المُقَيَّدَانِ بِقَيْدَيْنِ مختلفين ليس أحدُهما أقربَ لِلْمُطْلَقِ، فَلاَ يُحْمَلُ على واحدٍ منهما. وإن كان أحدُهما أقربَ للمطلقِ، فَذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ إلى أَنَّ المطلقَ يُحْمَلُ إلى أقربِ المُقَيَّدَيْنِ له، وَيُقَيَّدُ بِقَيْدِهِ.
مثالُ ما إذا كان أحدُهما أقربَ: أن اللَّهَ (تبارك وتعالى) ذَكَرَ صومَ أيامِ اليمينِ، قال: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة: آية ٨٩] وأيامُ اليمينِ لَمْ يُقَيِّدْهَا بتتابعٍ ولا بتفريقٍ، مع أنه جَاءَ هنالك صومٌ مُقَيَّدٌ بالتتابعِ، وهو صومُ الظهارِ في قولِه: ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ [المجادلة: آية ٤] وَجَاءَ هناك صومٌ آخَرُ مُقَيَّدٌ بِالتَّفْرِيقِ، وهو صومُ التمتعِ؛ لأَنَّ اللَّهَ قَيَّدَهُ بالتفريقِ، حيث قال: ﴿فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ [البقرة: آية ١٩٦] فَقَيَّدَ صومَ الظهارِ بالتتابعِ، وَقَيَّدَ صومَ التمتعِ بالتفريقِ، وَأَطْلَقَ صومَ كفارةِ اليمينِ، لَمْ يُقَيِّدْهُ بِتَتَابُعٍ ولاَ بِتَفْرِيقٍ.
وقراءةُ ابنِ مسعودٍ: ﴿فصيام ثلاثة أيام متتابعات﴾ (١) لم تَثْبُتْ قُرْآنًا. وإذا لم يَأْتِ بها إلا على أنها قرآنٌ، وَبَطَلَ كونُها قُرْآنًا بَطَلَ الاحتجاجُ بها عندَ مَنْ يقولُ بذلك، خِلاَفًا لجماعةٍ آخَرِينَ (٢). قال بعضُ العلماءِ في هذه: نَحْمِلُ الإطلاقَ في كفارةِ اليمينِ على أَقْرَبِهُمَا لَهَا، والظهارُ أقربُ
_________
(١) انظر: تفسير ابن جرير (١٠/ ٥٥٩ - ٥٦٠).
(٢) في هذه المسألة راجع: المستصفى (١/ ١٠٢)، تفسير القرطبي (١/ ٤٧)، الفتاوى (١٣/ ٣٩٤، ٣٩٧)، (٢٠/ ٢٦٠)، البحر المحيط للزركشي (١/ ٤٧٥)، النشر (١/ ٥٣ - ٥٤)، شرح الكوكب المنير (٢/ ١٣، ١٣٦)، أضواء البيان (٥/ ٢٤٨)، المذكرة في أصول الفقه ٥٦، قواعد التفسير (١/ ٩٢).
والكثرة خَيْرٌ مِنَ القلة، والله (جل وعلا) بارئ لكل ذي نسمة شق فاها بارئ لها رزقها كما صَرَّحَ بقوله: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾ ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [هود: آية ٦] فهؤلاء شاركوهم في العلة وخالفوهم في الحكم، مع أن هناك بعض المقاربة.
فعلينا معاشر المؤمنين أن نعلم أولًا أن كُلَّ ما أراد الله أن يخلقه من النسمات لا بد أن يخلقه، ولو حاول الخلق ما حاول من تقليل النسل، ثم إن كل نَسَمَة خلقها الله فهو رازِقُها إلى أن تموت، وإلى أن تستكمل رزقها، وأن دَعْوَى تَحْدِيد النسل خوف الفقر أنها أذهان الكفار وأقوال الكفار وعقول الكفار التي لم تستضئ بضوء القرآن العظيم؛ لأن الله يقول يفند هذا الرأي: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [الأنعام: آية ١٥١] ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾ [الإسراء: آية ٣١]، فلا تضق أذهانكم يعني من الرزق، فالرزق عندنا كثير، ونحن سنرزق الجميع من خزائن رزقنا، ولذا لما أراد المنافقون أن يحاصروا أصحاب النبي - ﷺ - حصاراً اقتصاديّاً وقالوا: ﴿لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُّوا﴾ قال الله: ﴿وَلِلهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [المنافقون: آية ٧] أي: ومن كانت عنده خزائن السماوات والأرض لا يُضَيِّقُ رزق أحد شاء أن يرزقه، وهذا معنى قوله: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾.
الضالونَ، وأنه هو المهتدِي، والذي يَعِيبُكَ ويلمزُك بعيبٍ أنتَ تعلمُ أنه فيه هو، وأنك أنتَ بَرِيٌ منه هذا مما يستدِعي الغضبَ، والكلامَ الشديدَ، والردَّ العنيفَ، فَنَبِيُّ اللهِ نوحٌ لم يَقُلْ لهم شيئًا من ذلك، ولم يَرُدَّ عليهم رَدًّا عنيفًا، وإنما رَدَّ بأكرمِ العبارةِ، وألطفِ الردِّ، فقال: ﴿يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: آية ٦١] فلم يَقُلْ: أنتم هم الكفرةُ الفجرةُ الضُلاَّلُ، ولم يقذع فيهم بلسانِه، بل بالعباراتِ اللطيفةِ اللينةِ، وهذا تعليمٌ من اللهِ لخلقِه أن الداعيَ المتبعَ لآثارِ الرسلِ إذا قَابَلَهُ الجهلةُ ببذاءةِ اللسانِ وَعَابُوهُ وتكلموا له بالقبيحِ أنه لا يقابلهم إلا بالقولِ اللَّيِّنِ اللطيفِ، والحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، كما هي عادةُ الرسلِ في خطاباتِهم لأُمَمِهِمْ.
وقولُه: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ [الأعراف: آية ٦٥] واللهِ لقد أرسلنا إلى عادٍ أخاهم هودًا. عادٌ قبيلةٌ عظيمةٌ، والمؤرخونَ يقولونَ: إن عادًا ابنُ إرمَ بنِ عوص (١)، وهو من ذريةِ سامِ بنِ نوحٍ بلا خلافٍ بين المؤرخين. ويزعمونَ أن قبيلةَ عادٍ كانوا أعظمَ الناسِ أجسامًا. يزعمُ أهلُ القصصِ والأخبارِ أن أقصرَهم قامتُه ستونَ ذراعًا، وأن الواحدَ
_________
(١) عامة كتب التاريخ تذكر نسب عاد أنه ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وبعضهم يقول: عاد بن عوص بن سام بن نوح. ولم أقف على من قال بأنه ابن إرم بن عوص. ووقع في معجم البلدان لياقوت عند الكلام على (دمشق) و (إرم): «عاد بن إرم بن سام بن نوح». ولعل الذي وقع للشيخ (رحمه الله) هنا سبق لسان، خاصة أنه قال بعدها بأسطر في نسب هود (عليه السلام): «ابن إرم بن نوح» وقال عن عاد: «عاد بن إرم. وقيل: ابن عوص بن إرم» ا. هـ. وانظر: تاريخ ابن جرير (١/ ١١٠)، البداية والنهاية (١/ ١٢٠).
معروف وقد أجاب العلماء عنه بجوابين (١):
أحدهما: ما ذكره أبو عبيدة وعزاه القرطبي لجمهور العلماء أن آية ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لله وَالرَّسُولِ﴾ [الأنفال: الآية ١] منسوخة بآية ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شيء فَأَنَّ لله خُمُسَهُ﴾ الآية [الأنفال: الآية ٤١].
القول الثاني -وليس ببعيد-: أن معنى أنها لله: أنه هو المتصرف فيها، وأن نسبتها للرسول ﷺ من حيث أنه القاسم، الذي يقسمها على ما يرضي الله (جل وعلا)، فلا ينافي أن لهم حقوقًا فيها، كما قسمها ﷺ عليهمِ بالسواء، وسيأتي لهذا زيادة إيضاح كثيرة في تفسير قوله: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شيء فَأَنَّ لله خُمُسَهُ﴾ الآية [الأنفال: الآية ٤١] إن شاء الله، وهذا معنى قوله: ﴿قُلِ الأَنفَالُ لله وَالرَّسُولِ﴾.
﴿فَاتَّقُواْ اللَّهَ﴾ أي: اتقوا الله بامتثال أمره واجتناب نهيه، ولا تتخاصموا هذا الخصام بحضرة رسول الله ﷺ لعرض من الدنيا.
﴿فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾ معنى: ﴿ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾ أي: الأحوال الكائنة فيما بينكم مما يستوجب المحبة والوئام، وما يستوجب النُفرة والوحشة والفراق، هذه الأحوال التي تكون فيما بينكم أصلحوها لتكون جارية على ما ينبغي وعلى ما يرضي الله، وقد اشتهر في كلام العرب إطلاق (إصلاح ذات البين) على أن يصلح ما بين هذا وهذا من الأحوال حتى يكون الشيء الذي بينهما على الحالة التي تنبغي، خاليًا من النزاع والخصام والنفرة وغير ذلك.
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٣٨٠)، القرطبي (٨/ ٢)، الأضواء (٢/ ٣٤٥).
عروضِ التجارةِ. وهذا الحديثُ فيه مناقشاتٌ طويلةٌ عريضةٌ معروفةٌ يطولُ ذِكْرُهَا. وجميعُ هذه المسائلِ قد بَيَّنَّا مناقشاتِ العلماءِ فيها في الذهبِ والفضةِ، والتجاراتِ، والمعادنِ، والديونِ في كتابنا: (أضواء البيان) في الكلامِ على هذه الآيةِ الكريمةِ من سورةِ براءةٍ (١).
والحاصلُ: أنه جاء عن أبي ذَرٍّ وعن سَمُرَةَ بنِ جندبٍ الفزاريِّ (رضي الله عنه) كِلاَهُمَا جاء عنه حديثٌ يدلُّ على زكاةِ عروضِ التجارةِ، أما حديثُ أبي ذَرٍّ فقد ذَكَرْنَاهُ. وأما حديثُ سمرةَ بنِ جندبٍ الذي رَوَاهُ عنه أبو داودَ أن النبيَّ ﷺ كان يأمرُنا أن نُخْرِجَ الزكاةَ مِمَّا نُعِدُّ للبيعِ (٢).
وفي مناقشاتٍ طويلةٍ عريضةٍ، فَمِنْ مضعِّف
_________
(١) الأضواء (٢/ ٤٣٤) فما بعدها.
(٢) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة؟ حديث رقم: (١٥٤٧) (٤/ ٤٢٤)، والدارقطني (٢/ ١٢٧)، والبيهقي في الكبرى (٤/ ١٤٦ - ١٤٧)، والصغرى (١/ ٣٢٧)، والطبراني في الكبرى (٧/ ٢٥٣، ٢٥٧)، وذكره ابن حزم في المحلى (٥/ ٢٣٤) وقال: «أما حديث سمرة فساقط؛ لأن جميع رواته ما بين سليمان بن موسى وسمرة (رضي الله عنه) مجهولون لا يُعرف من هم» اهـ. وقال الهيثمي في المجمع (٣/ ٦٩): «في إسناده ضعف» اهـ. وقال الذهبي في الميزان (١/ ٤٠٨) عن سلسلة هذا الإسناد: «وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم» اهـ. وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (٢/ ١٤٣٥): «انفرد أبو داود بإخراج هذا الحديث وإسناده حسن غريب» اهـ. والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وحسنه ابن عبد البر، وضعفه الحافظ في التلخيص (٢/ ١٧٩)، والدراية (١/ ٢٦٠) والألباني في التعليق على المشكاة (١/ ٥٦٨)، ضعيف أبي داود ص١٥٤.
وانظر: بيان الوهم والإيهام (٥/ ١٣٩)، إتحاف المهرة (٦/ ٣٠)، تنقيح التحقيق (٢/ ١٤٣٥) التعليق المغني على الدارقطني (٢/ ١٢٧ - ١٢٨)، أضواء البيان (٢/ ٤٥٩ - ٤٦٠).


الصفحة التالية
Icon