نوحٍ (١)،
الفاجرُ المعروفُ، لَمَّا قال له: مَنْ رَبُّكَ الذي تَدْعُونَا إليه؟ ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: آية ٢٥٨] وكان نمرودُ جاهلاً، فَأَخَذَ رَجُلَيْنِ، أحدُهما كان محكومًا عليه بالقتلِ فأطلقَه، وأخذ آخَرَ بريئًا فَقَتَلَهُ، فقال: هذا كان حَيًّا فأنا أَمَتُّهُ، وهذا كان سيموتُ الآنَ فأنا أَحْيَيْتُهُ (٢)!! فَلِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ من الحجةِ وحسنِ المناظرةِ لم يَقُلْ له: هذه ليست الحياةَ التي أُرِيدُ، ولا الموتَ الذي أُرِيدُ. بل تَرَكَ له هذا كُلَّهُ، ولم يُجِبْهُ بشيءٍ منه، وقال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ فَزَعَمُوا في قصتِه أنه أَوَّلاً أرادَ أن يكذبَ وأن يقولَ: أنا هو الذي آتِي بها من المشرقِ، فَقُلْ لِرَبِّكَ يأتِي بها من المغربِ!! فَنَظَرَ فإذا في المجلسِ رجالٌ كبارُ السِّنِّ، يعلمونَ الشمسَ تطلعُ من المشرقِ، يُطْلِعُهَا اللَّهُ قبلَ أن يولدَ نمرود، فَخَافَ أن يُكَذِّبُوهُ فيفتضحُ في المجلسِ، فَبُهِتَ الذي كَفَرَ. هذه المناظراتُ التي يُفْحَمُ بها الخصومُ، كما في آيةِ الأنعامِ هذه، هي التي نَوَّهَ اللَّهُ بشأنِها، وأضافَها إلى نفسِه، وقال: إنه آتَاهَا إبراهيمَ، مُعَظِّمًا نفسَه: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا﴾ تلك الحجةُ التي أَفْحَمَ بها الخصومَ
_________
(١) في تاريخ ابن جرير (١/ ١٤٧): «نمروذ بن كنعان بن حام بن نوح». وفي التفسير (٥/ ٤٣٠): «نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح. وقيل: إنه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح». وانظر: البداية والنهاية (١/ ١٤٨).
تنبيه: هناك شيء من الاختلاف بين هذه المصادر في بعض هذه الأسماء، بل هذا الاختلاف موجود في المصدر الواحد في المواضع المتعددة، فـ (فالخ) في بعض المصادر: (فالح)، وفي بعضها: (فالغ). وهكذا (شالخ) فهو في بعضها: (صالح)، وفي بعضها: (شالح).
(٢) انظر: ابن جرير (٥/ ٤٣٣، ٤٣٦ - ٤٣٧).
بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)} [الأنعام: الآيات ١٥١ - ١٥٣].
يقول الله جل وعلا: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: آية ١٥١] كان بعض السلف يقولون: من سرّه أن ينظر إلى وصيّة محمد - ﷺ - عليها خاتمها لم يُفك فليقرأ هذه الآيات الثلاث من سورة الأنعام: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (١) وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن هذه الآيات الثلاث من سورة الأنعام هي المحكمات المذكورات في آل عمران ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (٢)
[آل عمران: آية ٧] لم ينسخ الله حكماً من أحكامها في شريعة من الشرائع قط، بل أحكامها مثبتة في جميع التشاريع السماوية منذ خلق الله الدنيا، فهي محكمات؛ ولذا قال ابن عباس: إنها المذكورة في قوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ كما قدمنا في آل عمران.
_________
(١) أخرجه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة الأنعام، رقم: (٣٠٧٠)، (٥/ ٢٦٤)، والطبراني في الكبير (١٠/ ١١٤)، والأوسط (٢/ ٤٣)، والبيهقي في الشعب (١٤/ ٦٣ - ٦٤)، وابن أبي حاتم في التفسير (٥/ ١٤١٤)، وابن جرير في التفسير (١٢/ ٢٢٧ - ٢٢٨)، وذكره السيوطي في الدر (٣/ ٥٤) وعزاه للترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب من قول ابن مسعود (رضي الله عنه). وقد أخرج ابن جرير (١٢/ ٢٢٧)، نحوه عن الربيع بن خثيم. وذكره السيوطي في الدر (٣/ ٥٤) وعزاه لعبد بن حُميد، وأبي عبيد، وابن المنذر.
(٢) أخرجه ابن جرير (١٢/ ٢٢٦)، والحاكم في المستدرك (٢/ ٢٨٨) وصححه، ووافقه الذهبي. وأخرجه أيضاً بإسناد آخر (٢/ ٣١٧) وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» اهـ. ووافقه الذهبي، كما أخرجه ابن أبي حاتم (٥/ ١٤١٤)..
أن تكونَ متواترةً أن آدمَ يقولُ لهم: اذهبوا إلى نوحٍ فإنه أولُ نبيٍّ بعثَه اللهُ في الأرضِ (١). وَذَكَرَ المؤرخونَ وأصحابُ الأخبارِ أن بَيْنَ نوحٍ وآدمَ عشرةُ قرونٍ كُلُّهَا كانت على دينِ الإسلامِ، وكان في قومِ نوحٍ رجالٌ صالحونَ من أفاضلِ الناسِ في العبادةِ والزهدِ وطاعةِ اللهِ، وهم: وَدّ، ويغوث، ونَسْر، ويعوق (٢)، فلما ماتوا صَوَّرَ قومُهم صورَهم وَبَنَوْا عليهم مساجدَ، وصاروا إذا نظروا إلى صُوَرِ أولئك الصالحين بَكَوْا بكاءً شديدًا ونشطوا في العبادةِ لِمَا يعلمونَ من صلاحِ أولئك القومِ وما كانوا عليه من العبادةِ، فَتَطَاوَلَ بهم الزمانُ حتى مات أهلُ العلمِ وَبَقِيَ الجهالُ فجاءهم الشيطانُ فقال لهم: إنما كانوا يعبدونَ هؤلاء وَيُسْقَوْنَ بها. فعبدوهم، وذلك أولُ كفرٍ وقعَ في الأرضِ.
وَعُلِمَ بذلك أن أولَ كفرٍ وقع في الأرضِ إنما جاءَ عن طريقِ التصويرِ، فكثيرٌ من الناسِ الذين لا يفهمونَ يقولونَ: هؤلاء الْمُنْتَسِبُونَ للعلمِ يُشَدِّدُونَ النكيرَ في التصاويرِ وَيُحَرِّمُونَ التصويرَ، والتصويرُ ليس فيه جنايةٌ على مالٍ، ولا على نَفْسٍ، ولا على عِرْضٍ، فَأَيُّ ذنبٍ عظيمٍ في التصويرِ، وَأَيُّ بأسٍ فيه؟ ويظنونَ لجهلهم أن أمرَه خفيفٌ.
والتصويرُ له أثرُه البالغُ في إفسادِ الدنيا وإفسادِ الدينِ أَوَّلاً وَآخِرًا، أما أولاً: فالتصويرُ هو سببُ أولِ كفرٍ وَقَعَ في الأرضِ تحتَ السماءِ، أولُه تصويرُ صورِ أُولئك القومِ الصالحين الذين صَوَّرُوهُمْ بقصدٍ حَسَنٍ، وكانوا إذا رأوا صورَهم بَكَوْا وأنابوا إلى اللهِ، وجَدُّوا
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنعام.
(٢) لم يذكر سواعًا.
والتمنع والتوقي، عكس اللياذ؛ لأن اللياذ بالإنسان لاذ به يلوذ: إذا كان يريد أن يجلب له مصالحه. واستعاذ به يستعيذ ليمنعه ويقيه مما يخاف، كما قال (١):

يَا مَنْ أَعُوذُ به فيما أُحَاذِرُه ومن أَلُوذُ به فيما أُحاوله
﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ أي: اطلب أن يعيذك، أي: يمنعك ويقيك من هذا الشيطان الرجيم ﴿إِنَّهُ﴾ جل وعلا ﴿سَمِيعٌ﴾ لدعائك، سميع لما يوسوس لك من الشيطان ﴿عَلِيمٌ﴾ بوسوسة الشيطان لك، وبالتجائك إليه، وبكل ما يقوله ويفعله خلقه، فهو الذي بيده إنجاؤك منه، وهذا معنى قوله: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: آية ٢٠٠].
[٢٧/ب] / [﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (٢٠١)﴾ [الأعراف: الآية ٢٠١] قوله: ﴿طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ﴾ قرأه ابن كثير وأبو عمرو: ﴿طَيْفٌ من الشَّيْطَانِ﴾. وقرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة: ﴿طَيْفٌ﴾. فعلى القراءة الأولى ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ﴾ أي: لَمَّةٌ وخَطْرَة، فإذا وقع لهم شيء من ذلك أعرضوا عنه] (٢) إلى ما يرضي الله ويسخط الشيطان. وعلى قراءة الآخرين:
_________
(١) البيت للمتنبي، وهو في ديوانه (شرح البرقوقي) (٢/ ٢٢٥)، وقد وقع فيه هنا تقديم وتأخير، ولفظه في الديوان:
يا من ألوذ به فيما أُؤمله ومن أعوذ به مما أُحاذره
(٢) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وتم استدراك النقص بالرجوع إلى كتب القراءات والتوجيه. وقد جعلت ذلك بين معقوفين. انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٨، حجة القراءات ص٣٠٥، القرطبي (٧/ ٣٤٩)، الدر المصون (٥/ ٥٤٥ - ٥٤٧).
والقولُ قولُه، والكلمةُ كلمتُه، حتى يُرَدَّ إليه كُلُّ شَيْءٍ، اخْتُلِفَ فيه ما صفاتُه التي يَتَمَيَّزُ بها عن غيرِه؟ قال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾
ثم بَيَّنَ صفاتِ مَنْ يستحقُّ الحكمَ والتشريعَ والتحليلَ والتحريمَ والأمرَ والنهيَ فقال: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (١١) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)﴾ [الشورى: الآيات ١٠ - ١٢] هذه صفاتُ مَنْ له أن يحكمَ ويحللَ ويحرمَ ويأمرَ وينهى، أَفَتَرَوْنَ أيها الإخوانُ أن واحدًا من هؤلاءِ القردةِ الخنازيرِ الكلابِ أبناءِ الكلابِ الذين يضعونَ القوانينَ الوضعيةَ فيهم واحدٌ يستحقُّ هذه الصفاتِ التي هي صفاتُ مَنْ له أن يحكمَ ويحللَ ويحرمَ ويأمرَ وينهى؟!! ومن الآياتِ الدالةِ على هذا النوعِ قولُه تعالى في سورةِ القصصِ: ﴿وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)﴾.
ثم بَيَّنَ صفاتِ مَنْ له أن يحكمَ فقال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)﴾ [القصص: الآيات ٧٠ - ٧٣] هل في الكفَرَةِ القردةِ الخنازيرِ الكلابِ أبناءِ الكلابِ الذين يضعونَ النظمَ ويزعمونَ أنهم يرتبونَ بها علاقاتِ الإنسانِ ويضبطونَ بها شؤونَه هل في هؤلاء من يستحقُّ أن يوصفَ بهذه الصفاتِ التي هي صفاتُ مَنْ له أن يحكمَ ويأمرَ وينهى ويحللَ


الصفحة التالية
Icon