يونسُ بنُ مَتَّى. والمؤرخونَ لاَ يكادونَ يَصِلُونَ له نَسَبًا إلى محلِّه، وهو ابنُ مَتَّى كـ (حَتَّى) أُرْسِلَ لجماعةٍ فِي (نِينَوَى) من بلادِ الموصلِ، هكذا يقولونَ.
وقولُه: ﴿وَلُوطًا﴾ هو نَبِيُّ اللَّهِ لوطُ ابنُ أَخِي إبراهيمَ، وقد هَاجَرَ مَعَهُ من بلادِ العراقِ إلى بلادِ الشامِ، مُهَاجَرَ إبراهيمَ، كما قَالَ اللَّهُ جل وعلا: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ [العنكبوت: آية ٢٦] بعضُ المؤرخين يقولونَ: هَاجَرَ مَعَهُ (١)، وبعضُهم يقولُ: لم يُهَاجِرْ مَعَهُ. وَاسْتَدَلَّ بما ثَبَتَ في الصحيحِ أنَّ إبراهيمَ قال لِسَارَّةَ: ليس على وجهِ الأرضِ مسلمٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ (٢). وعلى كُلِّ حالٍ: اللَّهُ بَيَّنَ أَنَّ لُوطًا آمَنَ بإبراهيمَ.
والمعروفُ في التاريخِ أنه هَاجَرَ معه إلى الشامِ، ثم إن اللَّهَ أرسلَ لوطًا إلى قُرَى (سدوم)، كما هو معروفٌ.
﴿وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ وكلاًّ من أولئك الأنبياءِ فَضَّلْنَا على العالمين، عَالَمَيْ زَمَانِهِمْ (٣)، فلا يلزمُ من ذلك تفضيلُهم على مَنْ بَعْدَهُمْ كالنبيِّ - ﷺ -، فإنه أَفْضَلُهُمْ.
وكان بعضُ العلماءِ (٤) يقولُ: آيةُ الأنعامِ هذه مِمَّا اسْتَدَلَّ به العلماءُ على أن الأنبياءَ من الآدميين أفضلُ من الملائكةِ؛ لأَنَّ الملائكةَ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ: ﴿الْعَالَمِينَ﴾، بدليلِ قولِه: {قَالَ فِرْعَوْنُ
_________
(١) انظر: تاريخ الطبري (١/ ١٥٠)، البداية والنهاية (١/ ١٥٠).
(٢) مضى تخريجه عند تفسير الآية (٧٦) من سورة الأنعام.
(٣) انظر: ابن جرير (١١/ ٥١٢).
(٤) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٧٤).
بأن تفعلوه أو تتركوه، كما فسره بقوله: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ونظيره في كلام العرب قول الراجز (١):
حَجَّ وأوْصَى بِسُلَيْمَى الْأَعْبُدا | أَنْ لا تَرَى ولا تُكَلِّم أَحَدَا |
وهذا معنى قوله: ﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً، جرت العادة في القرآن أن الله يقرن بِرَّ الوالدين بتوحيده (جل وعلا) في عباداته كقوله هنا: ﴿أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ [الإسراء: آية ٢٣] ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان: آية ١٤] إلى غير ذلك من الآيات، ولا شك أن الله لم يجعل بِرَّ الوالدين مقروناً بتوحيده دائماً إلا لعظمة بر الوالدين، فإن بر الوالدين من أعظم الحسنات والقُرُبَاتِ عند الله، وعقوق الوالدين من أخْبَثِ الخبائث وأكبر الذنوب، فعلينا معاشر المسلمين أنَّ مَنْ كَانَ عنده إما والد أو والدة أن يتحمل أذاه ويبره ويحسن إليه، ويسارع في مرضاته الأيام القليلة من الدنيا، حتى يموت وهو عنه راض. واعلموا أن من أعطاه الله شائباً أو شائبة أباً أو أمّاً، فكأنه أعطاه وسيلة الجنة سهلة، ومن قَصَّر فيها فهو مُفَرِّط مُضَيِّع، مع أن عقوق الوالدين مع ما فيه من إسخاط الله وإغضاب خالق السماوات والأرض وسبب دخول النار، وفيه أيضاً القُبْح وعدم الإنسانية وخساسة فاعله.
فعلينا معاشر المسلمين أن نفهم هذا، وأن نعلم أن ربنا يجعل
_________
(١) وهو في ابن جرير (١٢/ ٢١٦).
إن لم يُؤْمَرُوا بالمعروفِ وَيُنْهَوْا عن المنكرِ وَيُضْرَبْ على أيديهم أنهم يُهلِكونَ الجميعَ، فيهلك الجميعُ بذنوبهم.
وفي الحديثِ الصحيحِ المشهورِ من حديثِ أُمِّ المؤمنينَ أُمِّ الحكمِ زينبَ بنتِ جحشٍ (رضي الله عنها): أنها لَمَّا سَمِعَتِ النبيَّ ﷺ يقولُ: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هَكَذَا». وعقدَ التسعينَ مثل هذا. أنها (رضي الله عنها) لَمَّا سَأَلَتْهُ فقالت: أَنَهْلِكُ وفينا الصالحونَ؟ قال: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» (١) فإذا انتشرت المعاصي وكثر الخَبَثُ ولم يُضرب على أيدي السفهاءِ أوشكَ اللهُ أن يعمهم بعذابٍ من عندِه؛ ولذا عَمَّ جميعَ مَنْ في الأرضِ بذنوبِ مَنْ كَذَّبُوا نوحًا عليه وعلى نبيِّنا الصلاةُ والسلامُ.
وَلَمَّا دعا عليهم نوحٌ قيلَ لنوحٍ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ [هود: آية ٤٠] الذي سَبَقَ عليه القولُ مِنْ أَهْلِهِ: زوجتُه الكافرةُ - قَبَّحَهَا اللَّهُ - وابنُه الكافرُ - والمؤرخونَ يزعمونَ أن اسمَه كَنْعَانُ - فلما رَكِبَ نوحٌ في السفينةِ، وَفَجَّرَ اللهُ عيونَ الأرضِ، وأنزلَ الماءَ من السماءِ فالتقَى الماءُ على أَمْرٍ قد قُدِرَ، أَهْلَكَهُمُ اللهُ بذلك الطوفانِ، ولم يُبْقِ منهم باقيةً. وفي قصتِهم: أن اللَّهَ (تبارك وتعالى) لو كان يرحمُ أحدًا منهم لَرَحِمَ امرأةً منهم في القصةِ؛ لأن عندَها ولدًا صغيرًا تُحِبُّهُ حُبًّا شديدًا، كانت كلما طلع الماءُ ارْتَفَعَتْ بالولدِ إلى الجبلِ، حتى صارت على رأسِ الجبلِ، فَطَمَّ الماءُ على الجبلِ، فكان الماءُ
_________
(١) البخاري في الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل للعرب... » حديث رقم (٧٠٥٩)، (١٣/ ١١)، ومسلم في الفتن وأشراط الساعة باب: اقتراب الفتن... حديث رقم: (٢٨٨٠)، (٤/ ٢٢٠٧).
وَالأَرْضِ} [آل عمران: آية ١٩١] هذا التفكر في خلق السماوات والأرض من ذكرك ربك في نفسك تضرعًا وخيفةً كما لا يخفى. وهذا معنى قوله: ﴿وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف: آية ٢٠٥].
ثم إن الله لما أمر عباده المؤمنين بهذه الآداب السماوية وهذه الأوامر الكريمة بَيَّنَ لهم أن ملائكته المقربين يطيعونه ويعبدونه ولا يستكبرون عن عبادته فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ﴾ [الأعراف: آية ٢٠٦] وهم ملائكته (جل وعلا) صلوات الله وسلامه عليهم: ﴿لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ لا يتكبرون عنها أبدًا، بل هم خاضعون مُتَذَلِّلُون عابدون لربهم (جل وعلا). وأصل العبادة في لغة العرب (١): معناها الذل والخضوع. فالعبادة: الذل والخضوع على وجه المحبة خاصة. وكل مُذلّل مُخضِّع تسميه العرب (مُعَبَّدًا) وقيل للعبد (عبد) لذله وخضوعه لسيده، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته (٢):
تُباري عِتَاقًا نَاجِيَاتٍ وأَتْبَعَتْ | وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مور مُعَبَّدِ |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٩) من هذه السورة.
(٢) السابق.
الجرحِ والتعديلِ عن أبي زرعةَ أنه وَثَّقَ عافيةَ بنَ أيوبَ هذا وقال: لاَ بأسَ به (١). وقال ابن الجوزيِّ في جَرْحِهِ وتعديلِه: لاَ أعلمُ فيه قادحًا ولا جرحًا (٢). فدعوى أنه من الكذابينَ ليس بصحيحٍ.
وَاحْتَجُّوا بآثارٍ من الصحابةِ كثيرةٍ؛ لأنه جاءت آثارٌ عن الصحابةِ أنهم لا يُخْرِجُونَ زكاةَ الْحُلِيِّ، وهو ثابتٌ عن عائشةَ (٣) وابنِ عمرَ (٤) وجماعةٍ من الصحابةِ (رضي الله عنهم) وَاحْتَجُّوا بالقياسِ، ومعلومٌ أن القياسَ يُسْتَعْمَلُ مع النصِّ إذا كان لتعضيدِ النصِّ لا لِيُخَالِفَهُ؛ لأن النصوصَ لاَ مانعَ من اعتضادِ بعضِها بعضًا، وقد تَقَرَّرَ في الأصولِ (٥) أن النصَّ الذي يُوَافِق (٦) [القياسَ مُقَدَّمٌ في حالِ الترجيحِ].
النوعُ الثانِي من القياسِ: وهو المعروفُ عندَهم بـ (قياسِ العكسِ)، وقياسُ العكسِ قال جماعةٌ من الأصوليينَ: يُحْتَجُّ به،
_________
(١) الجرح والتعديل (٧/ ٤٤).
(٢) قال ابن الجوزي في كتاب التحقيق (٢/ ٤٣)، وهو في «تنقيح التحقيق» (١٤٢١): «ما عرفنا أحدًا طعن فيه» اهـ.
(٣) أخرجه البيهقي في المعرفة (٣/ ٢٩٣)، وفي السنن الكبرى (٤/ ١٣٨).
(٤) أخرجه البيهقي في المعرفة (٣/ ٢٩٣)، وفي السنن الكبرى (٤/ ١٣٨).
(٥) انظر: شرح الكوكب المنير (٤/ ٦٩٥)، الأضواء (٢/ ٤٥٠).
(٦) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
قال في الأضواء (٢/ ٤٤٨): «وأما القياس فمن وجهين: الأول: أن الحلي لما كان لمجرد الاستعمال لا للتجارة والتنمية أُلحق بغيره من الأحجار النفيسة كاللؤلؤ والمرجان، بجامع أن كلاًّ مُعَدّ للاستعمال لا للتنمية. وقد أشار إلى هذا الإلحاق مالك - رحمه الله - في [الموطأ] بقوله: فأما الثبر والحلي المكسور الذي يريد أهله إصلاحه ولبسه فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله، فليس على أهله فيه زكاة. قال مالك: ليس في اللؤلؤ ولا في المسك والعنبر زكاة».