أن القيدَ بالمسفوحيةِ في الأنعامِ يُقَيَّدُ به إطلاقُ الآياتِ في النحلِ والبقرةِ والمائدةِ؛ وَلِذَا أطبقَ مَنْ يُعْتَدُّ به مِنَ العلماءِ على أن الْحُمْرَةَ التي تعلو الْقِدْرَ من أَثَرِ تقطيعِ اللحمِ أنها لا تُنَجِّسُهُ؛ لأن ذلك الدمَ غيرُ مسفوحٍ، خارجٌ بقيدِ المسفوحيةِ في قولِه: ﴿إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا﴾ [البقرة: آية ١٤٥] وهذا يدلُّ على أن العلماءَ يحملونَ المطلقَ على المقيدِ، ولو كان المقيدُ هو السابقَ نزولاً؛ لأَنَّ القيدَ في آيةِ الأنعامِ، وهي نازلةٌ قبلَ البقرةِ، وقبلَ المائدةِ، وقبلَ النحلِ. أما نزولُها قبلَ المائدةِ والبقرةِ فهو معروفٌ؛ لأن سورةَ الأنعامِ نازلةٌ قَبْلَ الهجرةِ بِلاَ خلافٍ، إلا آياتٍ معروفةً منها (١).
والمائدةُ والبقرةُ من القرآنِ الْمَدَنِيٍّ بالإجماعِ، نَزَلَتَا في المدينةِ بعدَ الهجرةِ، والمائدةُ مِنْ آخِرِ ما نَزَلَ، وفيها: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: آية ٣] بَقِيَتِ: النحلُ والأنعامُ، هما مكيتان على التحقيقِ، إلا أن القرآنَ دَلَّ في مَوْضِعَيْنِ على أن سورةَ الأنعامِ نازلةٌ قبلَ سورةِ النحلِ، وهي التي فيها القيدُ، والموضعانِ الذي دَلَّ القرآنُ فيهما على أن الأنعامَ نازلةٌ قبلَ النحلِ: أن اللَّهَ قال في سورةِ النحلِ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ [النحل: آية ١١٨] وهذا الْمُحَرَّمُ المحالُ، الْمَقْصُوصُ عليه من قبلُ، في سورةِ الأنعامِ بِلاَ خِلاَفٍ في قولِه: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا﴾ الآيةَ [الأنعام: آية ١٤٦].
الْمَوْضِعُ الثاني: أن اللَّهَ قال في سورةِ الأنعامِ: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: آية ١٤٨] فَبَيَّنَ أنهم سَيَقُولُونَ هذا
في المستقبلِ، وأنهم لم يَقُولُوهُ فِعْلاً. وَبَيَّنَ في سورةِ
_________
(١) انظر: القرطبي (٦/ ٣٨٢)، ابن كثير (٢/ ١٢٢)، مصاعد النظر (٢/ ١١٥).

يَخَافُ عليْهَا جَفْوَةَ النَّاسِ بَعْدَهُ وَلَا خَتَن يُرْجَى أَوَدّ مِنَ الْقَبْرِ
والخَتَن في اللغة: زوج البنت (١).
يعني: لا زوج للبنت يُرجى أرجى من القبر؛ لأنه يستر عارها، ويمنعها من تزويج غير الأكفاء، ومن الإهانات على زعمهم الفاسد.
ولما كان صخر أخو الخنساء كل عام يُقاسم الخنساء ماله، ويجعله شطرين، ويعطيها الشطر الأوفى، وقالت له امرأته: تقاسم مالك كل سنة مع الخنساء وزوجها مِتْلاَف سفيه يُضيع مالك، أنشد راجزاً (٢):
وَكَيْفَ لَا أَمْنَحُهَا خِيَارَهَا... وَهْيَ حَصَانٌ قَدْ كَفَتْنِي عَارَهَا...
ولو هلكتُ لَبِسَتْ إزارها
فعندهم الشهامة العربية والغيرة الكاملة على الحريم، إلا أن كل شيء إذا زاد عن قدره صار بلاء وخسيساً، فالأمور ينبغي أن لا تُزَادَ وَلَا تنقص عن حدودها.
فلا تَغْلُ في شيء من الأمر واقتصِد كِلاَ طَرفي قَصْدِ الأمورِ ذميم (٣)
فالغلو في الغيرة جرَّهُم إلى أن دفنوا بناتهم خوف أن يجوعوا وتجوع البنات فَيَضْطَرِرْنَ بذلك إلى الوقوع فيما لا ينبغي، أو إلى
_________
(١) انظر: المصباح المنير (مادة: ختن) ص (٦٣).
(٢) في الشعر والشعراء ص (٢٢٠) هكذا:
والله لا أُمْنَحُها شرارَها... ولو هَلَكتُ مَزَّقَتْ خِمَارَهَا...
وجَعَلَت من شَعَر صِدَارَها
وفي الإصابة (٤/ ٢٨٩):
والله لا أمنحُها شِرَارَهَا... وهي التي أَرْخَص عنى عارها...
ولو هلكتُ خرقَت خِمارَها واتَّخَذت من شَعَر صِدَارَهَا
(٣) البيت لمحمد بن مسلمة، وهو في الخزانة (١/ ٢٨١).
بها التجددُ والحدوثُ جاءت على وزنِ (فاعل) (١). هذا معنًى معروفٌ مُقَرَّرٌ في علومِ العربيةِ، كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، إلا أنه لا يجوزُ قراءةً هنا وإن كان سائغًا لغةً؛ لأن الصفةَ المشبهةَ إذا أُرِيدَ بها التجددُ والحدوثُ عُبِّرَ عنها بصيغةِ الفاعلِ، سواء كانت من (فَعيل)، أو من (فَعِل)، أو (فَيعِل) أو غيرِهما كما هو معروفٌ. فالعربُ مثلاً تقولُ: ضَاقَ صدرُه يضيقُ فهو ضيِّق. فالضيِّقُ صفةٌ مشبهةٌ من (ضاق) على وزنِ (فَيْعِل) فإذا أُرِيدَ به التجددُ والحدوثُ عُدِلَ عن (ضَيْق) وقيل: ضائق. ومنه قولُه تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ [هود: آية ١٢] لَمْ يَقُلْ: (ضَيِّق) لأنه أَرَادَ تجددَ الضيقِ وحدوثَه، وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ العكلي حيث قال (٢):
بِمَنْزِلَةٍ أَمَّا اللَّئِيمُ فَسَامِنٌ بِهَا وَكِرَامُ النَّاسِ بَادٍ شُحُوبُهَا
سَامِنٌ: أصلُه سَمِينٌ. صفةٌ مشبهةٌ. وَلَمَّا أرادَ به التجددَ والحدوثَ عَبَّرَ عنه بوزنِ (فاعل). ومنه على وزنِ (فعيل) قولُ لبيدِ بنِ ربيعةَ رضي اللَّهُ عنه (٣):
رَأَيْتُ التُّقَى وَالْجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ رَبَاحًا إِذَا مَا الْمَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلاَ
أصله: ثقيلٌ. صفةٌ مشبهةٌ من (ثَقُل) فهو ثقيلٌ، فلما أرادَ به
_________
(١) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٩٣).
(٢) البيت في البحر المحيط (٥/ ٢٠٧)، والدر المصون (٦/ ٢٩٤). وهو لأبي حزام غالب بن الحارث العكلي وقد عزاه أبو حيان لبعض اللصوص يصف السجن.
(٣) البيت في ديوانه ص١١٩.
كذا، ومن قتل قتيلاً فله كذا. فقال له بعض أصحابه: لو وفيت لهم بهذا لم يَبْقَ للآخرين شيء!! ووقع بعض الخصام (١).
وقال بعض العلماء: كان الخصام بسبب النفر الثمانية الذين قسم لهم رسول الله ﷺ في غنائم بدر ولم يشهدوا بدرًا. والحق أن هذا -وإن ذَكَرَهُ الأخباريون وأصحاب المغازي- أنه لم يُنْزل الخلاف، ومعروف عند أصحاب المغازي أن ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار ضرب لهم النبي ﷺ بسهامهم في مغانم بدر ولم يشهدوها (٢)، أما ثلاثة المهاجرين فهم: عثمان بن عفان (رضي الله عنه)؛ لأن النبي ﷺ لما خرج إلى بدر الكبرى كانت ابنته رقية (رضي الله عنها) مريضة، وكانت إذ ذاك زوجة عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، فأمره أن يبقى يمرضها، وتوفيت يوم مجيء زيد بن حارثة بالبشارة بما فتح الله على النبي ﷺ وأصحابه يوم بدر، فقسم له في المغنم. قال بعضهم: والأجر، والآخران من المهاجرين: طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، أرسلهما النبي ﷺ يتجسسان على عير أبي سفيان قبل وصولها لبدر إلى جهة الشام، ففاتت بدرٌ ولم يحضرا، فقسم لهما، وأما خمسة [الأنصار] (٣): فمنهم: أبو لبابة بن عبد المنذر كان النبي ﷺ خلّفه على المدينة، ومنهم
_________
(١) أخرجه عبد الرزاق من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. رقم: (٩٤٨٣) (٥/ ٢٣٩). وهذا الإسناد لا يصح. وقد عزاه في الدر (٣/ ١٦٠) لعبد بن حميد وابن مردويه. وهو عند ابن أبي شيبة في كتاب المغازي المفرد (١٢٨) ص١٧٨ مختصرًا دون ذكر قول بعض الصحابة هذا. ورجال إسناده ثقات.
(٢) انظر: البداية والنهاية (٣/ ٣٢٧).
(٣) في الأصل: «المهاجرين» وهو سبق لسان.
أصحابِ رسولِ اللَّهِ يَرْوُونَ عنه وجوبَ الزكاةِ في الحليِّ: ابنُ عمرِو بنِ العاصِ، وَأُمُّ سلمةَ، وعائشةُ، وأسماءُ بنتُ يزيدَ، وَعَضَّدُوا هذا أيضًا بالقياسِ. وَوَرَدَ فيه آثارٌ عن الصحابةِ أيضًا، كان عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ يأمرُ خازنَه أن يُخْرِجَ زكاةَ حُلِيِّ بناتِه (١).
واستدلوا بالقياسِ، قالوا: تجبُ الزكاةُ في الذهبِ والفضةِ في المصوغِ منهما كما جَازَتْ في المسكوكِ والمسبوكِ، بجامعِ أن الكلَّ أصلُه من ذهبٍ وفضةٍ، أصلُه من عَيْنٍ وَجَبَتْ فيها الزكاةُ.
واحتجوا بوضعِ اللغةِ، قالوا: إن أصلَ الْحُلِيِّ المصوغِ أصلُه يقال له ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، والصنعةُ لا تُذْهِبُ حكمَ الأصلِ، ولا تنقلُ اسمَه من كُلِّ الوجوهِ.
هذا حاصلُ ما احتجَّ به هؤلاءِ، وما احتجَّ به هؤلاء، ومعلومٌ أن العقولَ إذا ازْدَحَمَتْ في مثلِ هذا وتشابهتِ الأدلةُ أن النبيَّ ﷺ أَلْقَى على مثل هذا أنوارًا نبويةً وأضواءً عظيمةً من ضوءِ النبوةِ تُبَيِّنُ المخرجَ الصحيحَ منه، وهو قولُه صلى الله عليه وسلم: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ» (٢)،
_________
(١) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (٣/ ١٥٤)، وعبد الرزاق (٤/ ٨٤)، وأبو عبيد في الأموال ص٣٩٨، ٤٤٥، والدارقطني (٢/ ١٠٧)، والبيهقي في الكبرى (٤/ ١٣٩)، وابن زنجويه في الأموال (٣/ ٩٧٥). وانظر: نصب الراية (٢/ ٣٧٤).
(٢) أخرجه عبد الرزاق (٣/ ١١٧ - ١١٨)، والطيالسي ص١٦٣، والدارمي (٢/ ١٦١)، وأحمد (١/ ٢٠٠)، والترمذي في أبواب صفة القيامة، باب (٦٠). حديث رقم: (٢٥١٨) (٤/ ٦٦٨)، والنسائي في الأشربة، باب: الحث على ترك الشبهات. حديث رقم: (٥٧١١) (٨/ ٣٢٧) والحاكم (٢/ ١٣) (٤/ ٩٩)، وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» اهـ. وابن حبان (الإحسان ٢/ ٥٢)، والطبراني (٣/ ٧٥ - ٧٦)، وأبو نعيم في الحلية (٨/ ٢٦٤)، وأبو يعلى (١٢/ ١٣٢). من حديث الحسن بن علي (رضي الله عنهما). وصححه الألباني في الإرواء (٧/ ١٥٥)، غاية المرام ص١٣٠ - ١٣١، المشكاة (٢/ ٨٤٥)، صحيح الترمذي (٢/ ٣٠٩)، ظلال الجنة ص١٧٩.
وللحديث شاهد من حديث واثلة بن الأسقع (رضي الله عنه) عند أبي يعلى (١٣/ ٤٧٦)، والطبراني (٢٢/ ٧٨) وقال في المجمع (١٠/ ٢٩٤): «وفيه عبيد بن القاسم وهو متروك) اهـ. ومن حديث أنس (رضي الله عنه) (موقوفًا) عند أحمد (٣/ ١١٢، ١٥٣).
ومن حديث ابن عمر عند الطبراني في الصغير (١/ ١٠٢) وعقبه بقوله: «تفرد به عبد الله بن أبي رومان»
اهـ. قال الألباني في الإرواء (٧/ ١٥٦) وهو ضعيف، «وبقية رجاله ثقات» اهـ. وذكره الخطيب في التاريخ (٢/ ٢٢٠)، (٦/ ٣٨٦)، وأبو نعيم في الحلية (٦/ ٣٥٢). وقال الألباني في ضعيف الجامع (٢٩٧٤): موضوع.


الصفحة التالية
Icon