مَذْكُورٍ (١). فَإِنْ يَكْفُرْ بالنبوةِ، كنبوةِ محمدٍ - ﷺ -، التي هي مِنْ جِنْسِ نبوتِهم، كما صَرَّحَ به فِي قولِه: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء: آية ١٦٣] وقال بعضُ العلماءِ: الضميرُ فِي ﴿بِهَا﴾ راجعٌ إلى المذكوراتِ الثلاثِ، وهي: النبوةُ والحكمُ والكتابُ (٢). ﴿آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ﴾
بالثلاثةِ ﴿هَؤُلاَءِ﴾ يعني: كفارَ مكةَ، الذين كَذَّبُوا النبيَّ - ﷺ - (٣). ولا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ أعطاهُ النبوةَ، وأعطاهُ الحكمَ، وأعطاهُ الكتابَ. فإن كَفَرُوا بنبوتِه وحكمِه وكتابِه: ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا﴾ أي: بالنبوةِ أو بالمذكوراتِ ﴿قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ كأن معنَى الآيةِ: يقولُ اللَّهُ: إِنْ كان هؤلاءِ تَمَرَّدُوا وَكَذَّبُوا رُسُلِي وَكَفَرُوا بِي وَلَمْ يَعْبُدُونِي فَلِي قومٌ آخَرُونَ غيرهم يَعْبُدُونَنِي وَيُوَحِّدُونَنِي كما ينبغي. وقولُه: ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا﴾ أي: وَفَّقْنَاهُمْ للإيمانِ بها. أي: بالنبوةِ. أو: النبوةِ والْحُكْمِ والكتابِ. ومعنىَ وَكَّلْنَاهُمْ بها: أي: وَفَّقْنَاهُمْ لَهَا، وَهَيَّأْنَاهُمْ لَهَا، حتى كانوا يقومونَ بها، ويحافظونَ عليها، كما يقومُ الوكيلُ بما أُسْنِدَ إليه. وهذا معنَى قولِه: ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ بل هم مؤمنونَ بها بقلوبِهم وألسنتِهم وجوارحِهم.
وهؤلاء القومُ المؤمنونَ- الذين هم لَيْسُوا بها بكافرينَ، الذين وَكَّلَهُمُ اللَّهُ بالإيمانِ بها- للعلماءِ فيهم أَوْجُهٌ مِنَ التفسيرِ، لا يُكَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا (٤).
_________
(١) انظر: ابن كثير (٢/ ١٥٥).
(٢) المصدر السابق.
(٣) انظر: ابن جرير (١١/ ٥١٥)، ابن كثير (٢/ ١٥٥).
(٤) انظر: ابن جرير (١١/ ٥١٥ - ٥١٨).
لا عقوقهما بالتسبب في ذمِّهِما، وقد ثبت في الحديث المتفق عليه عن النبي - ﷺ - أنه قال: «إنَّ مِنَ العقوق شَتْمَ الرجل والِدَيْهِ». قالوا: يا رسول الله - ﷺ - وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: «نعم، يَسُبّ أبَا الرَّجُلِ فيسبّ أبَاهُ، ويسبّ أمه فيسُبّ أمَّهُ» (١) فهذا حديث صحيح لا مطعن فيه، صرح فيه النبي - ﷺ - بأن ذريعة السب: الشتم، وسب الوالدين حرام، فالذريعة إليه حرام، ومن أمثلة هذا النوع من الذريعة التي يجب سدها بالإجماع: أن يحفر الرجل بئراً في طريق المسلمين ويغطي وجهه بغطاء ليتردى فيه المار، فنفس حفر البئر ليس هلاكاً لمسلم ولا لماله، ولكنه ذريعة للترَدِّي الذي فيه الإهلاك.
فهذا النوع من الذريعة يجب سَدّه بإِجْمَاع المسلمين؛ لأنه يؤدي إلى محذور تأْدِيَة معلومة أو غالبة على الظن، فهذا يجب سَدّه؛ لأن الراتع حول الحمى يُوشِكُ أن يقع فيه، ومنه: القرب من أسباب الذنوب، فإنه يكون ذريعة للوقوع فيها.
أما الذريعة التي أجمع العلماء على أنها لا يجب سدها، وأنها تُلغى وتُهدر: هي أن تكون الذريعة إلى المفسدة تُعارضها مصلحة عظمى أكبر منها، فإن المصالح العظام الكبار تُقدم على المفاسد الصغيرة، وتحرير هذا المقام: أنه إن تعارضت مفسدة أو مصلحة، فإن كانت المفسدة أكبر حُرِّم الفعل إجماعاً؛ لأن مفسدة سب الله أكبر من مصلحة سب الأصنام، وإن كانتا متساويتين وجب إلغاء المصلحة إجماعاً، أما إن كانت المصلحة راجِحَة هي أكبر وأرجح، والمفسدة صغيرة مرجوحة، ففي هذا تُلغى المفسدة، ويُلغَى سَدّ الذَّرِيعَة إليها؛
_________
(١) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (١٠٨) من سورة الأنعام.
مِنْ قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)} [الزخرف: آية ٤٥] فإخلاصُ العبادةِ لخالقِ السماواتِ والأرضِ هو دعوةُ الرسلِ التي جاؤوا بها كُلُّهُمْ عليهم صلواتُ اللهِ وسلامُه؛ ولذا أَمَرَ نبيَّنا ﷺ في سورةِ الأنبياءِ أن يقولَ: إنه لم يُوح إليه شيءٌ إلا عبادة اللهِ وحدَه، وإفرادُه بالعبادةِ في قولِه: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [الأنبياء: آية ١٠٨] و (إنما) مِنْ صِيَغِ الحصرِ كما هو مقررٌ في المعانِي في مبحثِ القصرِ (١)،
وفي الأصولِ في مبحثِ العامِّ (٢)؛ لأن كلمةَ (لا إله إلا الله) هي التي قامت عليها السماواتُ والأرضُ، وهي المتضمنةُ توحيدَ العبادةِ بنفيها وإثباتها، فَنَفْيُهَا يتضمنُ: خلعَ جميعِ أنواعِ المعبوداتِ غيرَ اللهِ في جميعِ العباداتِ، وإثباتُها يتضمنُ: إفرادَه - جل وعلا - بالعبادةِ دونَ غيرِه، وهذا معنَى قولِهم: (لاَ إِلَهَ) نَفْيٌ (إِلاَّ اللَّهُ) إِثْبَاتٌ.
وهذه الكلمةُ الشريفةُ التي قامت عليها السماواتُ والأرضُ، وَخُلِقَتْ من أجلها الجنةُ والنارُ، وهي التي جاء بها جميعُ الرسلِ - صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم - وَلِذَا قال: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: آية ٦٥] قد بَيَّنَّا معنَى هذه الجملةِ والقراءاتِ فيها في قضيةِ نوحٍ (٣)، ومعنَى الكلمتين واحدٌ لا فَرْقَ بينَهما. ﴿مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ إلا أن نوحًا قال لقومِه: ﴿إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: آية ٥٩] وهودًا قال لقومِه: ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: آية ٦٥] يعني:
_________
(١) انظر: الإيضاح للقزويني ص١٢٥..
(٢) انظر: شرح الكوكب المنير (٣/ ٥١٥)، وهي تُذْكَرُ عادةً في كتب الأصول في الكلام على المفاهيم.
(٣) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (٥٩) من سورة الأعراف.
إعظامًا لله (جل وعلا) وإجلالاً له، وخوفًا من بأسه وبَطْشِهِ، فالمُؤْمِنُ الحَقِيقِيُّ إذا سَمِعَ ذكر الله وجل قَلْبُهُ، أي: خَافَ قَلْبُهُ استعظامًا لرب العالمين، وإجلالاً له، وخوفًا من عقابه، وهذا معنى قوله: ﴿إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ والعرب تقول: وَجِلَ من الأمر، يَوجَل، وجلاً: إذا خاف منه، ومنه قول إبراهيم للملائكة لما لم يرَ أيديهم تصل إلى العجل الذي قربه إليهم: ﴿قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣)﴾ [الحجر: الآيتان ٥٢، ٥٣] فالوجل الخوف.
﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ﴾ (١) أي: قُرئت عليهم آياته، والياء في ﴿تُلِيَتْ﴾ أصلها مُبدلة من واو؛ لأن مادة التلاوة من الناقص الذي لامه واو (٢)، وأصل التلاوة مصدر سيال، والعرب تقول: تلاه يتلوه: إذا تبعه، تقول العرب: هذا يتلو هذا؛ أي: يتبعه، ومنه قيل للجمل الذي يتبع النوق لضرابها: (التالي)؛ لأنه يتبع إناث الإبل كما هو معروف، ومنه قول غيلان ذي الرمة (٣):

إذا الجَافِر التالي تَنَاسَيْنَ عهده وعارضْنَ أنفاسَ الرياحِ الجَنَائِبِ
وإنما قيل للقراءة (تلاوة) لأن القراءة مصدر سيال لا بد من حرف يتلوه حرف، يتلوه حرف، يتلوه حرف، حتى يتجمع من هذا المتلو: المقروء ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ﴾ أي: قُرئت عليهم آياته ﴿زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ أي: تصديقًا بالله إلى تصديقهم، وإيمانًا إلى إيمانهم.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥١) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٣٣٩.
(٣) مضى عند تفسير الآية (١٥١) من سورة الأنعام.
الواجبِ فيها، فَذَهَبَ مالكٌ والشافعيُّ أنه: لا يَجِبُ في زكاةِ المعادنِ إلا في معدنِ الذهبِ والفضةِ خاصةً؛ لأن الذهبَ والفضةَ من [الأصناف التي فيها] (١) الزكاةُ، وجمهورُ العلماءِ منهم مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ على أن زكاةَ المعدنِ ربعُ العشرِ، وفي مذهبِ مالكٍ والشافعيِّ: أن المعدنَ إذا كان معدنَ ذهبٍ أو فضةٍ كل ما يخرج منه من ذهبٍ وفضةٍ أُدِّيَتْ منه زكاتُه حالاًّ ولم يُنتظر به الحولَ، وهي ربعُ العشرِ، ولا زكاةَ عندهما في معدنٍ إلا إذا كان ذَهَبًا أو فضةً. وكان الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ (رحمه الله) يقولُ: تجبُ الزكاةُ في جميعِ المعادنِ، سواء كانت من الذهبِ والفضةِ، أو من الحديدِ والنحاسِ والرصاصِ أو الزجاجِ والزرنيخِ وسائر المعادن، حتى المعادن السائلة كالقارِ والنفطِ فإنها تجبُ فيها الزكاةُ عندَه، فزكاتُها عندَه ربعُ العشرِ.
أما الإمامُ أبو حنيفةَ (رحمه الله) فإن الواجبَ عندَه من المعادنِ الْخُمْسُ؛ لأنه يرى الخُمسَ من الركازِ، وقد جاء في ذلك حديثٍ أنه ﷺ سُئِلَ عن الركازِ؟ [٦/ب] / وأنه قال: «الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الْمَخْلُوقَانِ فِي الأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» (٢)، وهذا الحديثُ لاَ يَصِحُّ.
_________
(١) في الأصل: من الذين فيهما الزكاة.
(٢) أصل الحديث (وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «في الركاز الخُمس») متفق عليه، والزيادة المذكورة عند البيهقي في الكبرى (٤/ ١٥٢) وعقبه بقوله: «تفرد به عبد الله بن سعيد المقبري وهو ضعيف جِدًّا جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وجماعة من أئمة الحديث. وقال الشافعي: في رواية أبي عبد الرحمن الشافعي البغدادي عنه: قد روى أبو سلمة وسعيد وابن سيرين ومحمد بن زياد وغيرهم عن أبي هريرة حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «في الركاز الخُمس» ولم يذكر أحد منهم شيئًا من الذي ذكر المقبري في حديثه، والذي روى ذلك شيخ ضعيف إنما رواه عبد الله بن سعيد المقبري، وعبد الله قد اتقى الناس حديثه فلا يُجعل خبر رجل قد اتقى الناس حديثه حجة» اهـ. وأخرجه أبو يعلى (٦٦٠٩) بنحوه. وذكره الهيثمي في المجمع (٣/ ٧٨) وقال: «فيه عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد وهو ضعيف» اهـ وذكره ابن عدي في الكامل (٢/ ٨٣٣) وقال: «هذا الحديث أخطأ إبراهيم بن راشد على الدولابي... والبلاء في هذا الحديث من إبراهيم بن راشد لا من الدولابي ولا من ابن حبان» اهـ. وذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (٢/ ٩) بلفظ أبي يعلى وقال: «قال الدارقطني: هذا وهم؛ لأن هذا ليس من حديث الأعمش ولا من حديث أبي صالح، إنما يرويه رجل مجهول عن آخر عن أبي هريرة» اهـ. وانظر: تلخيص الحبير (٢/ ١٨٢)، نصب الراية (٢/ ٣٨٠).


الصفحة التالية
Icon