حُجَّتُنَا، أضافَها اللَّهُ لنفسِه تشريفًا وَإِعْظَامًا.
﴿آتَيْنَاهَا﴾ أي: أَعْطَيْنَاهَا ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، فَهَّمْنَاهُ إِيَّاهَا، وَأَلْهَمْنَاهُ إِيَّاهَا ﴿عَلَى قَوْمِهِ﴾، هذه الحجةُ يَحْتَجُّ بها على قومِه الكفرةِ الذين يجادلونَه، كما قال: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ﴾ [الأنعام: آية ٨٠] حتى يُفْحِمَهُمُ ويلقمَهم الحجرَ.
ثم قال: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ﴾ [الأنعام: آية ٨٣] هذه الآيةُ تَدُلُّ على أنَّ مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْحُجَجَ، ومناظراتِ الخصومِ التي يُثْبِتُ بها التوحيدَ، ويدفعُ بها شُبَهَ المُبْطِلِينَ، أن هذا رَفْعٌ من اللَّهِ في درجاتِه، حيث أَتْبَعَ قولَه: ﴿حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ﴾ أَتْبَعَهُ بقولِه: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ﴾ أي: كما رَفَعْنَا درجةَ إبراهيمَ بِمَا آتَيْنَاهُ من تلك الحجةِ التي صَدَعَ بها بالحقِّ، وَقَهَرَ بها الخصومَ.
أما على قراءةِ الجمهورِ: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَن نَّشَاءُ﴾ بالإضافةِ، فالدرجاتُ: مفعولٌ به لـ ﴿نَرفَعُ﴾ و ﴿مَّن نَّشَاءُ﴾ مضافٌ إليه ما قَبْلَهُ. وَمَنْ رُفِعَتْ درجاتُه فَقَدْ رُفِعَ (١)، كقولِه: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾ وفي الحديثِ: «اللَّهُمَّ ارْفَعْ دَرَجَتَهُ» (٢) والدرجةُ: المرتبةُ والمنزلةُ، فَإِنَّ مَنْ رُفِعَتْ درجتُه ومنزلتُه فقد رُفِعَ، وعلى هذا فمعناهُ: نَرْفَع رُتَبَ وَمَنَازِلَ مَنْ نشاءُ أن نرفعَ رتبتَه ومنزلتَه.
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٣٠)، البحر المحيط (٤/ ١٧٢)، الدر المصون (٥/ ٢٦).
(٢) قطعة من حديث أم سلمة عند مسلم (في وفاة أبي سلمة رضي الله عنه). كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حُضر. حديث (٩٢٠) (٢/ ٦٣٤).
وهذه الآيات تضمنت أصول الشرائع من عقائد ومعاملات واجتماعيات، كما سيأتي إيضاحه في محله.
قل لهم يا نبيّ الله، الظاهر أنه خطاب لجميع الخلق، وإن كان الكلام السابق مع المشركين، قل لجميع البشر الذين أُرسلت إليهم: ﴿تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ (تعال) التحقيق أن (تعال، وهات) فعلا أمر، وغلط فيهما جماعة من علماء العربية [فزعموا] (١) أنهما اسما فعل (٢)، والدليل على أن (هات) و (تعال) فعلا أمر: أنهما تلحقهما ياء المؤنثة المخاطبة، وياء المؤنثة المخاطبة من علامات الأفعال، ولا تلحق أسماء الأفعال، فالعرب تقول للأنثى: «تعَالَيْ يا فلانة» بياء المؤنثة المخاطبة، ومنه قول نابغة ذبيان (٣):
فَقُلْتُ:

تَعَالَيْ نَجْعَلِ اللهَ بَيْنَنَا عَلَى مَا لَنَا، أَوْ تُنْجِزِي ليَ آخِرَهْ
وكذلك (هات) فالعرب تقول للذكر: (هاتِ) بلا ياء، وللأنثى: (هاتي) بياء المؤنثة المخاطبة، فدلَّ أيضاً على أن (هات) كـ: (تعال) فعل أمر لا اسم فعل، خلافاً لمن زعم ذلك، ومن دخول ياء المؤنثة المخاطبة على (هات) قول امرئ القيس (٤):
إِذَا قُلْتُ هَاتِي نَوِّليني تَمَايَلَتْ عَلَيَّ هَضِيم الْكَشْحِ ريَّا المُخَلْخَلِ
وهذه الكلمة أصلها خاص، ثم صار استعمالها عامّاً؛ لأن أصل (تعال) يقولها الذي هو مرتفع إلى من هو أسفل منه، فيقول له:
_________
(١) في الأصل: «فزعما».
(٢) انظر: التوضيح والتكميل (١/ ٢٠).
(٣) ديوان النابغة ص (١٢١) وصدره: «فقال».
(٤) ديوان امرئ القيس ص (١١٥).
في العبادةِ بما كانوا يعلمونَ من صلاحِ أولئك القومِ الذين صَوَّرُوا صُوَرَهُمْ، ثم تطاولَ بهم الزمانُ إلى أن كَانَتْ تلك الصورُ أوثانًا تُعْبَدُ من دونِ اللهِ؛ ولذا عَارَضُوا نبيَّ اللهِ نوحًا في عبادتهم أشدَّ المعارضةِ: ﴿وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ [نوح: الآيتان ٢٣، ٢٤] فَعُلِمَ أن التصويرَ كان أولَ جنايةٍ شركيةٍ وَقَعَتْ في الدنيا. وهذا الأثرُ السيئُ التاريخيُّ يدلُّ على عِظَمِ شَرِّهِ قَبَّحَهُ اللهُ.
وكذلك في الآخِرِ كان من أعظمِ الأسبابِ التي ضَيَّعَتْ أخلاقَ المسلمين وَذَهَبَتْ بعقولهم ومكارمهم؛ لأن الذين يريدونَ ضياعَ الإسلامِ يَسْعَوْنَ كُلَّ السعيِ في أن يُصوروا النساءَ عارياتِ الفروجِ، ويطبعونَ صُوَرَهَا في الصحفِ والمجلاتِ، ويرسلونَها لأقطارِ الدنيا. فإذا رأى الشابُّ الغِرُّ المسكينُ صورةَ فرجِ الخبيثةِ بَادِيًا تَحَرَّكَتْ غريزتُه، وقامت شهوتُه، وَسَافَرَ إلى البلادِ التي تُمْكِنُهُ فيها الحريةَ وإشباعَ رغبتِه الغريزيةِ التي لم يُقَيِّدْهَا تقوى، ولم يَزُمَّهَا إيمانٌ ولا ورعٌ ولا مروءةٌ. فصارَ التصويرُ في الأحوالِ الراهنةِ له أيضًا أثرُه البالغُ في ضياعِ الأخلاقِ، وانتشارِ الرذيلةِ، والقضاءِ على مكارمِ الأخلاقِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - ويكفيه أن الله (جل وعلا) له الأسماءُ الحسنى، والصفاتُ العلى، ومن أسمائِه العظيمةِ التي تَحْتَهَا غرائبُ وعجائبُ تُفَتِّتُ الأكبادَ: اسمُه (المصورُ) جل وعلا، فهو جل وعلا من أسمائِه الأزليةِ التي سَمَّى بها نفسَه (المصور) واسمُه (المصور) تحتَه من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِ قدرتِه ما يُبْهِرُ العقولَ لِمَنْ كان له عقلٌ أو أَلْقَى السمعَ وهو شهيدٌ، ومما يوضحُ عظمةَ هذا الاسمِ وما يشيرُ إليه من كمالِ قدرةِ اللَّهِ وَعِظَمِ عِلْمِهِ وإحاطتِه بكلِّ شيءٍ أن ينظرَ
﴿طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ﴾ [الأعراف: آية ٢٠١] فالطائف: اسم فاعل طاف يطوف فهو طائف. ﴿طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ﴾ الشيء الذي يطوف بهم من قِبَل الشيطان من وساوسه وإغضابه لهم. ومعنى القراءتين متلازم، إلا أن الأول يقول: ﴿طيف من الشيطان﴾ أي: لَمَّة منه. والثاني يقول: ﴿طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ﴾ كما قال: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩)﴾ [القلم: آية ١٩] ومعنى القراءتين راجع إلى شيء واحد.
وقوله: ﴿تَذَكَّرُواْ﴾ أي: تذكروا عقاب الله وثوابه ففاجأهم الإبصار. والإبصار هنا معناه: الإبصار بالقلب الذي يحمل الإنسان على الرجوع إلى ما يرضي الله ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: آية ٤٦].
وقد قدمنا أن (إذا) الفجائية فيها ثلاثة أقوال (١):
أحدها: أنها حرف.
والثاني: أنها ظرف زمان.
الثالث: أنها ظرف مكان. كما هو معروف في محله.
وهذا معنى قوله: ﴿فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ وهذا معنى قوله: ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: آية ٢٠١].
﴿وَإِخْوَانُهُمْ﴾ الآخرين، إخوانهم في النسب لا في الدين، الذين
_________
(١) انظر: الدر المصون (١/ ١٣٣)، (٤/ ٤٠)، مغني اللبيب (١/ ٧٩)، معجم الإعراب والإملاء ص٥٠.
ويحرمَ؟! ومن ذلك قولُه تعالى في أخرياتِ القصصِ: ﴿وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ (١) [إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾] [القصص: آية ٨٨].
[٦/أ] / والآياتُ القرآنيةُ في مثلِ هذا كثيرةٌ جِدًّا. والحاصلُ أن التشريعَ لا يكونُ إلا للأعلى الذي لا يمكنُ أن يكونَ فوقَه آمِرٌ ولاَ نَاهٍ ولا مُتَصَرِّفٌ، فهو للسلطةِ العليا، أما المخلوقُ الجاهلُ الكافرُ المسكينُ فليس له أن يُحللَ ويحرِّمَ، والعجبُ كُلُّ العجبِ مِنْ قومٍ كان عندهم كتابُ اللَّهِ وَرِثُوا الإسلامَ عن آبائِهم، وعندَهم هذا القرآنُ العظيمُ، والنورُ المبينُ، وَسُنَّةُ خيرِ الخلقِ صلى الله عليه وسلم، يُبَيِّنُ اللَّهُ ورسولُه كُلَّ شيءٍ، ومع ذلك يعرضونَ عن هذا زاعمينَ أنه لا يَحْسُنُ القيامُ بشؤونِ الدنيا بعدَ تطوراتِها الراهنةِ، يطلبونَ الصوابَ في زبالاتِ أذهانِ كفرةٍ خنازيرَ، لاَ يعلمونَ شيئًا!! هذا مِنْ طمسِ البصائرِ - والعياذُ بالله - لا يُصَدِّقُ به إلا مَنْ رآه، ولكن الخفافيشَ يعميها نورُ القرآنِ العظيمِ، فالقرآنُ العظيمُ نورٌ عظيمٌ، والخفاشُ لا يكادُ أن يرى النورَ:
خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ فَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ (٢)
هذا القرآنُ العظيمُ ينصرفونَ عنه، وترى الواحدَ الذي هو مسؤولٌ عنهم يُعْلِنُ في غيرِ حياءٍ من اللَّهِ ولا حياءٍ من الناسِ بوجهٍ لا ماءَ فيه، بكلِّ وقاحةٍ أنه يُحَكِّمُ في نفسِه وفي الناسِ الذين هم رعيتُه الذين هو مسؤولٌ عنهم يحكمُ في أديانِهم، وفي أنفسِهم، وفي عقولِهم، وفي أنسابِهم، وفي أموالِهم، وفي أعراضِهم، قانونًا أَرْضِيًّا
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وقد أكملت الآية وجعلت ذلك بين معقوفين.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon