أظهرُها: أَنَّهُمْ الأنبياءُ المذكورونَ. يعنِي: إِنْ كَفَرَ هؤلاءِ الكفرةُ، وَكَفَرُوا بالنبوةِ فَلَنَا مِنْ صفوةِ خَلْقِنَا أناسٌ طَيِّبُونَ يؤمنونَ كَمَا يَنْبَغِي، وَيُعَظِّمُونَ اللَّهَ كما ينبغي، تظهرُ بإيمانِهم حكمةُ اللَّهِ في خَلْقِهِ الْخَلْقَ؛ لِيَعْبُدُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ. وعلى هذا فالقومُ في قولِه: ﴿قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ الأنبياءُ المذكورونَ. وَيَدُلُّ عليه: أنه قَالَ بعدَه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: آية ٩٠].
وقال بعضُ العلماءِ: المرادُ بهؤلاءِ القومِ الذين وُكِّلُوا بها، وليسوا بها بكافرينَ: المؤمنونَ من المهاجرينَ والأنصارِ، حيث تَلَقَّوْهُ بالإيمانِ والعملِ الصالحِ.
وقال بعضُ العلماءِ: هي تشملُ كُلَّ مُؤْمِنٍ آمَنَ بِاللَّهِ (جل وعلا). وعليه فَالْمَعْنَى: إِنْ كَفَرَ بعضُ خَلْقِي وَتَمَرَّدُوا وَكَذَّبُوا رُسُلِي فَلِي بَعْضٌ آخَرُ من الناسِ الطيبين وَفَّقْتُهُمْ للعملِ والإيمانِ، يحصلُ بهم غرضُ التشريعِ، وَخَلْقُ الْخَلْقِ؛ لأَنَّ الغرضَ الأكبرَ من خلقِ الناسِ: أن يَعْبُدُوا رَبَّهُمْ (جل وعلا)، وَيُحْسِنُوا العملَ له، كما قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: آية ٥٦] فهؤلاءِ الطيبونَ تَحْصُلُ بهم الحكمةُ المرادةُ في قولِه: ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ ويحسنونَ العملَ لِلَّهِ، فيحصلُ بهم المعنَى المرادُ في قولِه: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [هود: آية ٧]، وهذا معنَى قولِه: ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾.
[٩/أ] / ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: آية ٩٠].
تقديماً لِلْمَصْلَحَةِ الكبرى، ومِنْ أمْثِلَةِ هذا النوع الذي لا يجب سده؛ لأن المصلحة فيه أعظم من المفسدة: غَرْسُ أشجار العِنَبِ، فإن غرس شَجَرِ العِنَب ذريعة إلى عصر الخمر منه، وهي أم الخبائث -قبحها الله- إلا أن هذه المفسدة أرجح منها عموم جميع الخلق بالزَّبِيب والعنب في أقطار الدنيا.

وانظر تَدلِّي دوَالي العِنَبِ فِي كُلِّ مَشْرِقٍ وَكُلِّ مَغْرِبِ (١)
لأن العنب والزبيب منفعتان ينتفع بهما جميع الناس، وعصر الخمر من العنب إنما يفعله أفراد قليلة، فذلك الضرر القليل يُلغَى في جنب تلك المصلحة العامة العظمى، ومن أمثلة هذا النوع مِنَ الذَّرَائِعِ الذي أجمع العلماء على أن سَدَّهُ لا يجب؛ لأن المصلحة أرْجَحُ من المفسدة: مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد؛ لأن مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد بأن تكون هذه الدُّور متجاورة، هذه الدار فيها هذا الرجل وبناته وزوجاته وأخواته، وجاره الذي بجنبه معه أيضاً بناته وزوجاته وأخواته؛ لأن المعاونة بين الرجال والنساء مصلحة عامة لا يستغني عنها العالم، فإن المرأة تقوم بشؤون خدمات البيت في خدرها وبيتها، فترضع الرضيع من الأولاد، وتحنو على الفطيم، وتُؤَانِسُ المَرِيضَ، وتقوم على شؤون البيت، وتكنس، وتعجن، وتخبز، فيأتي الرجل من عمله، أو من جهاده فيجد قرينه الآخر الكريم -الذي هو امرأته- قام له بجميع مصالح الدنيا، فهم محتاجون إلى هذا التعاون والاجتماع، مع أن اجتماع الرجال والنساء في البلد الواحد قد يكون ذريعة إلى وقوع الزنا من بعض الأفراد؛
_________
(١) هذا البيت من منظومة مراقي السعود، وهو في المتن ص (١٥٦).
أتكفرونَ بالله فلا تَتَّقُونَهُ، فلا تتخذونَ بينَكم وبينَه وقايةً تَقِيكُمْ من سخطِه وعذابِه، هي امتثالُ أمرِه واجتنابُ نَهْيِهِ. وكان رَدُّ الكفارِ مُتَشَابِهًا لِتَشَابُهِ قلوبِهم في الكفرِ، كما قال تعالى: ﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [البقرة: آية ١١٨] فقومُ نوحٍ قالوا له: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ﴾ [الأعراف: آية ٦٠] وقوم هود قالوا له: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾ [الأعراف: آية ٦٦] والسفاهةُ: (فَعَالة) من السَّفَهِ، وأصلُ السفهِ في لغةِ العربِ هو: الخفةُ والطيشُ، فكلُّ شيءٍ خفيف طائش تُسَمِّيهِ العربُ سفهًا (١). وتقولُ العربُ: تَسَفَّهَتِ الريحُ الريشةَ إذا اسْتَخَفَّتْهَا فطارت بها كُلَّ مَطَارٍ. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (٢):
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّواسِمِ
معنَى (تسفهت أعاليها) أي: اسْتَخَفَّتْهَا فَهَزَّتْهَا. هذا أصلُ معنَى السَّفَهِ في لغةِ العربِ.
وهو في الاصطلاحِ المشهورِ: هي خفةُ العقلِ وطيشُ الْحِلْمِ، بحيث يكونُ السفيهُ لا يهتدي إلى مصالِحه، ولا يعرفُ مضارَّه من مصالِحه، لا يميزُ بينَ الضارِّ والنافعِ، ولا الحسنِ ولاَ القبيحِ لِخِفَّةِ عقلِه وطيشِه وعدمِ رجاحتِه (٣)؛ ولذا كان السفيهُ يجبُ التحجيرُ عليه، وجَعْلُ مالِه تحتَ يَدَيْ وَلِيٍّ يحفظُ له مالَه؛ لأن عقلَه الطائشَ وَحِلْمَهُ الخفيفَ يجعلُه يُضَيِّعُ مالَه.
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: سفه) ص٤١٤.
(٢) البيت لذي الرمة. وهو في القرطبي (١/ ٢٠٥)، (٧/ ٢٣٦).
(٣) انظر: الكليات (٣٤٩، ٥١٠)، القاموس الفقهي ص١٧٣ - ١٧٤.
وهذه الآية وأمثالها في القرآن نصوص صريحة على أن الإيمان يزيد كما أنه ينقص (١)؛ لأن الآيات الدالة على أن الإيمان يزيد متعددة في كتاب الله، كقوله هنا: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ وقوله: ﴿فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾ إلى قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة: الآية ١٢٤] ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: الآية ٤] ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ [المدثر: الآية ٣١] ونحو ذلك من الآيات، وهذه الآيات المصرحة بزيادة الإيمان تدل بدلالة الالتزام على أن الإيمان ينقص بنقص الأعمال، وقد جاء مصرحًا بذلك من النبيّ ﷺ في أحاديث الشفاعة المتواترة: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ» (٢)
ونحو ذلك من الآيات، فالذي ليس في قلبه إلا وزن حبة أو شعيرة من إيمان فلا شك أن إيمانه ناقص، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بزيادة الأعمال الصالحة، وينقص بنقصانها، كما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقول المتكلمين:
_________
(١) انظر: الإيمان لأبي عبيد ص٢٤، الإيمان للعدني ص٩٤، الإيمان لابن منده (١/ ٣٤٥)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (٥/ ٨٩٠)، الشريعة للآجري ص١١١، أصول السنة لابن أبي زمنين (رياض الجنة ص٢١١)، تعظيم قدر الصلاة (١/ ٣٥٦) الإيمان لابن تيمية ص٢١١، تفسير ابن كثير (٢/ ٢٨٥، ٤٠٢)، (٣/ ٧٤)، شرح الطحاوية ص٤٦٦، زيادة الإيمان ونقصانه لعبد الرزاق البدر، الأضواء (٢/ ٣٤٦).
(٢) البخاري في الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه. حديث رقم: (٤٤) (١/ ١٠٣) وأطرافه: (٤٤٧٦، ٦٥٦٥، ٧٤١٠، ٧٤٤٠، ٧٥٠٩، ٧٥١٠، ٧٥١٦). ومسلم في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث رقم: (١٩٣) (١/ ١٨٢)..
ولا تجبُ الزكاةُ في المعادنِ عندَ أبِي حنيفةَ إلا فيما ينطبعُ منها كالذهبِ والفضةِ والحديدِ والنحاسِ والرصاصِ، وما جرى مجرَى ذلك. ومن ذلك قولٌ له وَجْهٌ من النظرِ قالت به جماعاتٌ من العلماءِ: أن المعدنَ إذا كان في استخراجِه كُلْفَةٌ ونفقاتٌ أن زكاتَه ربعُ العشرِ، وإذا كان يَخْرُجُ بِلاَ كُلْفَةٍ ولا مَشَقَّةٍ أن زكاتَه الخمسُ.
وَأَجْمَعَ المسلمونَ على أن الركازَ فيه الخمسُ (١)، واشترط الشافعيُّ أن يكونَ الركازُ من ذهبٍ أو فضةٍ، وعامةُ العلماءِ على خِلاَفِهِ، والركازُ عند غيرِ أبِي حنيفةَ: دَفْنٌ جَاهِلِيٌّ، وعندَ أبِي حنيفةَ يشملُ جميعَ المعادنِ. هذه أقوالُ العلماءِ ذَكَرْنَاهَا مُخْتَصَرَةً، وقد أَوْضَحْنَاهَا في كتابِنا الذي أَشَرْنَا إليه.
_________
(١) انظر: المجموع (٦/ ٧٥)، القرطبي (٣/ ٣٢٢ - ٣٢٤)، المغني (٤/ ٢٣١ - ٢٣٨)، الموسوعة الفقهية (٢٣/ ٩٨)، أضواء البيان (٢/ ٤٦٩).


الصفحة التالية
Icon