وقولُه: ﴿وَإِلْيَاسَ﴾ المؤرخونَ يقولونَ إنه: إلياسُ بنُ ياسينَ بنِ فنحاصَ بنِ العيزارِ بنِ هارونَ بنِ عمرانَ أخي مُوسَى (١). هكذا يقولونَ، وَاللَّهُ تعالى أَعْلَمُ. وقد ذَكَرَ اللَّهُ قصتَه في آياتٍ من كتابِه، وَبَيَّنَ أنه رسولٌ كريمٌ، وَبَيَّنَ في سورةِ الصافاتِ محاجتَه لقومِه في قولِه: ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾ [الصافات: الآيات ١٢٣ - ١٢٦] إلى غيرِ مَا ذَكَرَ مِنْ خَبَرِهِ.
وقولُه: ﴿كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ يعنِي: ﴿كُلٌّ﴾ مِنْ هؤلاءِ الأنبياءِ الذين هَدَيْنَاهُمْ من ذريةِ إبراهيمَ أو مِنْ ذريةِ نُوحٍ ﴿مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾. والصالحونَ جمعُ الصالحِ، وهو مَنْ كانت أعمالُه ونياتُه صالحةً لِلَّهِ (جل وعلا). والصلاحُ يتفاوتُ تفاوتًا كثيرًا.
﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: آية ٨٦] ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا﴾ قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا حمزةَ، والكسائيَّ: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ﴾. وَقَرَأَهُ حمزةُ والكسائيُّ: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ واللَّيْسَعَ﴾ بتشديدِ اللامِ وسكونِ الياءِ وَهُمَا قراءتانِ سبعيتانِ معروفتانِ (٢). أي: وَهَدَيْنَا إسماعيلَ، وَهَدَيْنَا اللَّيْسَعَ، وَهَدَيْنَا الْيَسَعَ.
بعضُ العلماءِ يقولُ: اليسعُ هو يوشعُ بنُ نون. وأكثرُ المؤرخين
_________
(١) انظر: تاريخ الطبري (١/ ٢٣٩)، والتفسير له (١١/ ٥٠٩)، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (٥/ ٢٣).
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ١٩٨.
لا يؤمنون ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ﴾ [فصلت: آية ٣٤] أي: ولا تستوي الحسنة والسيئة ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: آية ١٠٩] على أحد التفسيرين (١)، وهو كثير في كلام العرب معروف، ومن أمثلته في كلام العرب قول أبي النجم (٢):
وَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَلَّا تَسْخَرَا | لمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرَا |
وتَلْحَيْنَنَي في اللَّهْوِ أَنْ لَا أُحِبَّهُ | وَلِلَّهوِ دَاعٍ دَائِبٍ غَيْرِ غَافِلِ |
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ دِينَهُمُ | وَالْأَطْيَبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ |
وأنشد الجوهري لزيادة (لا) في الكلام الذي ليس فيه معنى الجحد قول الراجز (٦):
فِي بِئْرِ لا حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ | بِإِفْكِهِ حَتَّى رَأَى الصُّبْحَ جَشَرْ |
(١) انظر المصدر السابق (٢/ ١٥٢).
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٠٩) من هذه السورة.
(٣) المغني (١/ ٢٠٠).
(٤) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وهو غير مؤثر هنا.
(٥) مضى عند تفسير الآية (١٠٩) من هذه السورة وأورده الفراء في معاني القرآن (١/ ٨).
(٦) البيت للعجاج، وهو في الخصائص (٢/ ٤٧٧)، معاني القرآن للفراء (١/ ٨)، اللسان (مادة: حور) (١/ ٧٥٠)، الصحاح (مادة: حور) (٢/ ٦٣٩)، الخزانة (٢/ ٩٥ - ٩٨)، (٤/ ٤٩٠).
معه فيعذبونَهم ويهينونَهم أهلكها اللهُ معهم، وصارت مع الكافرين، ودخلتِ النارَ والعياذُ بالله، وَضَرَبَهَا اللهُ مثلاً مع امرأةِ لوطٍ لِمَنْ يكونُ في صحبةِ أفاضلِ الناسِ وخيارِ الأنبياءِ ولا يكونُ في نفسِه طَيِّبًا فلا ينتفعُ بتلك الصحبةِ الكريمةِ لِخُبْثِ نفسِه، قال: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠)﴾ [التحريم: آية ١٠] ومعنَى (خانتاهما) أي: بالكفرِ وإطلاعِ الكفارِ على أسرارِهما، وليس المرادُ أنهما خَانَتَا خيانةَ زِنًى كما تَوَهَّمَهُ بعضُ الناسِ، وأن امرأةَ نوحٍ خَانَتْهُ فَزَنَتْ! واستدلوا بأن اللهَ لَمَّا قال نوحٌ: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ قال: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود: الآيتانِ ٤٥، ٤٦] فهذا غلطٌ، بل غلطٌ عظيمٌ فاحشٌ. والمحققونَ من أهلِ العلمِ أن اللهَ كرم مناصبَ الأنبياءِ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم، وَطَهَّرَ فُرُشَهُمْ فلم تَزْنِ امرأةُ نَبِيٍّ قَطُّ، والولدُ الكافرُ الذي أُغْرِقَ هو ابنُ نوحٍ لا شكَّ فيه؛ لأن اللهَ - وهو أصدقُ مَنْ يقولُ - صَرَّحَ بأنه ابنُه حيث قال: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾ [هود: آية ٤٢] وقولُ اللهِ له: ﴿مِنْ أَهْلِكَ﴾ يعنِي بحذفِ الصفةِ، من أهلِك الموعودِ بنجاتِهم وإركابِهم في السفينةِ في قولِه: ﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ﴾ [العنكبوت: آية ٣٣] لأنه فَارَقَ دينَكم وَكَانَ كافرًا.
فَلَمَّا تَطَاوَلَ الزمنُ على نوحٍ وهو يدعوهم، ولا يزيدُهم دعاؤُه إلا فرارًا وَبُعْدًا عن الحقِّ؛ دعا عليهم فأجابَ اللهُ دعوتَه، فأرسلَ
(فِعْلَةٌ) من الخوف (١)؛ لأن المادة من الأجوف الذي هو واوي العين، والقاعدة المقررة في التصريف: أن الواو إذا سكنت بعد الكسر أُبدلت ياء بقياس مطرد (٢). فـ (الخيفة) هي (فِعْلَة) من الخوف، فالياء مبدلة من واو، وتُجمع على (خِيَف)؛ لأن الإعلال الذي في المفرد هو موجود أيضًا في الجمع، وشذ بعض العلماء فقال: تُجمع على (خِوَفْ).
والفرق في لغة العرب بين الخوف والحزن (٣): أن الخوف هو غم من أمر مستقبل، والحزن غم من أمر فائت. هذا أكثر ما يستعمل فيه الخوف والحزن، إلا أنهما ربما استعمل أحدهما في موضع الآخر. فقوله: ﴿خِيفَةً﴾ أي: غمًّا مِنْ أَمْرٍ مستقبل، وهو سخط رب العالمين وعقابه؛ لأن الخائف من سخطه وعقابه المغموم مما يقع من ذلك في المستقبل يُطيع الله (جل وعلا) في دار الدنيا وقت إمكان الفرصة، وربما أطلقت العرب اسم الخوف على العلم، تقول العرب: «خفت كذا». أي: علمته. وإطلاق الخوف على العلم أسلوب عَرَبِي معروف، قال بعض العلماء: منه قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: آية ٢٢٩] أي: علمتم ألا يقيما حدود الله ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: آية ٢٢٩] إلا أن يعلما ألا يقيما حدود الله، على القول بذلك، ومن إطلاق الخوف بمعنى العلم قول أبي محجن الثقفي في أبياته المشهورة (٤):
_________
(١) انظر: اللسان (مادة: خوف) (١/ ٩٢١)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص١٠٣.
(٢) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٤٩١ - ٤٩٢).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام.
(٤) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام.
مُحْتَجٌّ بها وهي معتضدةٌ بأشياءٍ عديدةٍ تقومُ بها الروايةُ الضعيفةُ أَحْرَى التي هي غيرُ ضعيفةٍ؛ لأَنَّ روايتَه معتضدةٌ بروايةِ الحارثِ الأعورِ، وهو يُقْبلُ في المتابعاتِ والشواهدِ، ومعتضدةٌ بإجماعِ المسلمينَ على مقتضاه؛ لأن هذا الحديثَ أَجْمَعَ على مُقْتَضَاهُ عامةُ المسلمينَ ولم يخالف منهم أحدٌ إلا شيء يُرْوَى عن داودَ الظاهريِّ وبعضِ أتباعِه، أما فقهاءُ الأمصارِ والصحابةُ والأئمةُ الأربعةُ وأصحابُهم وكافةُ العلماءِ المعروفينَ لم يُخَالِفْ أحدٌ منهم في أن نصابَ الذهبِ عشرونَ دينارًا، وأن الواجبَ فيه ربعُ العُشْرِ كالفضةِ، ورُوي عن الحسنِ البصريِّ أن نصابَه أربعونَ (١)، وعن طاووسٍ أنه يقاسُ بالفضةِ، فَمَا بَلَغَ من الذهبِ قيمةَ مائتي درهمٍ كانت فيه الزكاةُ، وما دُونَ ذلك فَلاَ. وهذا لا يكادُ يُلْتَفَتُ إليه (٢) لكثرةِ مَنْ خَالَفَهُ من أَجِلاَّءِ العلماءِ من الصحابةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ.
فحديثُ عاصمِ بنِ ضمرةَ حجةٌ، وهو معتضدٌ بروايةِ الحارثِ الأعورِ، وبإجماعِ المسلمينَ، وهذا إنما هو بيانٌ لأمرٍ ثَبَتَ بالكتابِ والسنةِ والإجماعِ أنه واجبٌ، ومعلومٌ أن البيانَ إرشادٌ
_________
(١) أخرج عبد الرزاق في المصنف (٤/ ٨٩)، وابن أبي شيبة (٣/ ١١٨)، وابن عبد البر في الاستذكار (٩/ ٢٥) عن الحسن: «ما زاد على المائتين فلا يؤخذ منه شيء حتى يبلغ أربعين» وجاء عنه رواية ثانية نقلها النووي في المجموع (٦/ ١٧) أنه لا زكاة فيما هو دون أربعين مثقالاً لا تساوي مائتي درهم.
(٢) أخرج عبد الرزاق (٤/ ٩٢)، وابن عبد البر في الاستذكار (٩/ ٢٤) عن طاووس قال: «إذا زادت الدراهم على مائتي درهم فلا شيء فيها حتى تبلغ أربعمائة درهم». قال في المغني (٤/ ٢١٢ - ٢١٣): «وقال عامة الفقهاء: نصاب الذهب عشرون مثقالاً من غير اعتبار حقيقتها، إلا ما حُكي عن عطاء وطاووس والزهري... أنهم قالوا: هو معتبر بالفضة، فما كان قيمته مائتي درهم ففيه الزكاة وإلا فلا؛ لأنه لم يثبت عن النبي ﷺ تقدير في نصابه» اهـ.