للأعمالِ جاءَ مُطْلَقًا في آياتٍ من كتابِ اللَّهِ، وجاءَ مُقَيَّدًا في آيةٍ أُخْرَى، فَمِنَ الآياتِ المطلقاتِ: قولُه هنا: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وقولُه: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: آية ٦٥] وقولُه: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: آية ٥] هذه الآياتُ تَدُلُّ على أن الكفرَ بِاللَّهِ يُحْبِطُ العملَ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ. وهذا إذا كان مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ. وقد بَيَّنَ في موضعٍ مِنْ سورةِ البقرةِ أَنَّ مَحَلَّ إحباطِ الإشراكِ والرجوعِ للكفرِ بعدَ الإيمانِ، محلُّ إحباطِه للعملِ ما إذا ماتَ على ذلك، حَيْثُ قَالَ: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ [البقرة: آية ٢١٧] فَقُيَدَّ بقولِه: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾.
وَذَهَبَ مالكٌ في جماعةٍ من العلماءِ إلى أن الآياتِ المطلقةَ هنا على بَابِهَا، قال: إذا ارْتَدَّ الإنسانُ حَبِطَ جميعُ عملِه، وَبَطَلَتْ حَجَّةُ الإسلامِ - إن كان حَجَّهَا - وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ. وإذا رَاجَعَ الإسلامَ ليس عليه قضاءُ فَائِتٍ مِنْ صَوْمٍ وَلاَ صَلاَةٍ؛ لأَنَّ جميعَ أعمالِه حَبَطَتْ.
وَذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ، منهم محمدُ بنُ إدريسَ الشافعيُّ (رحمه الله)، إلى أن الكفرَ بعدَ الإيمانِ، والإشراكَ بعدَ الإسلامِ لاَ يُحْبِطُ جميعَ عملِه إلا إذا مَاتَ على الكفرِ (١). بدليلِ القيدِ الذي في قولِه: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾.
وقولُ الشافعيِّ في هذه المسألةِ أجرى على الأصولِ؛ لأن المقررَ في الأصولِ: أنه إذا جَاءَ نَصٌّ من كتابِ اللَّهِ عَامًّا أو مُطْلَقًا،
_________
(١) انظر: القرطبي (٣/ ٤٨)، (١٥/ ٢٧٧).
فيقتله لئلا يفتقر في المستقبل، وهي قوله: ﴿وَلا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾.
وجماهير علماء العربية على أن (الإملاق) أصله مصدر: (أملق الرجل، يُملِق، إملاقاً) إذا كان فقيراً، قال بعض العلماء: واشتقاقه من (المَلَقَات) (١)، و (المَلَقات): الحجارة الضخام (٢)، وهو معروف [في كلام] (٣) العرب، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي (٤):

أُتيْحَ لَهَا أُقَيْدِر ذُو حَشِيفٍ إِذَا سَامَتْ عَلَى المَلَقَاتِ سَامَا
فكما يقولون: تَرِبَتْ يداه: لم يَبْقَ عنده إلا التراب، يقولون: أملق: لم يبق تحت يده إلا الجبال والصخور العظام التي لا يقدر أن يحصل منها شيئاً.
وقال بعض العلماء: كانت لغة لخم من قبائل قحطان أنهم يطلقون (الإملاق) على الجوع (٥).
وقال بعض العلماء: الإملاق يطلق على الإنفاق، تقول العرب: «أملق ماله». إذا أنفقه (٦)، قالوا: ومنه: (التَّمَلُّق) في
_________
(١) انظر: اللسان، (مادة: ملق) (٣/ ٥٢٧).
(٢) انظر: المصدر السابق.
(٣) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٤) البيت لصخر الغي الهذلي، وهو في اللسان (مادة: ملق) (٣/ ٥٢٧)، القرطبي (١٠/ ٢٥٢).
(٥) انظر: القرطبي (٧/ ١٣٢)، الدر المصون (٥/ ٢١٨)، أضواء البيان (٢/ ٢٧٨).
(٦) انظر: المصدر السابق.
داود - عليه السلام - كمَا قال الله له: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ [سبأ: الآيتان ١٠، ١١] والله يعلِّمه أصولَ الحدادةِ كقولِه: ﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ [سبأ: آية ١١] لأن قولَه: ﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ من أعظمِ تعاليمِ أصولِ الحدادةِ؛ لأَنَّ معنَى: ﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ السردُ في لغةِ العربِ (١): نسجُ الدرعِ، تُسَمِّيهِ العربُ سردًا وزردًا، وتسمي ناسجَ الدروعِ: سرَّادًا زَرَّادًا، ودرعٌ مسرودةٌ كما هو معروفٌ، ومنه قولُ أَبِي ذُؤَيْبٍ (٢):
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ
وقولُ الآخَرِ (٣):
نَقْرِيهِمُ لَهْذَمِيَّاتٍ نَقُدُّ بِهَا مَا كَانَ خَاطَ عَلَيْهِمْ كُلُّ زَرَّادِ
فمعنَى: ﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ [سبأ: آية ١١] أي: اجْعَلِ المساميرَ والحِلَقَ في نسجِ الدروعِ بأقدارٍ متناسبةٍ متلائمةٍ؛ لأن المسمارَ إن كان أكبرَ من الحلقةِ جِدًّا كَسَرَهَا، وإذا كان أصغرَ منها جِدًّا لم يَشُدَّهَا كما ينبغي، فإذا كانت المساميرُ والحِلَقُ بأقدارٍ متناسبةٍ كانت الدروعُ مشدودةً كما ينبغي، تردُّ وقعَ السلاحِ من السيوفِ والسهامِ. وهذا مِمَّا يدلُّ على أن الحِرَفَ الصناعيةَ لاَ ينبغي التكاسلُ فيها ولا عدمُ تعاطيها؛ لأن أولَ مَنْ تعاطاها الرسلُ الكرامُ - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم - وكانت آثارُها الكريمةُ ظاهرةً في المجتمعِ؛ لأن الموجودين في الدنيا كانوا مَوْجُودِينَ بفضلِ اللَّهِ ثم بسببِ تلك الصناعةِ التي هي
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: سرد) ص٤٠٦، القرطبي (١٤/ ٢٦٧).
(٢) البيت في القرطبي (١٤/ ٢٦٨).
(٣) البيت للقطامي، وهو في الكامل (١/ ٨٣)، أسرار البلاغة ص٤٠، ٤٥.
وفي سبب نزولها أربعة أقوال أُخر معروفة عند العلماء.
قال بعض العلماء: (... ) (١) خاصة دون بعض، والذين قالوا هذا القول استدلوا بحديث سعد بن أبي وقاص عند أحمد وغيره قال سعد: لما قُتِلَ أخي عمير يوم بدر -لأن عمير بن أبي وقاص من شهداء بدر كانوا يقولون: إنه قتله عمرو بن عبد ود (٢) فكان أخوه سعد (رضي الله عنه) أصابه من قتل أخيه أمر عظيم، وحمل على الكفار وقتل سعيد بن العاص، وأخذ سيفه، وكان يسمى (ذو الكتيفة) قال: فجئت به رسول الله ﷺ فقلت: أعطنيه يا رسول الله، فقال: «لَيْسَ لِي وَلاَ لَكَ فَاطْرَحْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ، وَاجْعَلْهُ فِي القَبَضِ» - يعني محل غنائم المسلمين- قال: فخرجت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سَلَبي. قال: ثم رجعت إليه فقلت: أعطنيه؟ فرفع لي صوته: «اطْرَحْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ»، إلى الثالثة، قال: فذهبت به فأنزل الله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ﴾ قال: فدعاني رسول الله ﷺ فقال: «إِنَّكَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَيْسَ لِي، وَالآنَ صَارَ لِي فَخُذْهُ» (٣). فأعطاه إياه.
فاستدلوا بهذا
_________
(١) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. والمراد: أنها نزلت في الشيء الخاص يُسأل من الغنيمة قبل أن تُقسم. انظر ابن جرير (١٣/ ٣٧١).
(٢) في البداية والنهاية (٣/ ٣٢٧) أن الذي قتله: العاص بن سعيد. وقال الحافظ في الإصابة (٣/ ٣٥): «يقال: وقتله عمرو بن عبد ود العامري الذي قتله علي يوم الخندق» اهـ وقال في آخر الترجمة (٣/ ٣٦): «وأخرج البغوي من طريق محمد بن عبد الله الثقفي عن سعد قال: لما كان يوم بدر قُتل أخي عمير، وقتلت أنا سعيد بن العاص، كذا فيه، والصواب: العاص بن سعيد بن العاص» اهـ.
(٣) الحديث أصله في مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، حديث رقم: (١٧٤٨) (٤/ ١٨٧٧)، وفي الجهاد والسير، باب الأنفال، حديث رقم: (١٧٤٨)، (٣/ ١٣٦٧). وهو في مسند الإمام أحمد (١/ ١٧٨، ١٨١، ١٨٦). وللتوسع في تخريجه راجع الطبعة المحققة من المسند (١٥٣٤، ١٥٦٧، ١٦١٤).
هذا الحديثُ أخرجَه أبو داودَ والنسائيُّ من طريقِ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ. والتحقيقُ أن روايةَ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ - مع ما فيها من الكلامِ - أنها يصحُّ الاحتجاجُ بها، وأنها ليست بضعيفةٍ. وقال الترمذيُّ في هذا الحديثِ: لم يَرِدْ من طريقٍ صحيحةٍ (١) وَذَكَرَهُ من طُرُقٍ كلُّها ضعيفةٌ، ولم يَطَّلِعْ على روايةِ حسينٍ الْمُعَلِّمِ له.
والتحقيقُ أنه جاء من روايةٍ أَقَلُّ درجاتِها الحسنُ، فلا شَكَّ في الاحتجاجِ بهذا الحديثِ من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، وهذا روي أيضًا عن غيرها. وقد أخرج أبو داودَ في سُنَنِهِ أيضًا عن أُمِّ سَلَمَةَ زوجِ النبيِّ ﷺ أنها كانت تَلْبَسُ أوضاحًا من ذَهَبٍ، فسألت رسولَ اللَّهِ فقالت: أَكَنْزٌ هو يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: «مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَأُدِّيَتْ زَكَاتُهُ لَيْسَ بِكَنْزٍ» (٢) فهذا يدلُّ على أن الأوضاحَ التي تَتَزَيَّنُ بها
_________
(١) سنن الترمذي (٣/ ٢٠، ٢١).
(٢) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي. حديث رقم: (١٥٤٩) (٤/ ٤٢٦) والدارقطني (٢/ ١٠٥)، والبيهقي في الكبرى (٤/ ١٤٠) وعقبه بقوله: «وهذا يتفرد به ثابت بن عجلان» اهـ. وفي الصغرى (١/ ٣٢٥ - ٣٢٦)، والحاكم (١/ ٣٩٠) وقال: «صحيح على شرط البخاري» اهـ. ووافقه الذهبي. وأخرجه الطوسي في مستخرجه على الترمذي (٣/ ٢٢٨) وقال: «هذا حديث حسن» اهـ. وذكره ابن حزم في المحلى (٦/ ٧٩) وعقبه بقوله: «عتاب مجهول» اهـ. وانظر: تنقيح التحقيق (٢/ ١٤٢٣، ١٤٢٦)، نصب الراية (٢/ ٣٧١). وقد حسن الألباني أحد طرقه في التعليق على المشكاة (١/ ٥٦٨)، وصحيح أبي داود (١/ ٢٩١).


الصفحة التالية
Icon