﴿وَعِيسَى﴾ وَعِيسَى ابنُ بِنْتٍ (١). وهذا صريحٌ في دخولِ ابنِ البنتِ في الذريةِ، وعلى هذا أكثرُ العلماءِ (٢). على أنه لَوْ أَوْصَى للذريةِ أو وَقَفَ عليهم أن أولادَ البناتِ يدخلونَ لهذه الآيةِ.
وَاخْتَلَفُوا في البنينَ والأولادِ (٣)، لو قال: «هَذَا وَقْفٌ عَلَى بَنِيَّ، أو عَلَى وَلَدِي». قال جماعةٌ: يدخلُ أولادُ البناتِ في لفظِ الأبناءِ؛ لأَنَّ النبيَّ - ﷺ - ثَبَتَ عنه في الصحيحِ أنه قَالَ في الحسنِ بْنِ عَلِيٍّ (رضي الله عنه): «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ أُمَّتِي». الحديث المشهور (٤). قالوا: سَمَّاهُ ابْنًا، وهو ابنُ بِنْتٍ. وقال بعضُ العلماءِ: تسميتُه هنا ابنًا ليست على حقيقتِها؛ لأَنَّ اللَّهَ يقول: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: آية ٤٠] فَاللَّهُ نَفَى هذه البنوةَ، فَدَلَّ على أنها كقولِ الرجلِ للقريبِ: «يَا بُنَيَّ». وكذلك لو قَالَ: «وَقْفٌ عَلَى وَلَدِي». أو أَوْصَى لولدِه. أكثرُ العلماءِ على أن أولادَ البناتِ لا يدخلونَ؛ لأن الشاعرَ
_________
(١) هذا الأثر أخرجه ابن أبي حاتم (٤/ ١٣٣٥) ونقله ابن كثير (٢/ ١٥٥)، وهو في الدر المنثور (٣/ ٢٨).
(٢) في هذه المسألة: انظر: المدونة (٦/ ١٠٣)، كتاب الوقوف للخلال (١/ ٤٠٧ - ٤١٢)، المجموع (١٥/ ٣٥٢)، المغني (٨/ ٢٠٢)، الإنصاف (٧/ ٧٩) ٠ القرطبي (٤/ ١٠٤) (٧/ ٣٢)، ابن كثير (٢/ ١٥٥)، البحر المحيط (٤/ ١٧٣).
(٣) راجع الحاشية السابقة.
(٤) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب قول النبي - ﷺ - للحسن بن علي (رضي الله عنهما): «إن ابني هذا سيد... »، حديث (٢٧٠٤) (٥/ ٣٠٦). وأخرجه في مواضع أخرى من الصحيح، انظر: الأحاديث: (٣٦٢٩، ٣٧٤٦، ٧١٠٩).
وقوله جل وعلا: ﴿أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً﴾ هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام فيها إشكال معروف مشهور، وأجوبة العلماء عنه معروفة مذكورة مشهورة.
اعلموا أولاً: أن قوله هنا: ﴿شَيْئاً﴾ فيه وجهان من الإعراب (١):
أحدهما: أنه ما ناب عن المصدر فهو مفعول مطلق في المعنى؛ أي: لا تشركوا بالله شيئًا من الإشراك، أي: لا إشراكاً صغيراً كالرياء، ولا إشراكاً كبيراً، فعليه يكون اسم (الشيء) واقعاً على الإشراك/ فيكون في معنى المصدر، [٢١/ب] ويُعرب ما ناب عن المطلق؛ أي: لا تشركوا بالله شيئاً؛ أي: لا تشركوا به إشراكاً؛ أي: شيئاً من الإشراك، قليلاً أو كثيراً.
الثاني: أنه مفعول به بـ ﴿أَلَّا تُشْرِكُواْ﴾ أي: لا تشركوا به شيئاً من الشركاء؛ لأن حقوقه الخالِصَة لا يُشْرَكُ معه فيها أحد كائناً ذلك الأحد من كان، سواء كان نبيّاً أو مَلَكاً أو غيرهما، وأكره ما يكره الأنبياء والملائكة أن يُشْرَكَ بالله غيره؛ كما قال تعالى: ﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ المَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: آية ٨٠] وقد أمر الله سيد الخلق أن يصدع بذلك الأمر المؤسف العظيم (٢) في آل عمران: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٢١٨).
(٢) أي: يصدع في بيان بطلانه، ويعلن منابذته، أي: الشرك.
فقولُه: (كُفُّوا الحروبَ لعلنا) أي: كُفُّوا الحروبَ لأَجْلِ أن نَكُفَّ. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ هذا الذِّكْرُ الذي أَنْزَلَهُ اللهُ عليكم على لسانِ رجلٍ منكم لا عجبَ فيه وإنما أنزل اللهُ هذا الذي تعجبتُم منه لصلاحِكم:
أولاً: لأَجْلِ أن تتقوا اللهَ بإنذارِ هذا النبيِّ الكريمِ الذي هو مِنْكُمْ.
الثاني: ﴿لِيُنذِرَكُمْ﴾ يخوفكم عقابَ اللهِ، وتتقوا اللهَ، ولأَجْلِ أن يرحمَكم اللهُ برحمتِه الواسعةِ إذا أقلعتُم عن الكفرِ واتقيتُم اللهَ؛ لأن رحمةَ اللهِ وَسِعَتْ كُلَّ شيءٍ، ولكن الله بَيَّنَ من يكتب لهم رحمتَه في قوله: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف: الآيتان ١٥٦، ١٥٧] هؤلاء هم الذين يكتب اللهُ لهم رحمتَه؛ ولذا قال نبيُّ اللهِ نوحٌ لقومِه: لا تعجبوا فهذا ليس مَحَلَّ عَجَبٍ، وهذا أمرٌ لا يُعْجَبُ منه؛ لأن اللهَ أَنْزَلَ عليكم ذِكْرًا على لسانِ رَجُلٍ منكم ليخوفَكم من اللهِ، من عبادةِ غيرِه؛ ولأجلِ أن تتقوا رَبَّكُمْ بما يعلمكم ويبلغكم عن الله؛ ولأَجْلِ أن يرحمَكم اللهُ إن أنتم فعلتُم ذلك. وهذا معنَى قوله: ﴿لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ ثم أعادَ الكلامَ فقال: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ لأنه ذَكَرَ أولاً أنهم كَذَّبُوهُ تكذيبًا شنيعًا حيث قالوا له: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [الأعراف: آية ٦٠] فَلَمَّا أعادَ عليهم الكلامَ، وَبَيَّنَ لهم أن بعثَه إليهم لا يُسْتَعْجَبُ منه، وأنه لصلاحِهم ليخوفَهم من معاصِي اللهِ، وليتقوا اللهَ فيرحمهم اللهُ عادوا إلى التكذيبِ.
وقال اللهُ هنا: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ عادوا إلى تكذيبِهم الأولِ. والظاهرُ أنه قال: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ ولم يَذْكُرْ شناعةَ قولهم لأنهم تَمَادَوْا على مثلِ قولِهم الأولِ من التكذيبِ: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾
كان يقرأ. هذا قال به جماعة من العلماء.
وقالت طائفة أخرى: ينبغي للمأموم أن لا يترك قراءة الفاتحة، فلو سكت الإمام وأعطاه الفرصة بالسكوت لبادر أن يقرأ الفاتحة في سكتة الإمام، وإن لم يعطه فترة في ذلك قرأها. قالوا: نعم ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ﴾ هذا نص عام في قراءة القرآن، إلا أن قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْكِتَابِ» (١) أخص منه، فهو تخصيص عموم القرآن بحديث نبوي، فتخصيصات عمومات القرآن بالأحاديث كثيرة جدًّا. وقد روي حديث في خصوصه أنه يقرأ وراء الإمام في الجهرية، فإن كان ثابتًا محفوظًا فلا كلام.
وعلى كل حال فقوم من العلماء منعوا القراءة في حال جهر الإمام، وقوم أوجبوا قراءة الفاتحة خصوصًا. والأحوط في هذا ألا يترك الفاتحة؛ لأن الصلاة دعيمة عظيمة من دعائم الإسلام، وهي أعظمها بعد الشهادتين، فلا ينبغي للإنسان أن يفعل صلاة يقول بعض الناس: إنها غير مجزئة، فينبغي أن يعمل عملاً يتفق الناس فيه على أن صلاته مجزئة، والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ﴾.
الاستماع: هو التدبر في الشيء والإصغاء إليه، الإصغاء إلى الشيء بتدبر.
_________
(١) البخاري في الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلاة كلها... ، حديث رقم (٧٥٦)، (٢/ ٢٣٦ - ٢٣٧)، ومسلم في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة... ، حديث رقم (٣٩٤)، (١/ ٢٩٥)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» (١) فهذا نَصٌّ صَحِيحٌ ثَابِتٌ في صحيحِ مسلمٍ أن الذهبَ تَجِبُ فيه الزكاةُ، وأن مَنْ لَمْ يُؤَدِّ زكاتَه يكوى به يومَ القيامةِ، وَيُصَفَّحُ له صفائحَ من نارٍ. إذا عرفتُم أن أصلَ زكاةِ الذهبِ واجبةٌ بالكتابِ والسنةِ والإجماعِ، فبيانُ تحديدِ النصابِ وقدرِ الْمُخْرَجِ منه كأنه بيانٌ لإجمالٍ من كتابِ الله، وقد جاء عن النبيِّ ﷺ ما يُبَيِّنُ هذا الإجمالَ ويوضحُه، وَيُعَيِّنُ قَدْرَ نصابِ الذهبِ، وقدرَ الواجبِ إخراجُه فيه، وهو ما رَوَاهُ أبو داودَ في سُنَنِهِ من طريقِ أبِي إسحاقَ عن عاصمِ بنِ ضمرةَ السلوليِّ والحارثِ الأعورِ الهمذانيِّ عن عَلِيِّ بنِ أبِي طالبٍ (رضي الله عنه) أن النبيَّ ﷺ قال ما معناه: «إِنَّ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ نِصْفَ دِينَارٍ» (٢).
وهذا بِعَيْنِهِ تحديدُ النصابِ بعشرينَ دينارًا، وتحديدُ الواجبِ فيه بربعِ الْعُشْرِ، هذا الحديثُ رواه أبو داودَ وَسَكَتَ عنه. ومعروفٌ أن كثيرًا من العلماءِ نَاقَشُوا في هذا الحديثِ وَضَعَّفُوهُ بالحارثِ الأعورِ، وقالوا: وعاصمُ بنُ ضمرةَ السلوليُّ ضعيفٌ أيضًا، فَضَعَّفُوا هذا الحديثَ. ونحن نقول (٣): إن هذا الحديثَ عِنْدَ المناقشةِ الصادقةِ ليسَ بضعيفٍ، وأن الحارثَ الأعورَ وإن كان ضعيفًا عند قومٍ -وإن وَثَّقَهُ
_________
(١) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (٣٧) من سورة الأنفال.
(٢) أخرجه عبد الرزاق (٤/ ٨٩)، وأبو داود في الزكاة، باب في زكاة السائمة. حديث رقم: (١٥٥٧، ١٥٥٨) (٤/ ٤٤٤، ٤٤٧) مع تردد بعض رواته - عند أبي داود - في رفعه.
وأخرجه ابن أبي شيبة (٣/ ١١٩)، وأبو عبيد في الأموال ص٣٦٩ موقوفًا على علي (رضي الله عنه).
وانظر: الاستذكار (٩/ ٢١، ٣٤)، التلخيص (٢/ ١٧٣)، الإرواء (٣/ ٢٩١).
(٣) انظر: الأضواء (٢/ ٤٣٨ - ٤٤٢).