فيه؛ لأن مَنْ حَبَسَ نفسَه على مَكْرُوهِهَا في طاعةِ اللَّهِ كان ذلك أكبرَ مُعِينٍ على الطاعةِ، ولكن مَا وَجْهُ الاستعانةِ بالصلاةِ على أمورِ الدنيا والآخرةِ؟
الجوابُ (١): أن الصلاةَ هي أكبرُ مُعِينٍ على ذلك؛ لأن العبدَ إذا وَقَفَ بين يَدَيِ رَبِّهِ، يناجي رَبَّهُ ويتلو كتابَه تَذَكَّرَ ما عند اللَّهِ من الثوابِ، وما لديه من العقابِ؛ فَهَانَ في عَيْنِهِ كُلُّ شيءٍ، وهانت عليه مصائبُ الدنيا، وَاسْتَحْقَرَ لَذَّاتِهَا؛ رغبةً فيما عندَ اللَّهِ، ورهبةً مما عند الله.
ثم إن اللَّه قال جل وعلا: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: آية
٤٥] للعلماءِ في مرجعِ الضميرِ في ﴿وَإِنَّهَا﴾ أقوالٌ كثيرةٌ (٢)، منها: أنه راجعٌ إلى الاستعانةِ، المفهومِ من قوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾. ومنها: أنه راجعٌ إلى المذكوراتِ في الآيةِ قبلَ هذا، والتحقيقُ: أنه راجعٌ إلى الصلاةِ، والمعنى: ﴿وَإِنَّهَا﴾ أي: الصلاةُ: ﴿لَكَبِيرَةٌ﴾ أي: عظيمةٌ شَاقَّةٌ على كُلِّ أَحَدٍ: ﴿إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، والصبرُ كذلك على المصائبِ وعلى طاعةِ اللَّهِ وعن معاصِي اللَّهِ كبيرٌ جِدًّا إلا على الخاشعين، والظاهرُ أن الضميرَ إنما رَجَعَ لأحدِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ اكتفاءً به عن الآخَرِ؛ لأن مثلَ ذلك يُفْهَمُ في الآخَرِ، وهذا يَكْثُرُ في القرآنِ، وفي كلامِ العربِ (٣)، فَمِنْهُ في القرآنِ قولُه هنا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
_________
(١) انظر: تفسير ابن جرير (٢/ ١١ - ١٢)، البحر المحيط (١/ ١٨٤)، أضواء البيان (١/ ٧٥).
(٢) انظر: ابن جرير (٢/ ١٥)، البيهقي في الشعب (٧/ ١١٣)، القرطبي (١/ ٣٧٣)، البحر المحيط (١/ ١٨٥)، الدر المصون (١/ ٣٣٠).
(٣) للتوسع في هذا الموضوع انظر: ابن جرير (١٤/ ٢٢٨ - ٢٢٩)، (١٥/ ٢٣)، تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص٢٨٨، الصاحبي ص٣٦٢، فقه اللغة للثعالبي ص٢٩٨، المدخل للحدادي ص٢٧٤، البرهان (٣/ ١٢٦، ٤/ ٢٨، ٣٠)، الإتقان (٢/ ٢٨٣)، الكليات ص٣٨٦، ٥٦٩، قواعد التفسير ص٤٠٦.
يُفْهَمُ من مفهومِ مخالفتِه: أن المؤمنين غيرُ مَحْجُوبِينَ عن رَبِّهِمْ، بل يَرَوْنَهُ (٤)، وهو كذلك. وثبتَ عن النبيِّ - ﷺ - أنه فَسَّرَ قولَه: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ قال: «الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ» (٥).
هذا هو التحقيقُ في رؤيةِ اللَّهِ، أنها جائزةٌ في حكمِ العقلِ في الدنيا والآخرةِ، ممتنعةٌ في حكمِ الشرعِ في دارِ الدنيا، واقعةٌ في الآخرةِ.
ولطالبِ العلمِ هنا سؤالٌ، وهو أن يقولَ: إذا كانت جائزةً عَقْلاً في الدنيا فَمَا وَجْهُ مَنْعِهَا وعدمِ إمكانِها شَرْعًا؟
أجابَ بعضُ العلماءِ عن هذا السؤالِ: بأن الناسَ في دارِ الدنيا رُكِّبُوا تَرْكِيبًا ضَعِيفًا مُعَرَّضًا للتغيرِ والفناءِ والزوالِ، وهذا التركيبُ الضعيفُ المُعَرَّضُ للفناءِ والتغيرِ والزوالِ لا يَقْدِرُ ولا يستطيعُ ولا يَقْوَى على رؤيةِ خالقِ السماواتِ والأرضِ، والدليلُ على ذلك: أنه لَمَّا تَجَلَّى للجبلِ صارَ الجبلُ دَكًّا لِعِظَمِ رُؤْيَةِ اللَّهِ (جل وعلا)، كما يأتي في الأعرافِ في قولِه: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: آية ١٤٣] فما يَدُكُّ الجبالَ
أن يستيقظوا مِنْ نوْمِهِمْ عند انصداع الفجر، كما قال: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)﴾ [هود: آية ٨١] والله (جل وعلا) يخوف الظالمين المتبعين لغير ما أنزل بأن يهلكهم وقت البيات، أو وقت القيلولة، أو أن يهلكهم في أوقات أُخر كما قال: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (٩٧) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩)﴾ [الأعراف: الآيات ٩٧ - ٩٩]، وقال جل وعلا: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾ [النحل: الآيات ٤٥ - ٤٧] إلى آخر الآيات التي يخوف الله بها خلقه من معاصيه.
وعلينا جميعاً أن نعرف أن خالق السماوات والأرض هو الجبار العظيم، شديد البطش والنكال ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢)﴾ [البروج: آية ١٢] وهو يخوف خلقه أن يعملوا بمعصيته، وأن يتبعوا غير ما أنزل، فيجب على كل مسلم أن يخاف من عقوبات الله وسخطه وإهلاكه، وأن يحذر كل الحذر من أن يتبع غير ما أنزل الله، فيجب على كل أحد أن يتبع ما أنزل الله ويدع غيره.
واستدلال ابن حزم وغيره من الظاهرية بهذه الآية على منع القياس سنبسط الكلام عليه في قصة إبليس - عليه لعائن الله - الآتية في الآيات القادمة قريباً إن شاء الله.
وقوله جل وعلا: ﴿فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (٤) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ﴾ [الأعراف: الآيتان ٤، ٥] يعني: لما أهلك الله القرى بظلمها ودمرها تدميراً مستأصلاً لم يكن عندها عذر ولا حجة مقبولة؛
فقد بينَّا (١) أن (أبان) بالهمزة تكون متعدية وتكون لازمة، وذكرنا شواهد ذلك، وقلنا: إن من إتيانها متعدية: أبان حجته، وأبان للناس ما كان يخفى عنهم، وأنها تأتي لازمة، ومنه: ﴿وَكِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ أي: البين الواضح، ومنه لازمًا قول كعب بن زهير (٢):

قَنْواء في حُرتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا عِتْقٌ مبينٌ وفي الخَدَّيْنِ تَسْهيلُ
وقد بينا هذا فيما مضى.
الثاني من الأوزان المزيدة: (بيَّن) بالتشديد على وزن (فعَّل) بتضعيف العين، وهذه في القرآن كثيرة كما قال: ﴿نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ﴾ [المائدة: آية ٧٥] وهي كثيرة في القرآن العظيم، وهي تأتي في كلام العرب أيضًا متعدية ولازمة، وذكرنا شواهدها لازمة كما في مثل: (قد بيَّنَ الصبحُ لذي عينين) (٣) إلى آخر ما ذكرنا من شواهدها.
الثالث: (استبان) على وزن (استفعل) وقد ذكرنا أنها تأتي متعدية أيضًا ولازمة، وأن تعديها ولزومها جاء مثالهما في القراءتين في قوله: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: آية ٥٥] لأنه فيه قراءتان سبعيتان (٤) ﴿ولتستبين سبيلَ المجرمين﴾ ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ فعلى قراءة: ﴿سَبِيلُ﴾ بالرفع، فـ (تستبين) لازمة معناه: تظهر وتتضح، وعلى قراءة: ﴿سبيلَ المجرمين﴾ فـ (تستبين) متعدية للمفعول، تستبين أنت يا نبي الله ﴿سبيلَ المجرمين﴾ أي:
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٥) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٥) من سورة الأنعام.
(٤) مضى عند تفسير الآية (٥٥) من سورة الأنعام.
أما نصيب اليتامى والمساكين فلا يعطى إلا لفقرائهم، فلا يُعْطَى يَتِيمٌ غنيٌّ ولا مسكين غني.
واليتيم من بني آدم: هو من مات أبوه (١). وغلط قوم فقالوا: اليتيم من الآدميين: من مات أبوه وأمه، قالوا: قال مجنون ليلى (٢):
إِلى اللهِ أشْكو فَقْدَ لَيْلَى كَمَا شَكَا إِلى اللهِ فَقْدَ الْوَالِدَيْنِ يَتِيمُ
فسمّاه يتيماً بفقد الوالدين. والصواب: فقد الأب وَحْدَهُ يَكْفِي في يُتْمِهِ.
وابن السبيل: هو المنقطع عن بلاده. والسبيل: الطريق. وإنما قال له: ابن السبيل كأنه يقول: ولد الطريق. وتسميته ولد الطريق فيه للعلماء وجهان:
أحدهما: أنه كثر سلوكه لها، والعرب إذا كثرت ملازمة الشيء للشيء قالوا ابنه، ومنه قول غيلان ذي الرمة (٣):
وردتُ اعتِسَافاً والثُّريا كأنَّها على قمةِ الرأسِ ابن ماء مُحَلَّقِ
فسمى طير الماء الملازم له: ابن الماء، فلما كان المسافر ملازماً للطريق قيل له: ابن الطريق.
وقال بعض العلماء: كأن الفلاة تمخّضت عنه كما تتمخّض النتوج عن ولدها فرمتنا به كما ترمي الحامل بما في بطنها. وهذا
_________
(١) تقدم عند تفسير الآية (١٥٢) من سورة الأنعام.
(٢) البيت في ديوانه ص١٨٨.
(٣) البيت في تاريخ دمشق (٢٤/ ٢٥٢).


الصفحة التالية
Icon