في سورةِ مريمَ (١)، وسورةِ آلِ عمرانَ (٢)، والأنبياءِ (٣)، وغيرِها.
﴿وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ يَحْيَى: هو ابنُ زَكَرِيَّا، وقصتُه معروفةٌ بَيَّنَّاهَا في آلِ عمرانَ، وستأتِي فِي سورةِ مريمَ. وَعِيسَى: هو عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.
وذِكْرُ عِيسَى هنا أَخَذَ العلماءُ منه حُكْمًا فِقْهِيًّا معروفًا، وهو أنه إذا قال رجلٌ: «هذا وَقْفٌ على ذُرِّيَّتِي». أو أَوْصَى لِذُرِّيَّتِهِ أَنَّ أولادَ البناتِ يدخلونَ؛ لأَنَّ عيسى ولدُ بنتٍ؛ لأنه لاَ يُدْلِي إلى إبراهيمَ - الذي إليه الضميرُ في قولِه: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ﴾ (أو نوحٍ، على القولِ بأن [٨/ب] الضميرَ لَهُ) (٤). لا يُدْلِي بواحدٍ منهما - إلا بِبِنْتِهِ مريمَ؛ لأَنَّهُ لاَ أَبَ لَهُ./ فَاللَّهُ (جل وعلا) أَدْرَجَهُ في اسمِ الذريةِ، وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ أَنَّ أولادَ البناتِ مِنَ الذريةِ، وهذه المسألةُ التي هَدَّدَ الحجاجُ عليها يَحْيَى بنَ يَعْمُرَ، قال له: أَتَقُولُ إن الحسنَ والحسينَ (رضي الله عنهما) من ذُرِّيَّةِ النبيِّ - ﷺ -؟ قال: نَعَمْ. وأنه قَالَ له: إِنْ لَمْ تَجِئْنِي بدليلٍ من كتابِ اللَّهِ فَعَلْتُ بِكَ وَفَعَلْتُ. قال: أتقرأُ في سورةِ الأنعامِ؟ قال: نَعَمْ، قال: قَالَ اللَّهُ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ﴾ ثُمَّ إلى أن قَالَ
_________
(١) كما في الآية (٢) من سورة مريم. وهي قوله تعالى: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ والآيات بعدها.
(٢) كما في الآية (٣٨) من سورة آل عمران وهي قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ والآيات بعدها.
(٣) كما في الآية (٨٩) من سورة الأنبياء وهي قوله تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً﴾ والآيات بعدها.
(٤) انظر: القرطبي (٧/ ٣١ - ٣٢)، ابن كثير (٢/ ١٥٥)، البحر المحيط (٤/ ١٧٣).
إِنَّكِ لَوْ شَهَدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ... إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وفَرَّ عِكْرمهْ...
وأَبو يزيدَ قائمٌ كالمُؤْتِمَهْ... وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيُوفِ المُسْلِمَهْ...
لَهمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ... يَقطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وجُمْجُمَهْ...

ضَرْباً فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ لَمْ تَنْطِقِي بِاللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
كان عكرمة بالغاً هذا من معاداة النبي - ﷺ -، فلما فتح النبي - ﷺ - مكة، وعرف عكرمة أن النبي - ﷺ - اسْتَتَبَّ لَهُ الأمر في مكة، فرَّ هارباً إلى الحبشة بغضاً للنبي - ﷺ -، فَرَكِبَ في سفينة في البحر الأحمر ذاهباً إلى الحبشة، فلمَّا تَوَسَّطَتْ بهم بطن البحر الأحمر هاجت عليهم عواصف الريح، وهاجت عليهم الأمواج، وأيقنوا بالهلاك، فإذا جميع من في السفينة ينادي بعضهم بعضاً من أطراف السفينة؛ احذروا في هذا الوقت أن تدعوا غير الله لئلا تهلكوا؛ لأنه لا ينقذ من هذه الكروب والأهوال إلا هو وحده (جل وعلا)، فجاءت في رأس عكرمة، ثم قال: والله إن كان لا ينجي من ظلمات البحر إلا هو فلا ينجي في كربات البر إلا هو، ثم قال: اللهم لَكَ عليَّ عهد إن أنْقَذْتَنِي من هذه فلأضَعَنَّ يَدِي في يد محمد - ﷺ - فلأجدنَّه رؤوفاً رحيماً.
وعلى كل حال فإِخْلَاص حقوق الله لله مرضاة لله، ومرضاة للرسول، وإقرار لعين الرسول، واتباع له وتعظيم، وعمل بالعلم والقرآن. وهذا مما ننصح به أنفسنا وإخواننا على ضوء كتاب الله تعالى.
رسولَه أنكم سَتَلْقَوْنَ العذابَ الأليمَ والنكالَ الشديدَ.
وكونُ الإخبارِ مُقْتَرِنًا بهذا التهديدِ والتخويفِ من عذابِ اللهِ ونكالِه هو معنَى الإنذارِ. أي: (لينذركم) لأجلِ أن ينذرَكم، يخوفكم عقابَ اللهِ وشدةَ نكالِه وبأسِه إن تماديتُم على كفركم.
﴿وَلِتَتَّقُوا﴾ [الأعراف: آية ٦٣] علةٌ أُخْرَى. أي: جاءكم ذِكْرٌ من ربكم على لسانِ رَجُلٍ منكم لأَجْلِ أن تتقوا اللهَ وتجعلوا بينَكم وبين سَخَطِهِ وعذابِه وقايةً، هي امتثالُ أمرِ اللهِ واجتنابُ نهيِ اللهِ؛ ولأَجْلِ أن تُرْحَمُوا.
(لَعَلَّ) هنا الظاهرُ فيها أنها تعليليةٌ؛ لأنها معطوفةٌ على مَوْضِعَيْنِ من لامِ كَيْ؛ لأن قولَه: ﴿لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا﴾ كِلْتَاهُمَا لاَمُ كَيْ، فَعَطْفُ (لعل) عليهما يدلُّ على أنها للتعليلِ. وقد قال بعضُ علماءِ التفسيرِ (١): كل (لَعَلَّ) في القرآنِ فَفِيهَا معنَى التعليلِ إلا التي في سورةِ الشعراءِ: ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩)﴾ [الشعراء: آية ١٢٩] قالوا: هي بمعنَى: كأنكم تَخْلُدُونَ. هكذا قالوا واللَّهُ أعلمُ.
ولا شكَّ أن (لعلَّ) تأتِي في القرآنِ للتعليلِ، وكذلك تأتِي في كلامِ العربِ، فَمِنْ إتيانِها في القرآنِ ظاهرةً في التعليلِ واضحةً فيه: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: آية٧٨] أي: أَنْعَمَ عليكم بنعمةِ الأبصارِ والأفئدةِ لأَجْلِ أن تشكروا نعمَه فتؤمنوا به. وَمِنْ إتيانِ (لعل) في كلامِ العربِ بمعنَى التعليلِ قولُ الشاعرِ (٢):
فَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
وهنا كان خلاف بين العلماء: هل إذا قرأ الإمام يسكت المأموم ويكتفي بقراءة الإمام، أو لا بد أن يقرأ الفاتحة؟ في هذا خلاف مشهور بين العلماء (١)، فبعض العلماء يقول: أما في الجهرية فإن المأموم يسكت؛ لأن الله أمره في قوله: ﴿فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ﴾ والله يقول ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: آية ٦٣].
ومن العلماء من لا يرى الفاتحة واجبة على المأموم؛ لأن الإمام يحملها عنه. وهذا مذهب مالك، وروي عن أبي حنيفة مثله، وقال به بعض العلماء. قالوا: دل القرآن على أن الذي يسمع ويُؤَمِّن أنه كالذي كان يتكلم. قالوا: والدليل على ذلك أن الله قال في محكم كتابه: ﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ موسى وحده لم يكن معه هارون ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ﴾ وفي القراءة الأخرى (٢): ﴿لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ ثم قال: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا﴾ [يونس: الآيتان ٨٨، ٨٩] قالوا: كيف يكون الداعي واحدًا -وهو موسى- وتكون الدعوة المجابة من اثنين؟! قالوا: لأن هارون كان ينصت لدعاء موسى ويُؤَمِّن عليه، فصار أحد الداعيين لإنصاته وتأمينه، فدل ذلك على أن المنصت المُؤَمِّن كالذي
_________
(١) انظر: الاستذكار لابن عبد البر (٤/ ٢٢٣ - ٢٤٨)، المجموع (٣/ ٣٦٥)، تفسير القرطبي (١/ ١١٧ - ١٢٤)، المغني (٢/ ١٤٦ - ١٥٦) وقد أفرد هذه المسألة في التأليف الإمامان: البخاري والبيهقي رحمهما الله، وكتاباهما مطبوعان.
(٢) مضت عند تفسير الآية (٥٥) من سورة الأعراف.
وأكثرُ العلماءِ على أن الفضةَ لاَ وَقْصَ فيها (١)، فإذا كانت عنده مائتا درهمٍ أَخْرَجَ ربعَ عُشْرِهَا، وَكُلُّ ما زَادَ فَبِحِسَابِهِ. وقال بعضُ العلماءِ: إذا زَادَ عن مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لم يكن عليه شيءٌ حتى يبلغَ الأربعينَ درهمًا.
أما الذهبُ فقد ذَكَرَ بعضُ العلماءِ أنه لم يَثْبُتْ فيه تحديدٌ مِنَ النبيِّ ﷺ لا فِي نصابِه ولا في الْمُخْرَجِ منه (٢)، وهذا مرويٌّ عن الشافعيِّ، وقاله ابنُ عبدِ البرِّ، وَبَالَغَ ابنُ حزمٍ في نصرِه، أن النبيَّ لم يَثْبُتْ عنه شيءٌ في تحديدِ نصابِ الذهبِ ولاَ في قدرِ الْمُخْرَجِ منه. والتحقيقُ أن النبيَّ ﷺ ثَبَتَ عنه قدرُ نصابِ الذهبِ وقدرُ الْمُخْرَجِ منه، وأن نصابَ الذهبِ عشرونَ دِينَارًا ليس فيما دُونَهَا صدقةٌ، وأن في الذهبِ مثلَ ما في الفضةِ ربع العشر.
اعْلَمُوا أولاً أن الكتابَ والسنةَ وإجماعَ المسلمينَ كُلُّ واحدٍ منها قَدْ دَلَّ على أن الزكاةَ تَجِبُ في الذهبِ، وقد دَلَّ عليه القرآنُ في قولِه: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ... ﴾ الآيةَ [التوبة: آية ٣٤]. وَدَلَّتْ عليه السنةُ الصحيحةُ الثابتةُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أبِي هريرةَ (رضي الله عنه) أن النبيَّ ﷺ قال: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ لاَ يُخْرِجُ مِنْهُمَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَظَهْرُهُ وَوَجْهُهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٤٣٦).
(٢) انظر: الأم للشافعي (٤/ ٤٠)، الاستذكار لابن عبد البر (٩/ ٣٤)، المحلى (٦/ ٦٦)، الأضواء (٢/ ٤٣٨).


الصفحة التالية
Icon