وَأَصْلُ (الحكمةِ): (فِعْلة) من الْحُكْمِ. وأصلُ مادةِ (الحُكْمِ) في لغةِ العربِ (١): أصلُها معناها (المَنْعُ). تقولُ العربُ: «حَكَمَهُ وأَحْكَمَهُ» إذا مَنَعَهُ.

أَبَنِي حَنَيْفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا (٢)
لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ
فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدِّمَاءُ (٣)
هذا أصلُ (الحكمِ): المنعُ، وَمِنْهُ: (حَكَمَةُ الدَّابَّةِ). لأنها تمنعُها من الجريِ على غيرِ مرادِ صاحبِها. والحِكْمةُ: (فِعْلة) من (الحُكم) بمعنَى: المنعِ. وأظهرُ تفسيراتِها: أنها العلمُ النافعُ؛ لأن العلمَ النافعَ هو الذي يَحْكُمُ الأقوالَ والأفعالَ. أي: يمنعُها أن يعتريَها الخللُ. فَمَنْ كان عندَه العلمُ الكاملُ كان لا يضعُ الأمرَ إلا في موضعِه، ولا يوقعُه إلا في موقعِه؛ لأن كُلَّ إخلالٍ في الإحكامِ إنما هو من الجهلِ بعاقبةِ الأمورِ، فَتَرَى الرجلَ الحاذقَ القُلَّبَ البصيرَ يفعلُ الأمرَ يظنُّ أنه في غايةِ الإحكامِ، ثم ينكشفُ الغيبُ عن أن فيه هلاكَه، فيندمُ حيث لا ينفعُ الندمُ، ويقولُ: ليتني لَمْ أَفْعَلْ، ولو فَعَلْتُ لكانَ كَذَا!! كما قال الشاعرُ (٤):
أُلاَمُ عَلَى لَوٍّ وَلَوْ كُنْتُ عَالِمًا بِأَذْنَابِ لَوٍّ لَمْ تَفُتْنِي أَوَائِلُهْ
_________
(١) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الحاء، باب الحاء والكاف وما يثلثهما ص٢٧٧.
(٢) البيت لجرير، وهو في المقاييس في اللغة ص٢٧٧، الدر المصون (١/ ٢٦٧).
(٣) البيتان لحسان بن ثابت (رضي الله عنه) وهما في ديوانه، ص٢٠.
(٤) البيت في الكتاب لسيبويه (٣/ ٢٦٢)، ما ينصرف وما لا ينصرف للزجاج، ص٦٦، فتح الباري (١٣/ ٢٢٦).
أصل (التلاوة) مصدر سيال؛ لأنها من مقاطع حروف يتلو بعضها بعضاً.
والمصادر قسمان: مصدر سيال، ومصدر غير سيال. فالمصدر الذي ليس بسيال هو الذي يحصل بأدنى مرة؛ كالضرب، فإنك لو ضربت شيئاً بشيء مرة واحدة حَصَلَتْ ماهية الضرب، فالضرب مصدر غير سيال، بخلاف التلاوة والكلام، فلو نطقت بحرف واحد لم تحصل التلاوة؛ لأنها مصدر سيال لا بد مِنْ بَعْض يتبع بعضاً حتى يتم معنى المصدر.
قوله: ﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ (ما) هنا: موصولة، وهي على التحقيق في محَلّ المفعول مفعول (أتل)، معناه: أقرأ وأقص عليكم الذي حَرَّمَهُ ربكم عليكم، وقيل: إنها استفهامية مُعَلَّقة للفعل، وهو ضعيف؛ لأن المعروف في علم العربية أن الاستفهام إنما يعلق أفعال القلوب، والتلاوة ليست من أفعال القلوب، فالتحقيق أن (ما) موصولة، وأنها في محل المفعول؛ أي: تعالوا أقرأ وأقص عليكم الذي حَرَّمَ رَبّكم عليكم (١).
والتحريم في لغة العرب معناه: المنع، وهو يطلق في الشرع وفي اللغة؛ يطلق في الشرع على ما حرمه الله؛ أي: منعه على لسان نبيه، وتوعد مرتكبه بالعقاب (٢)، ويطلق في اللغة على مَنْعِ الشيء، فكل شيء منعته بالقوة
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ١٣١)، البحر المحيط (٤/ ٢٤٩)، الدر المصون (٥/ ٢١٣).
(٢) انظر: الكليات ص (٤٠٠).
باديةَ الفرجِ، فلا شكَّ أن الشبابَّ الذي ليس عقلُه مَزْمُومًا بإيمانٍ كاملٍ، وورعٍ ومروءةٍ تَامَّةٍ أن ذلك يُحَرِّكُ غريزتَه ويهيجُ طبيعتَه، فتراهم كثيرًا يسافرونَ باسمِ العلاجِ، وباسمِ كذا وكذا من الأعذارِ الكاذبةِ، وإنما مقصدُهم في الحقيقةِ هو أن يُشْبِعُوا رغباتِهم الغريزيةَ مما عَايَنُوا مُنْتَشِرًا من الفسادِ في قعرِ بلادِهم نعوذُ بالله من ذلك، وهذا معنَى قوله: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ [الأعراف: آية ٥٩].
ذَكَرَ بعضُ العلماءِ أن قومَ نوحٍ كانوا خَلْقًا كثيرًا مُنْتَشِرِينَ في أقطارِ الدنيا. وبعضُهم يقولُ: إنهم كانوا في بعضِ الأرضِ دونَ بعضِها. ولم يَقُمْ دليلٌ صحيحٌ على عددِهم وكثرتِهم، وهل كانوا يشغلونَ جميعَ نواحِي المعمورةِ أو بعضًا منها؟ ولم يَأْتِ مَنْ هُمْ. واللهُ في القرآنِ لم يُسَمِّهِمْ إلا بقومِ نوحٍ. ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ يعنِي: بعدَ أن عَبَدُوا الأصنامَ، وَعَبَدُوا صورَ أولئك الصالحينَ: وَدًّا ويغوثَ ويعوقَ ونسرًا، وبعدَ أن فَعَلُوا ذلك أَرْسَلَ اللهُ إليهم نبيَّه نوحًا ليتركوا عبادةَ الأصنامِ ويعبدُوا اللهَ وحدَه، فقال لهم نوحٌ: ﴿يَا قَوْمِ﴾ [الأعراف: آية ٥٩] حَذَفَ ياءَ المتكلمِ، والأصلُ: (يا قومي) والمنادَى المضافُ إلى ياءِ المتكلمِ أصلُه فيه الخمسُ اللغاتِ المعروفةِ (١) منها حذفُ ياءِ المتكلمِ.
﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ [الأعراف: آية ٥٩] أصلُ العبادةِ في لغةِ العربِ (٢): الذلُّ والخضوعُ، فكلُّ خاضعٍ ذليلٍ تُسَمِّيهِ (عابدًا) وَكُلُّ ما خُضِّعَ وَذُلِّلَ فَقَدْ عُبِّدَ، ومنه قولُ طرفةَ بنِ العبدِ في مُعَلَّقَتِهِ (٣):
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
(٢) انظر: المفردات (مادة: عبد) ص٥٤٢.
(٣) شرح القصائد المشهورات (١/ ٦٠).
وقوله: «تباري» أي: تعارض. والعتاق: الكرام. والناجيات: السريعات. والوظيف: عظم الساق. والمور: الطريق. والمعَبَّد: المذلَّل.
أغضبهم ليوقعهم بالغضب في المعاصي، تذكروا الله فأبصرت قلوبهم عقاب الله وثوابه، فرجعوا إلى ما يرضي الله، وأن غيرهم من الكفرة و [أصحاب] (١) المعاصي إذا جاءتهم لَمَّاتُ الشياطين وطائف الشياطين مدوا لهم وزادوهم ضلالاً إلى ضلال، فلا يبصر هؤلاء ولا يبصر هؤلاء. وهذا معنى قوله: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ (٢٠٢)﴾ [الأعراف: آية ٢٠٢].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)﴾ [الأعراف: آية ٢٠٣] ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم﴾ (إذا) أصلها ظرف مضمن معنى الشرط، ومن أحكامه عند علماء العربية: أنه يدل على تحقق وجود المشروط. فلو قلت لعبدك وهو يعرف معنى اللغة العربية: «إن جاءك زيد فأعطه درهمًا»،. فهو يعلم أن معنى الكلام: أن زيدًا محتمل أن يجيء ومحتمل أن لا يجيء؛ لأن (إنْ) حرف شرط لا يقتضي وجود الشرط. أما إذا قلت له: «إذا جاءك زيد فأعطه درهمًا» وهو يعرف معنى اللغة فإنه يعلم أن زيدًا آتٍ لا محالة؛ لأن (إذا) تدل على تحقق وقوع الشرط، وهي لا تقتضي التكرار على التحقيق إلا إذا اقترنت بقرينة تدل على ذلك (٢). فمن قال لزوجته: «إذا دخلت الدار فأنت طالق» ثم دخلتها فإنها تطلق، ولو دخلتها مرة أخرى لا يكون عليه طلاق جديد؛ لأن (إذا) ليس أداة تكرار. قال بعض علماء العربية: وربما دلت على التكرار إن احْتَفَتْ بقرينة يُفهم منها ذلك. والتحقيق
_________
(١) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.
(٢) انظر: البرهان للزركشي (٤/ ١٩٠، ٢٠٣)، شرح الكوكب المنير (١/ ٢٧٢)، الفروق للقرافي (٢/ ٩٧).
بِقَوْلِ الراجز (١):
لَوْ كَلَّمَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ فِي الْجَبَلْ لأَقْبَلَ الرُّهْبَانُ يَهْوِي وَنَزَلْ
أنه واحدٌ. والتحقيقُ: أنه جمعُ راهبٍ.
﴿أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ﴾ الأربابُ: جَمْعُ رَبٍّ، لأنهم عَبَدُوهُمْ، والعبادةُ من صفاتِ الرَّبِّ (جلَّ وعلا) وحدَه لاَ يُعْبَدُ سواه.
﴿وَمَا أُمِرُوا﴾ بِمَا أُمِرُوا به مِنَ الدِّينِ ﴿إِلاَّ﴾ لأَجْلِ أن يعبدوا اللَّهَ وَحْدَهُ ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ أي: معبودًا واحدًا ﴿لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ لاَ معبودَ بِحَقٍّ إلا هو وحدَه (جلَّ وعلا) ﴿سُبْحَانَهُ﴾ أي: تَنْزِيهًا له أَتَمَّ تنزيهٍ عما يشركونَ به شركَ ربوبيةٍ وشركَ طاعةٍ وشركَ عبادةٍ.
وهذه الآيةُ من سورةِ براءةٍ بَيَّنَ اللَّهُ فيها أن النصارى واليهودَ مشركونَ كما أَشَرْنَا إليه سابقًا. وهذا معنَى قولِه: ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: آية ٣١].
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ [التوبة: آية ٣٢] قال بعضُ العلماءِ: نورُ اللَّهِ هو هذا القرآنُ العظيمُ، وقد سَمَّى اللَّهُ هذا القرآنَ نُورًا في آياتٍ كثيرةٍ كقولِه: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ [المائدة: آية ١٥] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا﴾ [النساء: آية ١٧٤] ﴿وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ﴾ [الشورى: آية ٥٢] ﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنْزِلَ مَعَهُ﴾ [الأعراف: آية ١٥٧] ﴿وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾ [التغابن: آية ٨] هو نورٌ
_________
(١) البيت لعروة بن حزام، وهو في ديوانه ص٣١، فتح القدير (٢/ ٦٨) ولفظ الشطر الثاني:
«لزحف الرهبان يمشي وزحل»


الصفحة التالية
Icon