَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه أن الْحُكْمَ له وحدَه لاَ شريكَ له في حُكْمِهِ، وكلما ذَكَرَ اختصاصَه بالحكمِ أَوْضَحَ العلاماتِ التي يُعَرِّفُ بها بَيْنَ مَنْ يستحقُّ أن يحكمَ ويأمرَ وَيَنْهَى وَيُشَرِّعَ ويحللَ ويحرمَ، وَبَيْنَ مَنْ ليس له شيءٌ من ذلك، قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [يوسف: آية ٤٠] ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ﴾ [القصص: آية ٧٠] وَسَنُبَيِّنُ لكم أمثلةً من ذلك، من ذلك قولُه في سورةِ الشورى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: آية ١٠] ثم إِنَّ اللَّهَ كأنه قال: هذا الذي يكونُ المرجعُ إليه،