وجاء مُقَيَّدًا في موضعٍ آخَرَ، فَلَهُ عِنْدَ العلماءِ حالاتٌ (١): تارةً يكونُ الحكمُ والسببُ واحدًا، وتارةً يكونُ الحكمُ واحدًا دونَ السببِ، وتارةً يكونُ السببُ واحدًا دونَ الحكمِ، وتارةً لاَ يَتَّحِدُ حكمٌ وَلاَ سَبَبٌ.
فَإِذَا كان الحكمُ والسببُ مُتَّحِدَيْنِ فجمهورُ العلماءِ على أن المطلقَ يُحْمَلُ على الْمُقَيَّدِ، وأنه يُقَيَّدُ بِقَيْدِهِ؛ ولأجلِ هذا فقد جاءت في تحريمِ الدمِ أربعُ آياتٍ من كتابِ اللَّهِ، ثلاثٌ منها مُطْلَقَاتٌ، وواحدةٌ مُقَيَّدَةٌ:
أَمَّا المُطْلَقَاتُ: فقولُه في سورةِ النحلِ: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النحل: آية ١١٥] وقولُه في سورةِ البقرةِ: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: آية ١٧٣] وقولُه في سورةِ المائدةِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ [المائدة: آية ٣] فالدمُ في آيةِ النحلِ، وآيةِ البقرةِ، وآيةِ المائدةِ، مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدٍ.
وقد جَاءَ في سورةِ الأنعامِ هذه مُقَيَّدًا بالمسفوحيةِ، في قولِه: ﴿لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الأنعام: آية ١٤٥] وجماهيرُ العلماءِ على
_________
(١) في هذه المسألة راجع: البحر المحيط (٣/ ٤١٦)، شرح مختصر الروضة (٢/ ٦٣٥)، شرح الكوكب (٣/ ٣٩٥)، المذكرة في أصول الفقه ٢٣٢، نثر الورود (١/ ٣٢٣).
الكلام؛ لأن الإنسان يعطي باللسان ما ليس عنده في قلبه في الحقيقة.
والمشهور الذي عليه جمهور المفسرين وعلماء اللغة: أن (الإملاق) هنا هو الفقر (١)، وكان العرب يئدون بناتهم خوف أن يفتقروا فتجوع بناتهم؛ لأن جوع بناتهم قد يسبب لهن أن يزوجوهن من غير الأكفاء، وأن يقعن في معرات لا تليق، وقد يخافون عليهن من السبي، فكانوا يقتلوهن لهذا السبب!! يقولون: إذا جاعت ابنته اضطرت إلى أن تتزوج غير كفء، وكانوا يتشددون في مصاهرة غير الأكفاء، ويقتلون البنات خوفاً من هذا، وإذا خاف الرجل أن يفتقر وتبقى ابنته في جوع وبؤس، فإنها إذا كانت في جوع وبؤس قد تضطر إلى أن تتزوج غنيّاً ليس بكفء لها فيئدونهن.
وقد ذكرنا مراراً أن عقيل بن عُلَّفة المري لما خُطِبَت عنده ابنته الجرباء أنشد رجزه المشهور (٢):

إنِّي وَإِنْ سِيقَ إلَيَّ المَهْرُ عَبْدٌ وَأَلْفَانِ وَذَوْدٌ عَشْرُ
أَحَبُّ أَصْهَارِي إِليَّ الْقَبْرُ
وكانوا يقولون: إِنَّ الزَّوْجَ الذي يسترها ويكفي عارها تماماً إنما هو القبر، كما قال الشاعر وعنده ابنة تُسمى مودة (٣):
مودَّةُ تهوى عُمْرَ شيخٍ يسرُّه لها الموتُ قَبْلَ اللَّيْلِ لوْ أنَّها تَدْرِي
_________
(١) انظر ابن جرير (١٢/ ٢١٧)، القرطبي (٧/ ١٣٢)، الدر المصون (٥/ ٢١٨)، أضواء البيان (٢/ ٢٧٨).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٩) من سورة البقرة.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤٩) من سورة البقرة.
النِّجَارَةُ؛ لأن مَنْ لم يكن في تلك السفينةِ المصنوعةِ عن طريقِ حرفةِ النجارةِ كُلُّهُمْ هلكوا وماتوا من ذلك الطوفانِ، كما قال تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الأعراف: آية ٦٤] أي: الكفار الذين كذَّبوا نوحًا أَغْرَقْنَاهُمْ جميعًا بذلك الطوفانِ، كما قال تعالى: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (١٥)﴾ [العنكبوت: الآيتان ١٤ - ١٥] ولذا قال: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ [الأعراف: آية ٦٤] ﴿إِنَّهُمْ﴾: أي: الكفار الذين كَذَّبُوا نوحًا الذين أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بالإغراقِ بالطوفانِ: ﴿كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾. والعَمُونَ جمع الْعَمِيِّ، ووزنُ العميِّ: (فَعِل) أصلُه: (عميٌ) تطرفت الياءُ بعدَ الكسرِ فصارَ ناقصًا (١). والعميُّ هو أَعْمَى القلبِ، والعياذُ بالله.
وقراءةُ الحجةِ من القراءِ، منهم السبعةُ، بل والعشرةُ: ﴿قَوْمًا عَمِينَ﴾ جمع عَمِي، والعميُّ هو: الذي قَلْبُهُ أعمى لا يعرفُ الحقَّ، ولا يميزُ بينَ الشرِّ والخيرِ، ولا الباطلِ والحقِّ، ولا الحسنِ ولا القبيحِ.
أما قراءةُ «قومًا عامِين» على وزنِ (فاعل) فهي من القراءاتِ الشاذةِ (٢)، فلا تجوزُ القراءةُ بها. وإن كان المقررُ في علومِ العربيةِ أن الصفةَ المشبهةَ سواءً كانت على وزنِ (فَعِل) كما هنا في قولِه: ﴿عَمِينَ﴾ [الأعراف: آية ٦٤] أو وزنِ (فعيل) أو غيرهما إذا أُرِيدَ
_________
(١) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص١٩٤. وفيه: «أصله: (عميين) استُثْقِلت الكسرة على الياء فحُذِفت، فالتقى ساكنان فحُذِفت اللام» ا. هـ.
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ٣٥٨).
على أن الأنفال المسئول عنها: الشيء الخاص، كهذا السيف ينفله النبي ﷺ أو الإمام لبعض الناس.
وقال بعض العلماء: هي نزلت في خُمس الغنيمة (١).
وقال بعض العلماء: نزلت في خُمس الخمس خاصة.
كل هذا قال به جماعة من العلماء.
وقال عطاء وغيره (٢): نزلت فيما يشذُّ إلى المسلمين من الكافرين من غير قتال، كالفرس يأتي المسلمين من الكفار بلا قتال.
هذه الأقوال جاءت في سبب نزول هذه الآية الكريمة، والذي عليه جماهير المفسرين: أن نزولها في غنائم بدر كما بينّا، لما اختلف الصحابة فيهم، وقال قوم: لا نصيب فيها لغيرنا؛ لأنا نحن الذين احتويناها. وقال الآخرون: كنا رِدْءًا لكم فلو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلستم أحق منّا، وقال الآخرون: نحن كنا نشتغل بحراسة رسول الله ﷺ فلستم أحق منا. ولذا لما اختصموا هذا الخصام كأن الله لامهم وقال لهم: لا تصرف لكم فيها، فالأمر فيها إلى الله وإلى رسوله. فقسمها رسول الله ﷺ بينهم على السواء، وكان بعض العلماء يقول: إنه لما التقى الجيشان رغّب وقال: مَنْ أَسرَ أسيرًا فله
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٣٦٥).
(٢) المصدر السابق (١٣/ ٣٦٣).
من حُلِيِّهَا أن فيها الزكاةَ. ويعتضدُ هذا بحديثِ عائشةَ (رضي الله عنها) أن النبيَّ ﷺ دخل عليها وفي يدِها فَتَخَاتٌ من فضةٍ - والفتخاتُ: نوعٌ من الخواتمِ لا فصوصَ له، وقد يكونُ في أصابعِ اليدِ، وقد يُجْعَلُ في أصابعِ الرِّجْلِ- فقال: «مَا هَذِهِ؟» قالت: فقلتُ: شيءٌ صنعتُه لأَتَزَيَّنَ لكَ به! فقال: «أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهَا؟» قالت: لاَ، قال: «هُوَ حَسْبُكِ مِنَ النَّارِ» (١).
واستدلوا أيضًا بحديثِ أسماءَ بنتِ يزيدَ بنِ السكنِ قالت: دخلتُ على رسولِ اللَّهِ ﷺ أنا وخالتي، وعلينا أساورُ من ذهبٍ، فقال: «أَتُؤَدِّيَانِ زَكَاةَ هَذَا؟» فقلنا: لا. فقال: «أَدِّيَا زَكَاتَهُ، أَيَسُرُّكُمَا أَنْ تُسَوَّرَا بِهِمَا سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» (٢). فهذه أربعةٌ من
_________
(١) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي. حديث رقم: (١٥٥٠، ١٥٥١)، والدارقطني (٢/ ١٠٥) وقال: «محمد بن عطاء مجهول» اهـ. والبيهقي في الكبرى (٤/ ١٣٩ - ١٤٠)، وفي الصغرى (١/ ٣٢٦) وعقبه بقوله: «وهذا إسناد حسن» اهـ. والحاكم (١/ ٣٨٩) وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اهـ.. وابن زنجويه في الأموال (٣/ ٩٧٣ - ٩٧٤) وذكره ابن حزم في المحلى (٦/ ٧٩) وقال: «يحيى بن أيوب ضعيف» اهـ.
وقال الحافظ في التلخيص (٢/ ١٧٨): «وإسناده على شرط الصحيح» اهـ. وصححه الألباني في الإرواء (٣/ ٢٩٧)، صحيح أبي داود (١/ ٢٩١).
وانظر الكلام على الحديث في تنقيح التحقيق (٢/ ١٤٢٣، ١٤٢٧)، نصب الراية (٢/ ٣٧١).
(٢) أخرجه أحمد (٦/ ٤٦١)، والبيهقي (٤/ ١٤١). وقد أعله ابن عبد الهادي في التنقيح (٢/ ١٤٢٣، ١٤٢٦) بشهر بن حوشب، وعبد الله بن عثمان بن خثيم، وعلي بن عاصم. وقال الحافظ في الدراية (١/ ٢٥٩): «وفي إسناده مقال» اهـ. وانظر: نصب الراية (٢/ ٣٧٢).


الصفحة التالية
Icon