﴿بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾ الصبرُ: مصدرُ صَبَرَ صَبْرًا، وهذه المادةُ تَتَعَدَّى وَتَلْزَمُ، فمن تعدِّيها في القرآنِ ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ الآيةَ [الكهف: آية ٢٨]، وَمِنْ لُزُومِهَا في القرآنِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا﴾ الآيةَ [آل عمران: آية ٢٠٠]، ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [الشورى: آية ٤٣]. وقال بعضُ العلماءِ: هي متعديةٌ دائمًا إلا أنها يَكْثُرُ حذفُ مَفْعُولِهَا، وَمِنْ تَعْدِيَتِهَا في كلامِ العربِ قولُ عنترةَ (١)، وقيل أبو ذؤيب:
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً | تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ |
وهذه الخصلةُ التي هي الصبرُ لا يعلمُ جزاءَها إلا اللَّهُ، كما قال جل وعلا: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: آية ١٠]، والصائمون مِنْ خِيَارِ الصابرين؛ وَلِذَا قال ﷺ فيما يَرْوِيهِ عن رَبِّهِ: «إِلاَّ الصَّوْمَ فَهُوَ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» (٢).
_________
(١) شرح ديوان عنترة ص٨٥ وفي القرطبي (١/ ٣٧١) ونسبه لعنترة جازما بذلك.
(٢) قطعة من حديث أخرجه البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب الصيام، باب: فضل الصوم، حديث رقم (١٨٩٤) (٤/ ١٠٣)، وقد أخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث رقم (١٩٠٤، ٥٩٢٧، ٧٤٩٢، ٧٥٣٨)، ومسلم في صحيحه - واللفظ له - كتاب الصيام، باب: فضل الصيام، حديث رقم (١١٥١) (٢/ ٨٠٦).
الأفعالَ، وكانت قدرتُه بهذه المثابةِ من العظمةِ هو المعبودُ وحدَه جل وعلا.
﴿وهُوَ﴾ - جل وعلا - ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)﴾ [الأنعام: الآية ١٠٢] أصلُ الوكيلِ: هو الذي تُفَوَّضُ إليه الأمورُ وتُسْنَدُ؛ ليجلبَ المصالحَ فيها، ويدفعَ المضارَّ، وهو (جل وعلا) هو الوكيلُ بكلِّ شيءٍ، الذي كُلُّ شيءٍ بيدِه، تُفَوَّضُ أمورُ كُلِّ شيءٍ إليه، يفعلُ فيها ما يشاءُ (جل وعلا). هذا الذي هذه صفاتُه هو الذي يستحقُّ أن يُعْبَدَ جل وعلا.
[١٣/أ] /قال تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)﴾ [الأنعام: آية ١٠٣].
استدلَّ المعتزلةُ بهذه الآيةِ الكريمةِ على أن اللَّهَ لاَ يُرى بالأبصارِ. واستدلالُهم بهذه الآية على ذلك بَاطِلٌ (١).
وَاعْلَمُوا أَوَّلاً: أن التحقيقَ في رؤيةِ اللَّهِ بعينِ الرأسِ أنها يُنْظَرُ إليها بِنَظَرَيْنِ:
أحدُهما: النظرُ إليها بالحكمِ العقليِّ.
والثاني: النظرُ إليها بالحكمِ الشرعيِّ.
أما رؤيةُ اللَّهِ بالنظرِ إلى حكمِ العقلِ: فَهِيَ جائزةٌ في الدنيا، وجائزةٌ في الآخرةِ.
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ١٦ - ١٨، ٢٠ - ٢٢)، الشريعة للآجري ٢٥١ فما بعدها. اللالكائي (٣/ ٤٥٤) فما بعدها، ابن كثير (٢/ ١٦١)، شرح العقيدة الطحاوية ٢١٢. وللدارقطني في الرؤية كتاب مفرد وهو مطبوع.
وهذه الآيات فيها تخويف عظيم، وتهديد كبير من رب السماوات والأرض؛ لأنهم إذا تركوا العمل بما أنزل الله، وذهبوا يعملون بغير ما أنزل الله، فقد استحقوا العقوبة والهلاك، فهم مستحقون للعقوبة والهلاك، فعليهم أن يتبعوا ما أنزل الله، ويتركوا اتباع غير ما أنزل الله؛ ليسلموا بذلك من استحقاق عقوبات الله وإهلاكه العظيم؛ ولذا قال: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ أي: إهلاكاً مستأصلاً لم يبق منها داع ولا مجيب ﴿فَجَاءهَا بَأْسُنَا﴾ أي: عذابنا وهلاكنا المستأصل. والبأس يطلق على كل نكال شديد (١)، والمراد به هنا: إهلاكهم وتدميرهم عن آخرهم.
وقوله: ﴿بَيَاتاً﴾ مصدر مُنكّر في موضع الحال (٢)، أي: ﴿فَجَاءهَا بَأْسُنَا﴾ أي: جاء أهلَها بأسُنا في حال كونهم بائتين، أي: نائمين في الليل في بيوتهم، أو جاءهم بأسنا في حال كونهم وهم قائلون.
والتحقيق: أن الجملة الحالية إذا عُطفت بأداة عطف حُذف منها واو العطف لاستثقال تكرر أدوات العطف (٣)، هذا هو التحقيق، ومناقشات النحويين في عدم حذفه كلها ساقطة. والحق الذي لا شك فيه أن الجملة الحالية إذا عُطفت على حَال بأداة عطف تُحذف منها واو الحال؛ لأن واو الحال تشبه أداة العطف، فَيُسْتَثْقَل إثباتها مع حرف العطف، ويكون الربط بالضمير؛ لأن ربط الجملة الحالية بالضمير يكفي عن ربطها بالواو.
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: بؤس) ص١٥٣.
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ٢٤٩).
(٣) انظر: السابق (٥/ ٢٥٠).
لهم: أنتم صادقون في خبركم عني. فهي تصديق من الله لهم؛ لأنه ما خرق لهم العادة وقت التحدي وجاء بهذا العلم الخارق الذي لا يقدر عليه غيره إلا ومعناه عنده: أنت صادق يا عبدي فيما تنقل عَنّي. فهو تصديق من الله، ولذا سُمِّيَ مُعْجِزَة؛ لأن المعجزة فعل خارق يحصل عند التحدي لا يقدر عليه البشر (١).
وقد ذكرنا فيما مضى في الكلام على قوله: ﴿قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ﴾ [الأعراف: آية ٧٣] تصريف هذه الكلمة، وما جاء من أمثلتها في القرآن ببعض أمثلتها (٢)، وكان ذلك الذي ذكرنا هنالك سقط منه قسم نسيانًا، وكنا نتحرى إن جاءت لها مناسبة أخرى أن نبيّن القسم الذي سقط من كلامنا سهوًا لئلا يضيع على بعض طلبة العلم الذين يسمعون هذه الدروس. ذكرنا فيما مضى أن (البينة) أنها صفة مشبهة من (بان يبين) فهو (بيّن) والأنثى (بينة) بمعنى: وضح. وأنها المعجزة الواضحة، وأن النبي ﷺ صرح في الحديث الصحيح أن الله ما أرسل رسولاً إلا أتاه بمعجزة كما ثبت عنه ﷺ أنه قال: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ إِلا أُوتِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ» (٣). هذا حديث صحيح صرح فيه النبي ﷺ أن الله ما بعث نبيًّا قَطُّ إلا أعْطَاه ما آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، أي: معجزة تفحم الناس وتلزمهم الحق كما هو واضح.
_________
(١) في هذا الموضوع راجع: كتاب مناهل العرفان للزرقاني، دراسة وتقويم (١/ ٢٩٢ - ٣١٠).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٥) من سورة الأنعام.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٣٧) من سورة الأنعام.
أولاده أربعة: وهم هاشم جَدُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، والمطلّب، وعبد شمس، ونوفل (١).
أما الثلاثة الأوّلون منهم أشقَّاء، وأمهم عاتكة بنت مرة، إحدى عواتك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض أصحاب المغازي والأخباريين ذكروا عنه ﷺ أنه قال في بعض مغازيه: «أَنَا ابْنُ العَوَاتِكِ مِنْ سُلَيْمٍ» (٢). وعواتك سليم هذه التي انتسب إليها النبي ﷺ ثلاث عواتك معروفة (٣): الكبرى منها عمّة الوسطى، والوسطى عمّة الصغرى كما هو معروف. وسُليم بن منصور من قبائل قيس عيلان بن مضر، وسليم أخو هوازن. والعواتك هذه: صغراهن: عاتكة بنت الأوقص بن مرّة بن هلال، وعمتها: عاتكة بنت مرة، وعمّة هذه: عاتكة بنت هلال. أما الصغرى منهما -وهي عاتكة بنت الأوقص- فَهِيَ والِدَةُ وَهْبٍ والدة آمِنَة بِنْت وهب أُمّ النبي صلى الله عليه وسلم، فهي جَدَّتُه من قبيل والد أُمّه، وأما عمتها وهي: عاتِكَة بِنْت مُرَّةَ: فهي أم هاشم جده ﷺ وأخويه الشقيقين: المطلب وعبد شمس، أما أخوهما نوفل فهو ليس بشقيقهما، وأمه تُسمى واقدة بنت أبي عدي، واسم أبي عدي: نوفل. سمّت عليه ولدها نوفل هذا، والحاصل أن النبي ﷺ لما عاداه المشركون، وقاطعوا بني هاشم، واضطروهم إلى
_________
(١) انظر: القرطبي (٨/ ١٢)، الأضواء (٢/ ٣٦٢).
(٢) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (٢٨٤٠، ٢٨٤١)، والطبراني في الكبير (٧/ ١٦٨ - ١٦٩)، والبيهقي في الدلائل (٥/ ١٣٥، ١٣٦)، وابن عساكر (تهذيب تاريخ دمشق) (١/ ٢٨٩)، والعلائي في جامع التحصيل ص٢٣٤، وذكره الهيثمي في المجمع (٨/ ٢١٩) وقال: «رجاله رجال الصحيح» اهـ، وابن كثير في تاريخه (٤/ ٣٢٨). وهو في الكنز (٣١٨٧٤، ٣٥٥٠٤) والسلسلة الصحيحة (١٥٦٩).
(٣) انظر: تهذيب تاريخ دمشق (١/ ٢٨٩) الأضواء (٢/ ٣٦٢).