﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ قَرَأَ هذا الحرفَ حمزةُ والكسائيُّ: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِ﴾ في الصلةِ بلا هاءٍ، وَقَرَأَهُ غيرُهما وغيرُ ابنِ عامرٍ: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ بهاءِ السَّكْتِ وَصْلاً وَوَقْفًا، وَقَرَأَهُ ابنُ عامرٍ من روايةِ هشامٍ: ﴿اقتدهِ﴾ بكسرةٍ مُخْتَلَسَةٍ، وَقَرَأَهُ ابنُ عامرٍ من روايةِ ابنِ ذَكْوَانَ: ﴿اقْتَدِهي﴾ بكسرةٍ مُشْبَعَةٍ.
فَتَحَصَّلَ أن القراءاتِ فيه متعددةٌ (١)، قراءةُ الجمهورِ: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه﴾ بهاءِ السكتِ الساكنةِ وَصْلاً وَوَقْفًا، وقرأه حمزةُ والكسائيُّ: ﴿اقْتَدِ﴾ بِلاَ هاءٍ في حالةِ الوصلِ. ﴿اقْتَدِهْ﴾ بالهاءِ فِي حالةِ الوقفِ، وقرأه ابنُ عامرٍ بهاءٍ مكسورةٍ تُخْتَلَسُ كسرتُها في روايةِ هشامٍ عنه، وتُشْبَعُ كسرتُها في روايةِ ابنِ ذكوانَ عنه.
هذه هي القراءاتُ: ﴿اقْتَدِ﴾ وَصْلاً ﴿اقْتَدِهْ﴾ وَقْفًا ﴿اقْتَدِه﴾ وَصْلاً وَوَقْفًا ﴿اقْتَدِهي﴾ وَصْلاً ﴿اقْتَدِهِ﴾ وَصْلاً، هذه قراءاتُ القراءِ السبعِ في هذا الحرفِ.
و ﴿اقْتَدِ﴾ معناه: فِعْلُ أَمْرٍ من الاقتداءِ، والاقتداءُ معناه: الائْتِسَاءُ والاتباعُ في العملِ. يقولُ العربُ: «اقْتَدَى بِهِ». إذا ائْتَسَى به وَتَبِعَهُ في عَمَلِهِ.
وقال قومٌ: إن قراءةَ ابنِ عامرٍ هنا ﴿اقْتَدِهِي﴾ ﴿اقْتَدِهِ﴾ زَعَمَ قومٌ أنها لَحْنٌ لاَ تجوزُ؛ لأن هاءَ السكتِ لا يجوزُ كَسْرُهُ (٢). وهذا غَلَطٌ؛ لأن قراءةَ ابنِ عامرٍ قراءةٌ صحيحةٌ متواترةٌ، والعلماءُ خَرَّجُوهَا على أن الهاءَ في قراءةِ ابنِ عامرٍ- في حرفِ هشامٍ وابنِ ذكوانَ - ليست هاءَ
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ١٩٨.
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ٣٦)
لأن الرجل يمر من الطريق فتلقي إليه المرأة من الطاقة ورقة فيها موعد يجتمعان فيه، أو يعلو إلى السطح وهي على سطح فيتسايران، كما قال نصر بن حجاج السلمي (١):
لَيْتَني في المُؤَذِّنِينَ نَهَارَا... إِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ مَنْ فِي السُّطُوحِِ...

فَيُشِيرُونَ أَوْ يُشَارُ إِلَيْهِمْ حَبَّذَا كُلُّ ذَاتِ دَلٍّ مَلِيحِ
فهذا قد يقع منه الوصول إلى الزنا من بعض الأفراد، إلا أن هذه المفسدة التي تنشأ من اجتماع الرجال والنساء في البلد الواحد قد تنشأ من أفراد قليلة، وهي مغمورة في المصلحة العامة بمعاونة الجنسين التعاون الكريم كما بَيَّنَّا؛ ولهذا لم يَقُلْ أحَدٌ من العلماء في جميع الدَّهْرِ: إنه يجب سد هذه الذريعة، فَيَجِبُ أن يُعْزَل جميع الإناث من القرية، وأن يُعْزَلَ جميع الذكور إلى جهة، وأن يكون جميع الإناث في حصن من الحديد عليه أبواب حديد قوية وأسلاك شائكة، لا يستطيع أحد خَرْقَهَا، وتكون المفاتيح في يد رجل شائب ذي زوجات معروف بالتقى والعفاف، لم يقل هذا أحد من العلماء! فهذه الذريعة أُلْغِيَتْ لهذه المصلحة التي هي أعظم منها.
أما الذَّرِيعة الوسطى التي اختلف فيها العلماء: فَكَبيوع الآجال المعْرُوفَة في عرف أصحاب مذهب مالك ببيوع الآجال، ويسميها الشافعيون والحنبليون: (بيوع العينة) فإن العلماء اختلفوا فيها (٢)، كأَنْ تَبِيعَ سلعة بعينها لرجل إلى أجل -كأن تبيع له السلعة بأجل إلى شَوَّال- ويكون الثمن عشرة مثلاً، ثم تشتري عين السلعة من ذلك
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٠٨) من هذه السورة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٠٨) من سورة الأنعام.
والعلماءُ مختلفونَ في السفهِ الذي يُحْجَرُ به على الرجلِ البالغِ ويُولَّى عليه في مالِه (١)، فكانَ مالكُ بنُ أنسٍ (رحمه الله) وعامةُ أصحابِه وَمَنْ وَافَقَهُ من العلماءِ يَرَوْنَ أن السفهَ الذي يُحْجَرُ به على السفيهِ في مالِه ويولَّى عليه غيرَه إنما هو السفهُ في خصوصِ المالِ، بحيث يكونُ طيشُ عقلِه وخفةُ حِلْمِهِ في نفسِ التصرفِ الماليِّ، بحيث يضيعُ عن المعاملاتِ، ولا يُحْسِنُ حفظَه ولا التصرفَ فيه. فَمَنْ كان عندَ مالكٍ يحسنُ التصرفَ في المالِ ويحفظُه وَلاَ يُخْدَعُ، بل هو عارفٌ بوجوهِ التصرفاتِ وحفظِ المالِ فمالُه يُدْفَعُ إليه عندَ مالكٍ وأصحابِه، ولا يُسَمَّى سَفِيهًا، ولو كان سِكِّيرًا شِرِّيبًا للخمرِ، مُرْتَكِبًا للمعاصي:
وَشَارِبُ الْخَمْرِ إِذَا مَا ثَمَّرا لِمَا يَلِي مِنْ مَالِهِ لَمْ يُحْجَرَا (٢)
هذا مذهبُ مالكٍ وأصحابِه. وذهبَ الشافعيُّ في جماعةٍ من العلماءِ إلى أن مَنْ كان يتعاطى المعاصيَ كالشِّرِّيبِ السِّكِّيرِ الذي يشربُ الخمرَ، ويتعاطى المعاصيَ أنه سفيهٌ لاَ يُمكَّنُ من مالِه أبدًا حتى تصلحَ حالُه الدينيةُ مع حالِه الدنيويةِ. قال: لأنه لا أحدَ أخفّ حِلْمًا وأطيشَ عَقْلاً من الذي يتسببُ في أن يحرقَ نفسَه بالنارِ، فهذا خفيفُ الحلمِ طائشُ العقلِ، لاَ يُعطى له مالُه، فهو السفيهُ بمعنَى الكلمةِ.
وهذا كلامٌ معروفٌ في فروعِ المذاهبِ مشهورٌ؛ ولذا نَسَبَ قومُ هودٍ هودًا إلى خفةِ العقلِ وطيشِه، قالوا: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾
_________
(١) انظر: القرطبي (٥/ ٢٨ - ٣١).
(٢) البيت لابن عاصم المالكي، وهو أحد أبيات تحفته المسماة: (تحفة الحكام) انظر: البهجة في شرح التحفة (٢/ ٢٩٤)، وهو في الأضواء (٢/ ٢٨١).
«إنه لا يزيد ولا ينقص، وإنما ذلك بحسب التعلقات» قول لا يخفى بطلانه على متأمل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾.
﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ التوكل على الله هو: الثقة به (جل وعلا) وتفويض جميع الأمور إليه، فهنا ذكر من صفات المؤمنين أولاً: الخوف من الله (جل وعلا)، والثانية: زيادة الإيمان، والثالثة: تفويض الأمر إلى الله والتوكل عليه في كل شيء.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقول طالب العلم: إن الله (جل وعلا) ذكر في هذه الآية الكريمة من صفات المؤمنين أنهم إذا سمعوا ذكر الله ﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي: خافت قلوبهم، مع أنه ذكر في موضع آخر أن ذكر الله يكون سببًا لطمأنينة القلوب، كما قال تعالى: ﴿وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: الآية ٢٨] قالوا كيف جمع بين الوجل والطمأنينة عند ذكر الله؟!
والجواب عن هذا (١) مشهور عند العلماء لا إشكال فيه، وهو أن الطمأنينة إنما تعتري قلوبهم إذا سمعوا ذكر الله لما انشرحت له صدورهم من معرفة الحق وتيقُّنه، فقلوبهم مطمئنة غاية الطمأنينة إلى معرفة الحق، عالمون أنه حق لا يخالجهم شك، ومع هذا يخافون من الله أن لا يتقبل منهم أعمالهم ونحو ذلك، وهذه صفة المؤمنين يطمئنون باليقين ويخافون ربهم (جل وعلا). وهذا معنى قوله: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: الآية ٢].
_________
(١) انظر: تفسير القاسمي (٨/ ٩).
(... ) (١) بهمزةٍ محققةٍ، وقرأه ورشٌ وحدَه عن نافعٍ: ﴿إنما النسيُّ زيادة في الكفر﴾ [التوبة: آية ٣٧] بياءٍ مشددةٍ، وما زَعَمَهُ بعضُهم - وقال به ابنُ جريرٍ - من أن قراءةَ ورشٍ هذه عن نافعٍ غَلَطٌ (٢). خلافُ التحقيقِ، بل هي قراءةٌ سبعيةٌ صحيحةٌ لاَ كلامَ فيها، قرأ بها ورشٌ عن نافعٍ ﴿إنما النَّسِيُّ زيادةٌ في الكفرِ﴾ أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً، ثم أُدْغِمَتِ الياءُ في الياءِ كما يقرأ بعضُ القراءِ: ﴿النبيء﴾ بالهمزةِ وبعضُهم يقرأُ ﴿النبيُّ﴾ (٣) بتشديدِ الياءِ (٤).
وقرأَ قولَه: ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قرأه نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو وابنُ عامرٍ وشعبةُ عن عاصمٍ: ﴿يَضِلَّ به الذين كفروا﴾ بفتحِ الياءِ وكسرِ الضادِ، مضارعُ (ضَلَّ يَضِلُّ) مُجَرَّدًا لاَزِمًا، وقرأه حمزةُ والكسائيُّ وحفصٌ عن عاصمٍ: ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بِضَمِّ
_________
(١) ذهب جزء من التسجيل في هذا الموضع، ويمكن أن نستدرك بعض النقص فننقل القراءات الواردة في ﴿النسيء﴾ عن كتاب «السبعة» لابن مجاهد ص٣١٤، حيث يقول: "اتفقوا على همز ﴿النَّسِيءُ﴾ ومده وكسر سينه، إلا ما حدثني به محمد بن أحمد بن واصل، عن محمد بن سعدان، عن عبيد بن عقيل، عن شبل، عن ابن كثير أنه قرأ: ﴿إنما النَّسْءُ زيادة﴾ في وزن (النَّسْعُ). وحدثني ابن أبي خيثمة، وإدريس، عن خلف، عن عبيد، عن شبل، عن ابن كثير أنه قرأ: ﴿إنما النَّسِيُّ﴾ مشددة الياء غير مهموزة. وقد رُوي عن ابن كثير: ﴿النَّسْيُ﴾ بفتح النون وسكون السين وضم الياء مخففة. والذي قرأت به على قنبل: ﴿النَّسِيءُ﴾ بالمد والهمز مثل أبي عمرو. والذي عليه الناس بمكة، ﴿النَّسِيءُ﴾ ممدودة» اهـ.
(٢) تفسير ابن جرير (١٤/ ٢٤٤).
(٣) تقدمت عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام.
(٤) انظر: البحر المحيط (٥/ ٣٩)، الدر المصون (٦/ ٤٦).


الصفحة التالية
Icon