والصبرُ يتناولُ الصبرَ على طاعةِ اللَّهِ، وإن كنتَ كالقابضِ على الجمرِ، والصبرَ عن معصيةِ اللَّهِ وَإِنِ اشْتَعَلَتْ نارُ الشهواتِ، ويدخلُ في ذلك الصبرُ على المصائبِ (١) عندَ الصدمةِ الأُولَى، والصبرُ على الموتِ تحتَ ظلالِ السيوفِ.
وقولُه: ﴿وَالصَّلاةِ﴾ أي: وَاسْتَعِينُوا بالصلاةِ؛ لأن الصلاةَ نِعْمَ المعينُ على نوائبِ الدهرِ، وعلى خيرِ الدنيا والآخرةِ؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ الآيةَ [العنكبوت: آية ٤٥]، وقال جل وعلا: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: آية ١٣٢]، وكان ﷺ إذا حَزَبَهُ أمرٌ صلى (٢)، وَرُوِيَ عن ابنِ عباسٍ (رضي الله عنهما) أنه نُعِيَ له أخوُه قُثَم، فأناخَ راحلتَه وصلى، وتلا: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾ (٣) [البقرة: آية ٤٥]، يستعينُ بالصلاةِ على صبرِ مصيبةِ أَخِيهِ.
ولا شَكَّ أن لطالبِ العلمِ هنا سؤالاً وهو أن يقولَ: أما الاستعانةُ بالصبرِ على أمورِ الدنيا والآخرةِ فهي أَمْرٌ واضحٌ لا إشكالَ
_________
(١) انظر: هذه الأنواع الثلاثة في مدارج السالكين (٢/ ١٥٦)، بصائر ذوي التمييز (٣/ ٣٧٥، ٣٨١).
(٢) جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه عند أحمد (٥/ ٣٨٨)، وأبي داود في الصلاة، باب: وقت قيام النبي ﷺ من الليل، حديث رقم: (١٣٠٥) (٤/ ٢٠٢)، وابن جرير برقم (٨٤٩، ٨٥٠) (٢/ ١٢)، ومحمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة رقم: (٢١٢) (١/ ٢٣١)، وقد صححه أحمد شاكر في تعليقه على ابن جرير (٢/ ١٢)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (١/ ٢٤٥).
(٣) أخرجه ابن جرير، انظر: الأثر رقم: (٨٥٢) (٢/ ١٤)، والبيهقي في الشعب، انظر: الأثرين رقم: (٩٦٨١، ٩٦٨٢) (٧/ ١١٤)، وقال أحمد شاكر: «إسناده صحيح» ابن جرير (٢/ ١٤).
فالدليلُ على جوازِها عَقْلاً في دارِ الدنيا: أن نَبِيَّ اللَّهِ موسى - وهو هو - قال: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: آية ١٤٣] فلو كانت رؤيةُ اللَّهِ مستحيلةً عَقْلاً في الدنيا لَمَا خَفِيَ ذلك على نَبِيِّهِ موسى؛ لأنه لا يجهلُ المستحيلَ في حَقِّ اللَّهِ.
أما بالنظرِ إلى الحكمِ الشرعيِّ: فهي جائزةٌ وواقعةٌ في الآخرةِ قَطْعًا، ممتنعةٌ في الدنيا. وهذا هو التحقيقُ، فَعُلِمَ من هذا التحقيقِ: أن رؤيةَ اللَّهِ بالأبصارِ وعيونِ الرؤوسِ جائزةٌ عَقْلاً في الدنيا والآخرةِ، جائزةٌ وواقعةٌ شَرْعًا في الآخرةِ، ممتنعةٌ شَرْعًا في الدنيا (١). فَاللَّهُ جل وعلا في دارِ الدنيا لاَ يُرَى بالأبصارِ فِعْلاً، وإن كان ذلك يجوزُ عَقْلاً، ولكنه في الآخرةِ يراه المؤمنونَ (جل وعلا)، هذا هو التحقيقُ.
ومذهبُ أهلِ السنةِ والجماعةِ الذي دَلَّتْ عليه آياتُ القرآنِ والأحاديثُ الصحيحةُ المتواترةُ أن رؤيةَ اللَّهِ واقعةٌ شَرْعًا، يراه المؤمنونَ يومَ القيامةِ بأبصارِهم، كَمَا جَاءَ عن حوالي عشرين صَحَابِيًّا في أحاديثَ متواترةٍ (٢): أن المؤمنين يرونَ رَبَّهُمْ يومَ القيامةِ. وقد نَصَّ اللَّهُ على ذلك في آياتٍ من كتابِه (٣)، كقولِه: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)﴾ [القيامة: الآيتان ٢٢، ٢٣]، وكقولِه (جل وعلا) في الكفارِ: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (١٥)﴾ [المطففين: آية ١٥]
_________
(١) انظر: مختصر الصواعق، ص ١٧٩.
(٢) انظر: كتاب الرؤية للدارقطني، الشريعة للآجري ٢٥٣ فما بعدها، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي (٣/ ٤٧٠) فما بعدها، شرح الطحاوية ص٢١٥، ٢١٧، وقد ساق ابن القيم (رحمه الله) أحاديث الرؤية عن سبعة وعشرين صحابيًّا. انظر: حادي الأرواح ص ٢٠٥ فما بعدها.
والبيات: أصله مَصْدر بَاتَ الرجل يبيت بيتُوتة، وبياتاً (١)، وسُمِّيَ البيت بَيْتاً؛ لأنه يُبَاتُ فيه، وهو مصدر مُنكَّر في مَوْضِع الحال، والمصادر المُنكَّرة تقع أحوالاً بكثرة. أي: ﴿فَجَاءهَا بَأْسُنَا﴾ أي: جاء أهْلها بأسُنا في حال كونهم بائتين نائمين في غفلة. أو جاءها بأسنا في حال كونهم وهم قائلون.
والقائلون: جمع القائل، وهمزته منقلبة عن ياء؛ لأن الفاعل من الأجوف تُبدل عينه همزة، سواء كانت واواً أو ياء، فإن قلت: قال زيد، يقول، فهو قائل، الهمزة مبدلة من واو؛ لأن أصل الأجوف واوي العين من (القول). وإن قلت: قال زيد، يقيل. معناه: استراح في وقت النهار، يعني من العمل، سواء كانت القيلولة استراحاً مع نوم أو غير نوم. تقول: قال، يقيل، فهو قائل، كـ: (باع، يبيع، فهو بائع) فالهمزة مبدلة من ياء؛ لأن (قال، يقيل) من (القيلولة) أجوف يائي العين، و (قال، يقول) من (القول) أجوف واوي العين، والهمزة تُبدل من الواو والياء، وهي هنا مبدلة من ياء؛ لأن (القائلين) هنا جمع (قائل) وهو اسم فاعل (قال، يقيل) كـ (باع، يبيع) من (القيلولة) وهي الاستراحة في نصف النهار وقت شدة الحر، سواء كانت مع نوم أو مع غير نوم (٢).
وهذان الوقتان وقت راحة ودعة واستراحة، فإتيان العذاب والإهلاك فيها أفظع، وقد أهلك الله قوم شعيب في وقت القائلة؛ حيث أرسل عليهم الظُّلة في شدة النهار وأحرقتهم، وأهلك قوم لوط قبل
_________
(١) المصدر السابق (٥/ ٢٤٩).
(٢) انظر: المصدر السابق (٥/ ٢٥٢)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٢٣٠.
وقد ذكرنا فيما مضى (١) أن البينة جاء من تصاريفها في القرآن ولغة العرب أربعة تصاريف، واحد منها مجرد وثلاثة مزيدة -وهذا محل النسيان- لأنها جاءت على خمسة أنواع، أربعة منها مزيدة وواحد مجرد، ومن هنا وقع الغلط، وكنا نريد إذا جئنا بمناسبة كهذه أن نتدارك النسيان السابق لنبين القسم الذي سقط. اعلموا أولاً: أن هذه المادة أعنى مادة (الباء والياء والنون) (ب، ي، ن) جاء منها لفظ (بان) ثلاثيًّا مجردًا، ومنه هذه؛ لأن قوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الأعراف: آية ١٠١]، البينات: وزنه (فيعلات) وهو من (بان) الثلاثية بلا نزاع عند من يعرف فن الصرف معرفة معروفة، فـ (بان) الثلاثي المجرد دل عليه قوله: ﴿فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ﴾ ﴿جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الأنعام: آية ١٥٧] لأنها (فَيْعِلَة) وهي من (بان) الثلاثية المجردة بلا نزاع عند مَنْ له إلمام بموازين الصرف وأصوله. هذا الوجه المجرد، وهذا لازم في القرآن، وفي اللغة العربية، ولم يُسمع متعديًا بقية الأوزان الأربعة المزيدة التي تُستعمل لازمة ومتعدية. ذكرنا فيما مضى منها ثلاثة، وهي: (أبان) بزيادة الهمزة على وزن (أفعل) ومن هذه المادة قوله في جميع القرآن: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢)﴾ [الدخان: آية ٢] ﴿وَكِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [النمل: آية ١] لأن المبين هو الوصف من (أبان) الرباعية بالهمزة بلا نزاع عند من له إلمام بالفن.
[وقد قدمنا الكلام على هذه المسألة] (٢)
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٥) من سورة الأنعام.
(٢) في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
أن يرحلوا إلى الشِّعْب كان بنو المطلب معهم في كل بلية، ولم يفارقوهم في شيء، وكان إخوانهم الآخرون بنو عبد شمس وبنو نوفل كانوا مُعَادِينَ لهُمْ قريش ولم ينصروهم عليهم، وكان أبو طالب يقول لهم في لامِيَّتِهِ المشهورة (١):
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً... عُقُوبةَ شَرٍّ عَاجلاً غير آجلِ...
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لاَ يَخِيسُ شَعِيرَةً... له شاهدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ...
لَقَدْ سفهتْ أَحْلاَمُ قَوْمٍ تَبَدَّلوا... بني خَلَفٍ قيضاً بنا والغَيَاطِلِ...

ونحن الصَّميمُ مِنْ ذُؤَابةِ هَاشِمٍ وآلِ قصيّ في الخُطُوبِ الأوَائِلِ
فعرف النبي ﷺ لبني المطلب انسجامهم معهم في كل البلايا وصبرهم عليهم في الشدائد فجعلهم من القرابة، وأعطاهم من خُمس خيبر سهم ذي القرابة، ولم يعط إخوانهم الآخرين -أعني بني عبد شمس وبني نوفل- شيئاً. وهذا هو التحقيق في ذي القرابة.
واختلف العلماء في القرابة هل يُفَضَّلُ ذَكَرُهُمْ عَلَى أُنْثَاهُم (٢)؟ فذهب الشَّافِعِيّ وأحْمَدُ أنهم يُعطون للذكر مثل حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، قالوا: نالوه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم عصبته، والمعروف أن المال المستحق لِلْعَصَبة يكون فيه الذَّكَرُ له حَظّ الأنثيين.
وقال بعض العلماء: ذكرهم وأنثاهم سواء. وهذا أقربها؛ لأن تفضيل الذكر على الأنثى يحتاج إلى دليل، ولم يرو أحد أنه فضّل ذكرهم على أنثاهم. ولا يُشترط فيهم على التحقيق الفقر (٣)، فيعطى بنو هاشم والمطلب غنيّهم وفقيرهم.
_________
(١) القصيدة في البداية والنهابة (٣/ ٥٣ - ٥٧)، الأضواء (٢/ ٣٦٣).
(٢) انظر: القرطبي (٨/ ١٢).
(٣) انظر: السابق.


الصفحة التالية
Icon