ثم قال: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ هؤلاء الرسلُ الكرامُ الذين هَدَاهُمُ اللَّهُ لَوْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ غيرَه، وَعَبَدُوا معَه غيرَه، كما كان أبو إبراهيمَ يُرَاوِدُ إبراهيمَ أن يَرْجِعَ لعبادةِ الأصنامِ، لو أَشْرَكُوا مع اللَّهِ غيرَه لَحَبِطَ عنهم ما كانوا يعملونَ، فَبَطَلَ جميعُ ما عَمِلُوهُ مِنَ الْخَيْرِ؛ لأَنَّ الشركَ كفرٌ يُبْطِلُ جميعَ الحسناتِ، كما قال تعالى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّنَا وغيرِه من الأنبياءِ في سورةِ الزمرِ: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: آية ٦٥]، وهذه الآيةُ الكريمةُ تَدُلُّ على أن الشركَ - والعياذُ بالله - مَحْبَطَةٌ للعملِ، وأنه يُبْطِلُ جميعَ أعمالِ الإنسانِ (١).
وَمِنْ هذه الآيةِ الكريمةِ أَخَذَ الإمامُ مالكُ بنُ أَنَسٍ (رحمه الله) فَرْعًا فِقْهِيًّا، قال: إن الرجلَ إذا ارْتَدَّ بَانَتْ منه زوجتُه (٢). تارةً يقولُ: بفسخٍ، وتارةً يقول: بطلقةٍ بَائِنَةٍ؛ لأَنَّ ذلك النكاحَ الذي عَمِلَ مِنْ عَمَلِهِ، وَقَدْ أَشْرَكَ، وَإِذَا أَشْرَكَ حَبِطَ جميعُ ما كانَ يعملُ، حتى مُعَاشَرَتُهُ؛ لأنه أَخَذَ تلك المؤمنةَ بكلمةِ اللَّهِ، وبكتابِ اللَّهِ (جل وعلا)، والشركُ يُحْبِطُ ذلك (٣).
وهنا بَحْثٌ أُصُولِيٌّ؛ لأن القاعدةَ المقررةَ في الأصولِ: أنه إذا جاءَ في كتابِ اللَّهِ نَصٌّ مُطْلَقٌ، ثم جَاءَ في موضعٍ آخَرَ مُقَيَّدًا، فالجماهيرُ على أنه يُحْمَلُ المطلقُ على الْمُقَيَّدِ (٤). وإحباطُ الشركِ
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٧، ٢٠٢).
(٢) المصدر السابق (٢/ ٦٧).
(٣) انظر: القرطبي (٣/ ٤٨)، (١٥/ ٢٧٧).
(٤) انظر: البحر المحيط للزركشي (٣/ ٤١٦)، أضواء البيان (١/ ١٩٦، ١٩٧، ٢٦٤، ٢٨١، ٢/ ٧، ٣٠، ١٢٧، ١٣٨)، وغير ذلك من المواضع.
وفيها نزلت: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ (١).
فالحاصل أن على المسلم أن يبر والديه ولا يعقهما، فبِرّ الوالدين من أعْظَمِ الذّخَائر عند الله، ومن أعظم أسباب دخول الجنة، وعقوق الوالدين من كِبَائِرِ الذنوب الموجبة لسخط الله ولدخول النار مع قُبْحِهَا في الدّنيا.
وقوله: ﴿إِحْسَاناً﴾ مصدر، قال بعض العلماء: منصوب بفعل محذوف ﴿أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً﴾ وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً (٢).
وقوله جل وعلا: ﴿وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ﴾ [الأنعام: آية ١٥١] قال هنا في سورة الأنعام: ﴿وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ﴾ وقال في سورة بني إسرائيل- وهي سورة الإسراء-: ﴿وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ [الإسراء: آية ٣١] قال بعض العلماء (٣): بين الآيتين فَرْق؛ لأن آية الأنعام تدل على أن الرجل يكون فقيراً في هذا الوقت ويقتل ولده للفقر الحاضر، وهو معنى قوله: ﴿وَلا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ﴾ أي: من أجل الإملاق، وهو الفقر الحاضر.
الثانية: أن يكون غير فقير، ولكنه يخاف الفقر في المستقبل،
_________
(١) صرح بذلك سفيان بن عيينة عقب رواية الحديث، كما عند البخاري في كتاب الأدب (١٠/ ٤١٣). وقد ورد ذلك صريحاً من طريق آخر لا تخلو من ضعف.
(٢) انظر: ابن جرير (١٢/ ٢١٥)، القرطبي (٧/ ١٣٢).
(٣) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٥١)، الدر المصون (٥/ ٢١٩)، أضواء البيان (٢/ ٢٧٨).
المفردِ فضمةُ (فُلْك) كضمةِ (قُفْل)، وإن أُطْلِقَ على الجمعِ فضمةُ (فُلُك) كضمةِ (كُتُب) و (رُسُل). هكذا يقولون.
وقد يجوزُ تذكيرُه وتأنيثُه، وإذا جاء في القرآنِ مجموعًا كان مؤنثًا دائمًا كقولِه في الفلكِ: ﴿لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾ ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ﴾ [النحل: آية ١٤] إلى غيرِ ذلك من التأنيثِ. وربما جَاءَ (الفلك) مذكرًا مفردًا في قولِه: ﴿فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس: آية ٤١] ولم يَقُلْ: (المشحونة) أي: الموقرِ بالناسِ. أي: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ﴾ [الأعراف: آية ٦٤] أي: في السفينةِ التي أُمِرَ بِنَجْرِهَا، وأن اللَّهَ وعدَه بأنه سَيُهْلِكُ قومَه بالغرقِ في الطوفانِ.
وهذا مِمَّا يدلُّ على أن الآدميين ينبغي لهم معرفةُ الصنائعِ، وأن لاَ يكونوا مُتَوَاكِلِينَ متكاسلين، فالصنائعُ وَالْحِرَفُ الصناعيةُ ينبغي للمجتمعِ أن يَتَعَلَّمُوهَا، ألا يرونَ أن النجارةَ هي من جملةِ الصنائعِ، وكثيرٌ من الناس يأنفُ عن أن يتعاطاها، مع أن مُعَلِّمَهَا الأولَ هو جبريلُ... - عليه السلامُ - وتلميذها الأول هو نوحٌ - عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ - كما في قولِه: ﴿اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ [هود: آية ٣٧] فَمُعَلِّمُهَا الأولُ جبريلُ، وتلميذُها الأولُ نوحٌ، ثم إنها هي السببُ في وجودِ الموجودين من بَنِي آدمَ على ظهرِ الأرضِ؛ لأَنَّ مَنْ لم يكن في تلك السفينةِ المصنوعةِ عن طريقِ النجارةِ لم يَبْقَ منهم أحدٌ، لم تَبْقَ منهم عينٌ تَطْرِفُ، بل ماتوا كلُّهم كما قال: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾ [العنكبوت: آية ١٥] وقال هنا: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ﴾ [الأعراف: آية ٦٤] وهذا يدلُّ على أنَّ الْحِرَفَ الصناعيةَ ينبغي للمجتمعِ الاهتمامُ بها؛ ولذا كان أَوَّلَ نجَّار في الأرضِ نوحٌ، وأول مُعلِّم للنجارةِ جبريل، وأول حدَّاد في الأرض هو
كانت المشيخة رِدْءًا لهم، وكان الشباب تلقّى العدو، وكان قوم يحرسون رسول الله ﷺ لما بُني له العريش يوم بدر. فلما هزم الله المشركين، وأخذ المسلمون غنائمهم، وقع خلاف ومشاجرة بين الصحابة، قال الذين أخذوا الغنيمة: نحن الذين احتويناها وحُزناها فليس لغيرنا نصيب فيها!
وقال المشيخة: نحن كنا رِدْءًا لكم فلو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلستم أحق منا!
وقال الآخرون: نحن ليس بنا جبن ولا بخل، وإنما خفنا أن ينال العدو غِرَّة من رسول الله ﷺ فكنا نُحدِق بنبي الله نحرسه من العدو، فلستم بأحق منا! فوقع هذا الخلاف والتنازع، وهذا سبب نزول هذه الآية الكريمة كما عليه جماهير العلماء، وحديث عبادة بن الصامت فيه (رضي الله عنه) عند أحمد وأصحاب السنن مشهور (١)، قال: فينا معاشر المسلمين نزلت، لما أخذنا غنائم بدر ساءت أخلاقنا وتنازعنا فأنزل الله الآية، وبيّن أن الأمر فيها إلى الله وإلى رسوله، ففعل فيها رسول الله ما أرضى الله، وما أصلح به ذات البين بين الجميع، وما حصل به تقوى الله، كما يأتي إيضاحه، وهذا القول -أنها نزلت في غنائم بدر جميعها- هو المعروف عند جماهير العلماء.
_________
(١) أحمد (٥/ ٣٢٤)، والحاكم (٢/ ١٣٥، ١٣٦، ٣٢٦). وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي، والبيهقي (٦/ ٢٩٢)، والواحدي في أسباب النزول ص٢٣٢، وابن جرير (١٣/ ٣٧٠، ٣٧١).
وقال الهيثمي في المجمع (٦/ ٩٢): «ورجال أحمد ثقات» اهـ وانظر أيضًا: (٧/ ٢٦) منه.
ومن الأحاديثِ الدالةِ على ذلك: ما رواه أبو داودَ والنسائيُّ من طريقِ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ - وَجَدُّهُ: هو عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ (رضي الله عنهما) - أن النبيَّ ﷺ دَخَلَتْ عليه امرأةٌ ومعها ابنتُها، وفي يدِ ابنتِها مَسَكَتَانِ غليظتانِ من ذهبٍ - يعني سِوَارَيْنِ من ذَهَبٍ - فقال لها: «أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا؟» فقالت: لاَ. فقال: «أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟!» فخلعتهما فقالت: هُمَا لِلَّهِ ولرسولِه (١).
_________
(١) أخرجه ابن أبي شيبة (٣/ ١٥٣)، وعبد الرزاق (٤/ ٨٥ - ٨٦)، وأحمد (٢/ ١٧٨)، وأبو عبيد في الأموال ص٣٩٧، وابن زنجويه في الأموال (٣/ ٩٧٣)، وأبو داود في الزكاة، باب: الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي. حديث رقم: (١٥٤٨) (٤/ ٤٢٥)، والترمذي في الزكاة، باب: ما جاء في زكاة الحلي. حديث رقم: (٦٣٧) (٣/ ٢٠ - ٢١) وعقبه بقوله: «وهذا حديث قد رواه المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب نحو هذا، والمثنى بن الصباح وابن لهيعة يُضَعَّفَانِ في الحديث. ولا يصح في هذا الباب عن النبي ﷺ شيء» اهـ. وقال ص٢٠: «وقد رُوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ أنه رأى في الحلي زكاة. وفي هذا الحديث مقال» اهـ. والنسائي في الصغرى، في الزكاة، باب: زكاة الحلي. حديث رقم: (٢٤٧٩، ٢٤٨٠) (٥/ ٣٨) وفي الكبرى، في الزكاة، باب: زكاة الحلي. حديث رقم: (٢٢٥٨، ٢٢٥٩) (٢/ ١٩). والبيهقي في الكبرى (٤/ ١٤٠)، وابن حزم في المحلى (٦/ ٧٨) وأشار لضعفه. (بعضهم يرويه مرسلاً وبعضهم موصولاً) وقد ذكر له ابن الجوزي في التحقيق أربع طرق، وقد أعلها ابن عبد الهادي في التنقيح (٢/ ١٤٢٥) جميعًا. وقال الحافظ في الدراية (١/ ٢٥٨): «صححه ابن القطان، وقال المنذري: لا علة له. قلت: أبدى له النسائي علة غير قادحة» اهـ. إلى أن قال: «وروى أحمد وابن أبي شيبة والترمذي من طريق المثنى بن الصباح وابن لهيعة وهما ضعيفان... » اهـ.. وانظر: نصب الراية (٢/ ٣٧٠ - ٣٧١)، وقال في الإرواء (٣/ ٢٩٦): «وإسناده إلى عمرو عند أبي داود والنسائي وأبي عبيد جيد» اهـ. وانظر: آداب الزفاف ص٢٥٦، صحيح أبي داود (١/ ٢٩١)، صحيح النسائي (٢/ ٥٢٣).