أما على قراءةِ الكوفيين - عاصمٍ وحمزةَ والكسائيِّ - (١): ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ﴾ فـ ﴿مَّن﴾ الموصولةُ هي مفعولٌ ﴿نَرْفَعُ﴾ أي: نرفعُ مَنْ نَشَاءُ رَفْعَهُ، نرفعُه درجاتٍ.
وفي إعرابِ ﴿دَرَجَاتٍ﴾ على هذه القراءةِ أَوْجُهٌ معروفةٌ للعلماءِ (٢):
أحدُها: أنها ما نَابَ عن المطلقِ؛ لأن معنَى نرفعُ مَنْ نَشَاءُ درجاتٍ أي: رفعاتٍ عاليةً، فالدرجةُ في معنَى الرفعِ، فَهِيَ في معنَى المفعولِ المطلقِ لاَ بِلَفْظِهِ.
وقومٌ قالوا: هي منصوبةٌ بنزعِ الخافضِ. أي: نرفعُه في درجاتٍ. إلى غيرِ ذلك من الأعاريبِ.
ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ، (نرفعُ درجاتِ مَنْ نَشَاءُ رَفْعَ دَرَجَاتِهِ). أو: (نرفعُ درجاتٍ مَنْ نشاءُ رَفْعَهُ). فعلى الإضافةِ: فالتقديرُ: (نَرْفَعُ درجاتِ مَنْ نَشَاءُ رَفْعَ درجاتِه). وعلى التنوينِ: فالتقديرُ: (نرفعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ رَفْعَهُ). هذا مَعْنَاهُ.
﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ جل وعلا ﴿حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ الحكيمُ في الاصطلاحِ: هو من يضعُ الأمورَ في مواضعِها، وَيُوقِعُهَا في مواقعِها. فَاللَّهُ (جل وعلا) حكيمٌ لا يضعُ أمرًا إلا في موضعِه، ولا يُوقِعُهُ إلا في موقعِه، ولا يأمرُ إلا بما فيه الخيرُ، ولا يَنْهَى إلا عَمَّا فيه الشرُّ، ولا يعذبُ إلا مَنْ يَسْتَحِقُّ، وهو (جل وعلا) ذو الحكمةِ البالغةِ، له الحجةُ والحكمةُ البالغةُ. وأصلُ (الحكيمِ): هو المتصفُ بالحكمةِ.
_________
(١) مضت هذه القراءات عند تفسير الآية (٨٣) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٧٢)، الدر المصون (٥/ ٢٦).
تعال؛ أي: ارتفع حتى تحضر عندي، هذا أصلها، إلا أن العرب توسعت فيها فصارت تطلق (تعال) على: احضر عندي. ولو كان الآمر أسفل والمأمور أعلى، فيقول الرجل في الأرض لمن على السطح: تعال عندي، وهو في الحقيقة: تَسَافَلْ إليّ، إلا أن العرب صارت تطلق (تعال) بمعنى: احضر، من غير نظر إلى أصل العلو والسفل (١). فمعنى ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ﴾ احضروا عندي، وادنوا مني، واقربوا مني ﴿أَتْلُ﴾ عليكم ﴿مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾.
﴿أَتْلُ﴾ معناه: أقْرَأُ وأَقُصّ، والمضارع مجزوم في جواب الأمر، وعلماء العربية يقولون: إن المضارع المجزوم في جواب الأمر أنه في الحقيقة مجزوم بشرط مقدر دَلَّ عليه الأمر، وتقديره: إن تَتَعالوا (٢)، أي: إن تحضروا عندي أتل عليكم ما حَرَّم ربكم. و (أتل) معناه: أقرأ وأقص. وأصل (التلاوة) من (تلاه يتلوه) إذا تَبِعَهُ؛ لأن (التلاوة) مصدر سيال لا تحصل إلا من حرف يتلوه حرف، يتلوه حرف، يتلوه حرف، وهكذا. فأصلها من: (تلاه يتلوه) إذا تَبِعَهُ، والعرب تسمي التابع: تالياً، والمتبوع: متلوّاً. والتِّبَاعَةَ تلاوة، ومنه سموا الجمل: تالياً؛ لأنه يتبع النوق فيشمها ليعرف منها المستعدة للقاح واللاقح كما هو معروف (٣). ومنه قول غيلان ذي الرمة (٤):

إِذَا الجَافِرُ التَّالِي تَنَاسَيْنَ عَهْدَهُ وَعَارَضْنَ أَنْفَاسَ الرِّيَاحِ الجَنَائِبِ
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ١٣١)، المصباح المنير (مادة: علو) ص (١٦٢).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٦٩) من سورة البقرة.
(٣) انظر: المفردات (مادة: تلا) (١٦٧)، القاموس (١٦٣٤).
(٤) البيت في ديوانه ص (٩٦). وفيه: «وصله» بدلاً من: «عهده».
الواحدُ منكم إلى الحجيجِ يومَ جمرةِ العقبةِ فيجدُ الناسَ بهذه الكثرةِ العظيمةِ مع اختلافِ ألوانِهم وأشكالِهم وبلادِهم وهيئاتِهم، ويجد الجميعَ مَصْبُوبِينَ صَبَّةً واحدةً، الأنفُ موضوعٌ في مَحلِّهِ، والعينانِ في محلهما، والأُذُنَانِ في محلِّهما، والفمُ في محلِّه، وكلُّ عضوٍ موضوعٌ في موضعِه من الجميعِ.
واللهُ يصورُ كلَّ واحدٍ منهم صورةً مستقلةً يطبعه عليها بعلمِه وقدرتِه لا يشاركُه فيها أحدٌ ألبتةَ، فلا يَشْتَبِهُ منهم اثنانِ، وكلُّ صورةٍ طُبِعَ عليها واحدٌ منهم فهي كانت في عِلْمِهِ الأزليِّ قبلَ أن يقعَ ذلك الإنسانُ، فلما وقعَ وقعَ مُصَوَّرًا بالصورةِ التي كانت مهيأةً له في العلمِ السابقِ، ولو جاءَ ملايينُ أضعافَ الحصى من البشرِ لم يَضِقْ علمُ اللَّهِ عن أن يخترعَ لكلِّ واحدٍ منهم صورةً تَخُصُّهُ لاَ يشاركُه فيه غيرُه، حتى إن أصواتَهم لم تتشابه، وآثارَهم في الأرضِ لا يختلطُ بعضُها ببعضٍ، وبصماتُ أصابعِهم في الأوراقِ لاَ يُشَابِهُ بعضُها بعضًا عندَ مَنْ يعرفُ ذلك، فاللهُ سَمَّى نفسَه (المصورَ) لِمَا تحتَه من هذه الأسرارِ العظامِ والعجائبِ والغرائبِ التي تُبْهِرُ العقولَ، فيأتي هذا الإنسانُ الضعيفُ المسكينُ لِيُنْزِلَ نفسَه منزلةَ العظيمِ الجبارِ المصورِ ويفعلُ كفعلِه؛ ولذا جاء عن النبيِّ ﷺ فِي تشديدِ عذابِ الْمُصَوِّرِينَ في الأحاديثِ الصحيحةِ أنهم أشدُّ الناسِ عذابًا، وأن ما صَوَّرُوهُ في الدنيا يُؤْمَرُونَ بأن يُحْيُوهُ وَيُعَذَّبُونَ عليه عذابًا شديدًا.
والحاصلُ أن التصويرَ هو سببُ أولِ شركٍ وَقَعَ في الدنيا، وله أثرُه الفعَّال الآنَ في فسادِ الأخلاقِ، وضياعِ شبابِ المجتمعِ كما هو معروفٌ؛ لأَنَّ مِنْ أعظمِ أسبابِ الفسادِ وتغييرِ فِطَرِ شبابِ المسلمين أن يَرَوْا في أوراقِ الصحائفِ والمجلاتِ فروجَ النساءِ - صورها - عارياتٍ، فإذا رأى صورةَ المرأةِ على هيئتِها متجردةً من كُلِّ شيءٍ،
لا يبصرون ﴿يَمُدُّونَهُمْ﴾ يمدهم الشياطين. فالإخوان الأولون من الإنس. وقوله: ﴿يَمُدُّونَهُمْ﴾ يعني: تمدهم الشياطين. ﴿وَإِخْوَانُهُمْ﴾ الآخرين من عتاة الإنس ﴿يَمُدُّونَهُمْ﴾ أي: تمدهم الشياطين. هذا الذي ذكره غير واحد، أن المراد بالإخوان: العتاة من الآدميين، والذين يمدونهم: هم إخوانهم من الشياطين.
وقال بعض العلماء: إن الإخوان الأولين: الشياطين يمدون إخوانهم من عتاة الإنس. وعلى كل الأحوال فالمعنى: أن المتمردين من بني آدم، العصاة والكفرة لهم إخوان من الشياطين يمدونهم في الغي. ﴿يَمُدُّونَهُمْ﴾ معناه يكونون لهم مددًا في الغي، ويزيدونهم فيه، فيزيدونهم طغيانًا إلى طغيانهم، وكفرًا إلى كفرهم بما يزينون لهم من الكفر والمعاصي ويعينونهم عليه.
﴿ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف: آية ٢٠٢]، أي: لا يقصر الشياطين الذين يمدون عتاة الإنس لا يقصرون في ذلك أبدًا؛ لأن الشيطان لا يحصل منه تقصير البتة في فعل السوء، فهو طبيعته مُتَمَادٍ فيه أبدًا. والعرب تقول: أقْصَرَ عَنِ الأمْرِ يُقْصِرُ: إذا كَفَّ ونَزَع عنه وقلَّلَ منه، وهو معروف في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس (١):
سَمَا بك شوقٌ بَعْدَ ما كَانَ أَقْصَرَا وَحَلَّتْ سُليمَى بَطْنَ قَوٍّ فعَرْعَرَا
ومعنى الآية بالإجمال: أن المؤمنين المتقين إذا أصابتهم لَمَّة من الشيطان ونزغ منه فوسوس لهم ليحملهم على المعاصي، أو
_________
(١) ديوان امرئ القيس ص٥٩، و (قَوّ)، اسم واد في جزيرة العرب. و (عرعر) اسم موضع آخر.
وضعَه خنازيرُ كفرةٌ جهلةٌ أنتنُ من الكلابِ والخنازيرِ، وأجهلُ خلقِ اللَّهِ، مُعْرِضًا عن نورِ السماءِ الذي وَضَعَهُ اللَّهُ (جلَّ وعلا) على لسانِ خَلْقِهِ، فهذا مِنْ طَمْسِ البصائرِ لاَ يُصَدِّقُ به إلا مَنْ رَآهُ - والعياذُ بالله - اللَّهُمَّ لا تَطْمِسْ بصائرَنا ولا تُزِغْ قُلُوبَنَا بعدَ إِذْ هَدَيْتَنَا.
وَاعْلَمُوا - أيها الإخوانُ - أن كُلَّ مَنْ يَتَعَالَمُ أمامَ الخالقِ (جلَّ وعلا) بلا حياءٍ في وَجْهِهِ أنه يُعْرِضُ عمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ على محمدٍ ﷺ مُدَّعِيًا أنه لا يَقْدِرُ أن يقومَ بتنظيمِ علاقاتِ الدنيا يطلبُ النورَ وَالْهُدَى في زبالاتِ أذهانِ خنازيرَ كفرةٍ فجرةٍ جهلةٍ في غايةِ الجهلِ أنه هو وفرعونُ وهامانُ وقارونُ في الكفرِ سواءٌ، لأنه لا يُعْرِضُ عن اللَّهِ، وعن تشريعِ اللَّهِ، ويفضِّل عليه تشريعَ الشيطانِ، ونظامَ إبليسَ الذي شَرَعَهُ على ألسنةِ أوليائِه إلا مَنْ لاَ نصيبَ له في الإيمانِ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، كما رأيتُم الآياتِ الكثيرةَ الدالةَ على ذلك، وَتَعْجِيبُ اللَّهِ نَبِيَّهُ مِنَ ادِّعَاءِ مِثْلِهِ الإيمانَ. فعلى المسلمينَ جميعًا أن يعلموا ويعتقدوا- ونحن نقولُ: لاَ شَكَّ يجبُ على كُلِّ مسلمٍ كَائِنًا مَنْ كان أن يعلمَ- أنه لاَ حلالَ إلا ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، ولا حرامَ إلا ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، ولا دينَ إلا ما شَرَّعَهُ اللَّهُ، فَمَنْ سِوَى اللَّهِ لاَ تحليلَ له ولا تحريمَ؛ لأنه عَبْدٌ مسكينٌ ضعيفٌ مربوبٌ، عليه أن يعملَ بما يَأْمُرُ بِهِ رَبُّهُ، فيتبعُ ما يُشَرِّعُهُ رَبُّهُ. وهذا معنَى قولِه: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ﴾ الأحبارُ: جَمْعُ حَبْرٍ بفتحِ الحاءِ وكسرِها. والتحقيقُ أنهما لغتانِ. والأحبارُ: العلماءُ. والرهبانُ: المتعبدونَ المنقطعونَ في الصوامعِ، وهو جمعُ راهبٍ، وشذَّ قومٌ فقالوا: إن الواحدَ منهم يقال له (رهبان) واستدلوا


الصفحة التالية
Icon