يقول (١):
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ
ولإجماعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ من العلماءِ في قولِه: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: آية ١١] أنه لم يَقُلْ أحدٌ إنه يدخلُ فيها أولادُ البناتِ فيكونونَ عَاصِبِينَ كأولادِ الذكورِ. ومن هنا قالوا: لَمَّا قال اللَّهُ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ﴾ ولم يَدْخُلْ في الميراثِ أولادُ البناتِ في هذه الآيةِ: عُرِفَ أنه إذا قال: «وَقْفٌ عَلَى وَلَدِي، أو: أَوْلاَدِي». لَمْ يَدْخُلْ فيه أولادُ البناتِ، كما هو معروفٌ.
وقولُه: ﴿عِيسَى﴾ هو عِيسَى ابنُ مريمَ الذي خَلَقَهُ اللَّهُ بقدرتِه مِنْ غَيْرِ أَبٍ ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ﴾ [آل عمران: آية ٥٩]. ﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾ إسماعيلُ على التحقيقِ: هو نَبِيُّ اللَّهِ إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ، جَدُّ النبيِّ - ﷺ -. وقال قومٌ: هو نَبِيٌّ آخَرُ مِنْ بَنِي إسرائيلَ (٢). والذين قالوا هذا قد غَلِطُوا. والتحقيقُ أنه إسماعيلُ، وأنه رسولٌ كريمٌ، كما قال الله جل وعلا: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا﴾ [مريم: آية ٥٤]. والمؤرخونَ يقولونَ: إنه أُرْسِلَ إلى قبيلةِ جُرْهُمَ مِنَ الْعَرَبِ البائدةِ (٣).
_________
(١) البيت في حماسة الخالديين ص٩٨، الخزانة (١/ ٢١٣). ونسبه بعضهم للفرزدق.
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٧٤).
(٣) انظر: البداية والنهاية (١/ ١٩٣).
[آل عمران: آية ٦٤] أي: مخلصون لله العبادة وحده، لا نتخذ غيره ربّاً، ولا نشرك به غيره.
أما محل السؤال والإشكال في الآية: فهو في لفظة (لا) لأنه يقول: ﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ فمعناه: أن هذا الذي يتلوه مُحَرَّم، وقوله: ﴿أَلَّا تُشْرِكُواْ﴾ عدم الشرك ليس بمحرم بل هو واجب حَتم ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ بر الوالدين ليس بمحرم، بل هو واجب حتم، فصار الإشكال في لفظة (لا) وهو إشكال معروف عند العلماء.
وللعلماء عنه أجوبة كثيرة (١): منها ما ذَكَرَهُ جماعة من العلماء أن مِنْ أسَالِيبِ اللغة العربية زيادة لفظ (لا) لتوكيد الكلام وتقويته إذا كانت القرينة تدل على أنها لا يُقصد بها نفي (٢)، وزيادة لفظة (لا) لتوكيد الكلام وتقويته أجمعَ عليها جميع علماء العربية في الكلام الذي فيه معنى الجحد -أعني الكلام المُشم برائحة النفي- لا خلاف في هذا بين العلماء، وهو كثير في القرآن، ومنه قوله: ﴿مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ﴾ [طه: الآيتان ٩٢، ٩٣] يعني: ما منعك أن تتبعني، وقوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: آية ١٢] أي: ما منعك أن تسجد. على أصح التفسيرين (٣)، بدليل قوله في (ص): ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: آية ٧٥]، ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ [الحديد: آية ٢٩] أي: ليعلم أهل الكتاب، ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [النساء: آية ٦٥] أي: فوربك
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٢١٥)، القرطبي (٧/ ١٣١)، البحر المحيط (٤/ ٢٤٩ - ٢٥٠)، الدر المصون (٥/ ٢١٣ - ٢١٨).
(٢) راجع ما سبق عند تفسير الآية (١٠٩) من سورة الأنعام.
(٣) انظر: فتح القدير (٢/ ١٩١).
يعني لَمَّا كَذَّبُوهُ - في الكلامِ اختصارٌ - صبر على أَذَاهُمْ، ومكثَ تسعمائة وخمسين سنةً وهو يدعوهم إلى الإسلامِ صابرًا على ما يَلْقَى منهم من الأذى، حتى إن رَبَّهُ تعالى قنَّطَه منهم وَبَيَّنَ له أنه لا يؤمنُ منهم أحدٌ أبدًا كما قال:... ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ [هود: آية ٣٦] فَتَيَقَّنَ نوحٌ أنه لم يَبْقَ يُرْجَى منهم خَيْرٌ، وإنما فيهم الشرُّ، وتعذيبُ نوحٍ وإهانتُه بما ينال منهم من السوءِ، وأنهم كلهم شرٌّ لاَ يُرْجَى منهم خيرٌ أبدًا، ولا من نَسْلِهِمْ بعدَ أن مَكَثَ فيهم هذا الزمنَ الطويلَ الذي بَيَّنَهُ اللَّهُ في العنكبوتِ فِي قولِه: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا﴾ [العنكبوت: آية ١٤] لَمَّا أعلمَه اللهُ أنهم لا يُرجى لهم صلاحٌ، ولا يُرجى لهم خيرٌ، وأنه لا يؤمنُ منهم ولا من ذرياتهم أحدٌ، لما حَصَلَ هذا اليأسُ عند ذلك دَعَا عليهم في قولِه: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: آية ٢٦] دَيَّارًا: أي: داخل دَارٍ، أو عامر بيتٍ، فأهْلِكْهُمْ كُلَّهُمْ.
ثم قال: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧)﴾ [نوح: آية ٢٧] وإنما قال نوحٌ: ﴿وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ لأن رَبَّهُ أخبرَه بأنهم لا يؤمنُ منهم أحدٌ في قولِه في سورةِ هودٍ: ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ [هود: آية ٣٦] فَلَمَّا دعا عليهم نوحٌ وَبَيَّنَ اللهُ دعاءَه عليهم فيٍ آياتٍ كثيرةٍ: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠)﴾ [القمر: آية ١٠] ﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ﴾ [الأنبياء: الآيتان ٧٦، ٧٧].
لَمَّا مَكَثَ فيهم هذا الزمنَ الطويلَ وهم يكذبونَه ويؤذونَه، وكانت امرأتُه خبيثةً تَدُلُّهُمْ على مَنْ أَسْلَمَ من القليلين الذين أَسْلَمُوا
والإنصات: هو السكوت وترك الكلام؛ لأجل سماع ما يقال. هذا معنى قوله: ﴿فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: آية ٢٠٤].
ثم إن الله علم نبيه ﷺ آداب الذكر، وجعل له الذكر على نوعين على التحقيق: ذكر نفساني، وذكر لساني، أما الذكر النفساني فهو هذا الذي يذكره العبد في نفسه بالتدبر والتفكر والاعتبار ولا ينطق به. وما قاله ابن عطية (١) (رحمه الله) من أنه لا ذكر إلا بحركة اللسان خلاف ظاهر هذه الآية الكريمة؛ لأن الله قال لنبيه: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ [الأعراف: آية ٢٠٥] أي: فيما بينك وبين ربك في نفسك من غير كلام، فتذكر عظمته وكماله وجلاله وصفاته، وما عنده من الثواب لمن أطاعه، ومن العقاب لمن عصاه، ويكون هذا التذكر والتفكر في عظمة الله (جل وعلا) وفي صفاته العظمى، وفي ثوابه وعقابه يكون في نفسك لأجل التضرُّع والخوف.
وقوله: ﴿تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾ قيل هما مفعولان لأجلهما؛ أي: لأجل التضرع. والتضرع معناه: التذلل والتخشع والتواضع؛ أي: لأجل التذلل والتخشع والتواضع لرب العالمين. وقال بعض العلماء: ﴿تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾ مصدران مُنكَّران بمعنى الحال؛ أي: في حال كونك متضرعًا خائفًا. والكل محتمل.
وقوله: ﴿خِيفَةً﴾ ياؤه مبدلة من واو، أصله: (خِوْفَة) لأنها
_________
(١) عبارة ابن عطية: «والجمهور على أن الذكر لا يكون في النفس، ولا يراعى إلا بحركة اللسان» اهـ. المحرر الوجيز (٧/ ٢٣٩).
ابنُ المدينيِّ وغيرُه (١)
- فقد ضَعَّفَهُ أكثرُ العلماءِ. أما عاصمُ بنُ ضمرةَ فالتحقيقُ أنه صدوقٌ أَثْنَى عليه غيرُ واحدٍ، وهو لا بأسَ به، فروايتُه
_________
(١) العبارة غير منضبطة من حيت المعنى كما ترى. ولعل الشيخ أراد أن يقول «وإن كذبه ابن المديني وغيره.. » فسبق لسانه إلى ذلك. لأن ابن المديني كذَّب الحارث الأعور كما نقل ذلك الذهبي في الميزان (١/ ٤٣٥) ويدل على ذلك ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في الأضواء (٢/ ٤٣٩). والحارث الأعور كذبه كذلك: الشعبي وأبو إسحاق السبيعي وأبو خيثمة وذكر إبراهيم النخعي أنه اتُّهِم، وقال أبو بكر بن عياش: «لم يكن الحارث بأرضاهم، كان غيره أرضى منه. قال: وكانوا يقولون: إنه صاحب كتب كذاب» اهـ وقال جرير: «كان الحارث الأعور زيفًا» اهـ. وعن مغيرة: «لم يكن الحارث يصدق عن علي في الحديث» اهـ. وقال ابن حبان: «كان الحارث غاليًا في التشيع واهيًا في الحديث» اهـ. وضعفه الدارقطني، وقال ابن عدي: «عامة ما يرويه غير محفوظ» اهـ. وترك الاحتجاج به أبو زرعة وأبو حاتم وابن مهدي، وابن معين ضعفه، ومرة قال: «ليس به بأس» اهـ. وقال مرة: «ما زال المحدثون يقبلون حديثه» اهـ. وقال مرة «ثقة». وتعقبه عثمان الدارمي بقوله: «ليس يتابع يحيى على هذا» اهـ. وكذا النسائي قال مرة: «ليس بالقوي» وقال مرة: «ليس به بأس» وقال ابن سيرين: «أدركت الكوفة وهم يقدمون خمسة: من بدأ بالحارث الأعور ثَنَّى بعبيدة، ومن بدأ بعبيدة ثَنَّى بالحارث» اهـ. وقال: «كان أصحاب ابن مسعود خمسة يُؤخذ عنهم، أدركت منهم أربعة وفاتني الحارث فلم أره وكان يُفضل عليهم» اهـ. وعن سفيان: «كنا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة على حديث الحارث» اهـ. وقال فيه الذهبي: «من كبار علماء التابعين على ضعف فيه» اهـ.. وقال: «والجمهور على تَوْهِينِ أمره مع روايتهم لحديثه في الأبواب» اهـ. وقد نقل الشيخ (رحمه الله) في الأضواء (٢/ ٥٦) قول بعض من رماه بالكذب ولم ينقل عن أحد توثيقه. فقول الشيخ (رحمه الله) هنا: «فقد ضعفه أكثر العلماء» اهـ. في محله، وإنما توسعت في هذا التعليق لأن عبارة الشيخ هذه أيضًا لربما توهم القارئ أنها من سبق اللسان وليست كذلك.